اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

قصة: عامل النظافة الحكيم


الشيخ علي حمادي

تقاسمَ مع زوجته آخر نصف رغيف. أنهى فطوره المتواضع وانطلق إلى يومٍ جديد من العمل الشاقّ والمتعب. يلتقطُ النفايات من الطرقات ويجمعها في عربته الخضراء التي يجرّها معه أينما ذهب.
ماهرٌ هو اسمه.. وهو ماهرٌ في عمله، يحبّه ويؤمن به وبأهميّته. ولكن كمثل أيّ عمل في العالم هناك الجزء السيّئ الذي لا بدّ منه. جزءٌ صعبٌ وقاسٍ، تتمنّى لو لم يكن موجوداً.


لم يكن هذ الجزء كَثرة السّير نهاراً في حرّ الهجير أو البرد القارس، ولا كَثرة الروائح الكريهة، ولا الانحناء الدائم الذي يكسر الظهر، ولم يكن بعض النظرات المحتقِرة لأصحاب النفوس المريضة، فكلّ هذه الأمور اعتادها ماهر وكثير من رفاقه من عمّال النظافة.
الجزء المؤلم في الحقيقة، هو في كلّ لحظةٍ يلتقط فيها طعاماً مرمياً من على الأرض، أو عندما يرى أحدهم يرمي ما تبقّى من طعامه، الذي قد يكون نصفه وربّما أكثر.

صادفَ أنّ نطاق عمله في شارع فيه العديد من المطاعم، فيحدث أن يرى من زجاج المطعم كل يوم عشرات الأطباق ممتلئةً، ليخلّفها البَطِرون الذين يطلبون ما يفوق حاجتهم بكثير من الأصناف والأنواع، لتنتهي في مكب النفايات. يمرُّ المشهدُ أمامه عشرات المرات، ولكنّه مع ذلك يقف في كل مرةٍ لحظةً يتأمّل ويفكّر.. بدءاً من الرزق الذي تنزله السّماء كلّ حين، إلى المرزوق الذي يستسهلُ رمي طعامه في سلّة المهملات، وصولاً إلى المتسوّلين الذين يشاهدهم يوميّاً أمام المطعم، ولا يُسمح لهم بالدخول بالتأكيد، أو على الطريق يلحقون السيارات، أو يجلسون على الأرصفة يتسوّلون ثمن رغيفٍ لهم ولأطفالهم، لينتهي به التفكير في بيته وزوجته التي تشاركه نصف الرغيف بكل قناعة وامتنان. أين العدالة إذاً؟ يسأل نفسه.. ولماذا الفقر يا الله؟!

هو يؤمن بالله وعدالته، ولكن لا يجد جوابَ "لماذا لا يشبع الجميع؟"، ولا يجد مهرباً من مشاعره الغاضبة.
ثم يتابع عمله وهو يقول: لقد نظّفتُ شوارعكم ألف مرّة، ولكن أنّى لي أن أنظّف قلوبكم والعقول؟! حتى شاهد شاباً يرمي بقيّة طعامه على الأرض. سارع إليه، بادره بسؤاله: أرجو المعذرة ولكن لماذا؟
- لماذا ماذا؟
- لماذا رميت الطعام؟!
- لقد شبعت والحمد لله. هل تريدني أن آكل حتى التخمة؟! هذا لا يجوز.


بعد دقائق تقدّم نحو رجلٍ آخر ضخمٍ وبدين، شاهده يرمي شطيرة كاملةً لم يتناول منها سوى قضمة واحدة فقط.
- ألستَ جائعاً؟! لا يُعقل أن تكون قد شبعتَ من لقمة واحدة!
- "كلا لم أشبع". تابع البدين جوابه: لكنّ ذاك الطبّاخ الغبي نسيَ أن يضع "الميونيز" في شطيرة "الفرانسيسكو"! لا يمكن أبداً أن تأكل "فرانسيسكو" بدون الميونيز أليس كذلك؟! وغادر الرجل البدين وهو يضحك.


بقي ماهر واقفاً أمام المطعم في حيرة للحظات، حتى قرّر الانصراف، فلمحَ بطرف عينه شاشة التلفاز الكبيرة التي تضيء داخل المطعم، تبثُّ خبراً عاجلاً عن لقاء مهم لرئيسَي دولتَين كبيرتين وغنيّتين، يجلسان على مائدة الطعام ويتناولان الغداء، وأمام كلّ واحد منهما طبقٌ واحدٌ فقط، بالكاد فيه ما يكفي كلّاً منهما.

شعر بهذه اللحظة أنّ عدالة السماء تجيبه عن سؤاله في هذا المشهد المعبِّر. فقد أدرك الآن أحد أهمّ أسباب الفقر في بلاده والذي يبدو أننا لن ننجوَ منه ما لم تتوقف ثقافة الإسراف قريباً.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع