غادة محمّد الصيلمي*
لم يعد الذكاء الاصطناعيّ مجرّد حكايةٍ عن آلةٍ تُحاكي التفكير، بل أصبح مرآةً وجوديّةً يتأمّل فيها الإنسان ذاته، مستعيداً عبرها سؤاله الأزليّ عن ماهيّته ومصيره. إنّنا لا نشهد ثورة أدواتٍ عابرة فحسب، بل نعيش انعطافةً عميقةً في الوعي الإنسانيّ؛ إذ تتحوّل كلّ نقلةٍ تقنيّةٍ إلى سؤالٍ فلسفيٍّ جوهريٍّ عن كينونتنا: من نحن؟ وما الذي لا يمكن استبداله فينا مهما بلغ ذكاء الآلة؟ وما التحوّلات التي ستطال عمليّة تعلّم الإنسان وبناء معرفته ووعيه؟
لكي نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، يتوجّب علينا أن نقوم برحلة خماسيّة الأبعاد لتأصيل دور التربية في عصر الذكاء الاصطناعيّ، حيث إنّنا اليوم في مرحلة تاريخيّة لإعادة تعريف القيمة المُضافة للإنسان، في عالم يُصبح فيه المُتقن مؤتمناً.
أوّلاً: الإنسان في مواجهة الاستبدال
منذ أن أشعل الإنسان أوّل شرارةٍ للنار، بدأ حلمه القديم بأن تُنجز الآلة ما يُثقل الجسد. من العجلة إلى البخار، ومن الكهرباء إلى الحاسوب، ظلّ السؤال يتطوّر: هل يمكن للآلة أن تعمل بالنيابة عنّا؟ ثمّ صار السؤال أعمق: هل يمكن للآلة أن تفكّر؟
ذلك السؤال الفلسفيّ الذي طرحه آلان تورنغ (Alan Turing) في العام 1950م في مقالته الشهيرة «Computing Machinery and Intelligence» لم يكن مجرّد تأمّل نظريّ، بل بداية صراعٍ بين الذكاء الرمزيّ والذكاء الوجوديّ؛ أي بين من يرى في الآلة عقلاً ثانياً، ومن يرى فيها خطراً يهدّد الإنسان بنسيان ذاته.
على الرغم من التسارع الهائل في القدرات الخوارزميّة، لا يكمن التمايز الجوهريّ بين الإنسان والآلة في سرعة الحساب ولا في ضخامة البيانات المعالجة، بل في عمق المعنى ودفء الوعي. فالذكاء البشريّ يتغذّى على الدهشة والعاطفة والتجربة المتراكمة، ويتعلّم من الألم والفقدان، أمّا الذكاء الاصطناعيّ، فيتعلّم من الأنماط والاحتمالات الإحصائيّة فحسب. الإنسان يُبدع لأنّه يشعر ولديه حسّ جماليّ أصيل، بينما الآلة تُنتج لأنّها تُبرمَج بالبيانات وتُغذّى بها. وإلى الآن، ليس بإمكان الآلة أن تحاكي مهارة الإنسان في الإبداع الأصيل، والتعاطف، والوعي الأخلاقيّ، والحسّ الجماليّ، والتفكير الفلسفيّ. وهذه المهارات هي التي تُفضي إلى الحكمة لا إلى مجرّد الأداء المبنيّ على الدقّة والكفاءة.
وعليه، فإنَّ الخطر الأكبر لا يكمن في أن تُفكّر الآلة، بل في أن يكفّ الإنسان عن التفكير. وفي هذا السياق الفلسفيّ الوجوديّ تحديداً، يبرز مبدأ الاحتمالات الثلاثة (Goldilocks Principle)(1) الذي يدعو إلى الاتّزان الدقيق بين الإفراط التقنيّ والانكماش الإنسانيّ، كي تظلّ التقنيّة وسيلةً للرقيّ والإعلاء، لا غايةً للهيمنة أو الاستبدال.
ثانياً: تحوّل الفكر التقنيّ ومنطق المعرفة
لم يكن الوصول إلى الذكاء التوليديّ قفزةً مفاجئةً في تاريخ التكنولوجيا، بل كان مساراً تطوّريّاً متدرّجاً رسم ملامح ثلاث مراحل كبرى في علاقتنا بالتقنيّة: فبعد مرحلة الأتمتة – في القرن التاسع عشر - التي دشّنها جيمس واط(2) (James Watt) بمحرّكه البخاريّ، جاءت مرحلة المحاكاة في منتصف القرن العشرين مع أعمال مارفن مينسكي (Marvin Minsky) وجون مكارثي (John McCarthy)، إلى أن بلغنا اليوم مرحلة الذكاء التوليديّ (Generative AI) التي دشّنتها النماذج اللغويّة الضخمة، مثل Chat GPT وGemini وClaude.
أفرز هذا التحوّل الأخير انقلاباً جوهريّاً في منطق المعرفة ذاته؛ إذ غدت احتمالاً يُولَد بعد أن كانت مجرّد محتوى يُحفَظ ويُسترجَع. في السابق، كنّا نبحث عن الإجابة الموجودة، أمّا اليوم، فنحن أمام توليد لإجابات محتملة. نتيجة لذلك، لم تعد الخوارزميّة أداة استرجاع فقط، بل تحوّلت إلى شريكٍ مصطنعٍ يشارك في التفكير والإنتاج، ما يوجب علينا تنمية مهارات طرح الأسئلة النقديّة، إلى جانب البحث عن المعلومة. بذلك، يتحوّل دور المتعلّم من متلقٍّ سلبيٍّ إلى مُشاركٍ فاعلٍ في إنتاج المعرفة، ويتغيّر دور المعلّم من ناقلٍ إلى مهندسٍ للوعي ومُيسّرٍ للإدراك. فلم تعد الغاية التربويّة أن ندرّب الإنسان على كيفيّة استخدام الآلة بكفاءة، بل أن نعلّمه كيف يظلّ إنساناً يمتلك الوعي الأخلاقيّ والتفكير الفلسفيّ على الرغم من هيمنة الآلة، لأنّ التعليم الحقيقيّ لا يكمن في نقل المعرفة، بل في خلق الوعي الذي يحسن استخدامها وتوجيهها.
ثالثاً: من نقل المعرفة إلى إيقاظ الوعي
يشهد التعليم في أيّامنا هذه تحوّلاً بنيويّاً جذريّاً يمسّ غايته وفلسفته وأدواته ومكوّناته الجوهريّة كافّة، فقد تغيّر معنى «أن نتعلّم» و«أن نُعلّم». وقد أكّدت تقارير دوليّة متعدّدة، صادرة عن اليونسكو (UNESCO) ومنظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية (OECD) منذ العام 2021م، أنّ الذكاء الاصطناعيّ سيعيد تشكيل ما يزيد على ثمانين بالمئة من مهن التعليم بحلول العام 2030م. هذه التحوّلات تفرض علينا إعادة تعريف العناصر الجوهريّة للعمليّة التعليميّة على النحو الآتي:
يُظهر هذا التحليل البنيويّ أنّ التحوّل يكمن في الابتعاد عن فلسفة السيطرة والتحكّم، والتوجّه نحو التمكين والمشاركة. فالصفّ في عصر الذكاء الاصطناعيّ لم يعد مجرّد جدرانٍ صامتةٍ تُلقَّن فيها المعرفة، بل أضحى منظومةً ذكيّةً متكيّفةً نابضةً بالتفاعل. والكتاب المدرسيّ لم يعد المصدر الأوحد، بل نافذةً تُشرّع على احتمالاتٍ لا نهائيّةٍ من المعرفة. من هنا، يتعاظم دور المعلّم ليغدو حارساً للمعنى ومهندساً للوعي، يقود الرحلة المعرفيّة من المعلومة المُجرّدة إلى الفهم العميق، ومن التقنيّة العابرة إلى الحكمة الباقية. إنَّ هذه الأدوار الجديدة، التي تضع الوعي والقيمة في مركز العمل، لا يمكن لها أن تُؤدَّى بفعاليّة من دون تبنّي قيادةٍ أخلاقيّةٍ حكيمةٍ تتعامل مع التحدّيات الجسيمة التي تفرضها الخوارزميّات، أو توحيد المسار الثقافيّ.
رابعاً: حراسة المعنى في زمن الخوارزميّات
تُعدّ القيادة الأخلاقيّة في زمن الأتمتة ركيزةً أساسيّةً وليست ترفاً تربويّاً، فهي صمّام أمانٍ يحول دون تحوّل التقنيّة إلى سلطةٍ ناعمةٍ تستعبد الوعي. فكلّ خوارزميّةٍ تُستخدم في التعليم تعكس رؤيةً للعالم، ويحمل كلّ قرارٍ آليٍّ في طيّاته قيمةً أخلاقيّةً، ظاهرةً كانت أم خفيّة. لذلك، يجب على المؤسّسات التعليميّة مواجهة التحدّيات الآتية بوعي نقديّ:
في هذا السياق تحديداً، يتجلّى خطرٌ أعمق كثيراً ممّا يُتصوّر؛ إذ إنَّ الأنظمة الكبرى للذكاء الاصطناعيّ المُقدَّمة عالميّاً ليست محايدةً بطبيعتها، بل تعكس مسعىً لتوحيد المسار الثقافيّ وفرض نمطٍ معرفيٍّ مهيمن يصدر من مختبرات وادي السيليكون(3) (Silicon Valley). تُصاغ الخوارزميّات وتُغذّى بالبيانات ضمن سياقاتٍ ثقافيّةٍ واقتصاديّةٍ محدّدة، ومن ثمّ، يصبح الذكاء الاصطناعيّ حاملاً خفيّاً لـ «الهيمنة الثقافيّة الناعمة». هذه الهيمنة لا تتحقّق بالسيطرة العسكريّة أو السياسيّة، بل عبر إعادة تشكيل الوعي الإنسانيّ بما يتوافق مع منظومةٍ فكريّةٍ عالميّةٍ واحدة.
تتضاعف بذلك مسؤوليّة التربية في الشرق وفي العالم العربيّ لتُبقي للتعليم دوره الجوهريّ بوصفه مقاومةً فكريّةً تحفظ التعدّد الثقافيّ، وتحمي الهويّة من التوحيد المعرفيّ المفروض خوارزميّاً. وفي خضمّ هذا التسارع الرقميّ وتبدّل المرجعيّات، يجب أن تبقى المدرسة -مهما تغيّر شكلها أو اسمها- حارساً للمعنى وسط زحام الاحتمالات، لتغرس في طلّابها ملكتَين متلازمتَين: الأولى هي إتقان استخدام التقنيّة، والثانية هي التفكير النقديّ والأخلاقيّ الواعي فيها. إنَّ الحفاظ على هذا التوازن الأخلاقيّ والفكريّ هو المدخل الوحيد لمستقبل لا يخصّ الآلة وحدها، بل يتعلّق بالشراكة الواعية بينها وبين الإنسان، أي عصر الذكاء المعزّز(4).
خامساً: من الذكاء الاصطناعيّ إلى الذكاء المعزّز
إنَّ المستقبل ليس حكراً على الآلة وحدها، ولا هو امتيازٌ للإنسان منفرداً، بل هو ملكٌ للشراكة الواعية بينهما؛ إنّه عصر الذكاء المعزّز، بحيث تُصبح التقنيّة امتداداً للإنسان، فتعزّز قدراته المعرفيّة ومهاراته التحليليّة، وليست بديلاً يحلّ مكانه. هذا النموذج يعترف بالدور الحاسم للإنسان كـ «مدير للنظام» يمتلك البصيرة الأخلاقيّة والحدس الذي لا يمكن للآلة محاكاته. فقد تستطيع أدوات الذكاء الاصطناعيّ أن توفِّر الأداء الأكثر كفاءةً والمحاكاة المتقَنة للعمليّات بدقّة فائقة، بينما يبقى التعليم الإنسانيّ الأصيل المصدر الوحيد الذي يُنشئ الحكيم وصاحب البصيرة. لذلك، يُعدّ التعليم الحقّ بمثابة دفاع فكريّ في مواجهة التماثل والتكرار الذي تفرضه الخوارزميّات، وهو يمثّل ملجأً للعقل في خضمّ عالمٍ رقميٍّ خالٍ من العاطفة. وفي حين قد تتمكّن الآلة من أن تُنجز كلّ مهمّة توكل إليها، يبقى الإنسان وحده القادر على أن يُحبّ، ويتأمّل، ويصنع المعنى العميق الذي يُعطي قيمة لوجودنا.
خلاصة الرحلة
ليس هدف الذكاء الاصطناعيّ أن يسألنا: ماذا نعرف؟ بل أن يفرض علينا السؤال الأعمق: كيف نعرف؟ إنَّ التحدّي الحقيقيّ أمام المعلّم اليوم لا يكمن في تعلّم الأدوات التقنيّة، بل في صون جوهر الإنسان داخل البيئة الذكيّة. ففي زمنٍ تتكلّم فيه الآلات بطلاقة متناهية، يظلّ التعليم منظومةَ الوعي الإنسانيّ الأسمى؛ لأنَّه اللحظة التي يتحوّل فيها الفهم إلى بصيرة، والمعرفة إلى مسؤوليّة، والفكر إلى فعلٍ أخلاقيٍّ يُعيد للإنسان مركزه القياديّ في عالمٍ تتقاسمه الخوارزميّات.
وعليه، تكمن مسؤوليّة العاملين في المجال التربويّ باختلاف أدوارهم ومسؤوليّاتهم في العمل على:
1. القيادة بالوعي لا بالمعلومة، والعمل على تحقيق مبدأ التوازن.
2. حماية الجوهر الإنسانيّ وتنمية المهارات الإنسانيّة غير القابلة للاستبدال.
3. ممارسة التعليم بوصفه مقاومة فكريّة وفعلاً للتحرّر من سيطرة الثقافة الواحدة.
وفي الختام، رسالتي إلى المعلّمين خصوصاً: كونوا معلّمي وعيٍ لا معلّمي أدوات، استخدموا التقنيّة بذكاء، ووجّهوا المتعلّمين نحو التفكير، لا الاستهلاك. مارسوا إنسانيتكم ونمذجوا توظيف المعرفة في سبيل الحفاظ على إنسانيتكم؛ لأنّ ذلك أعظم ما يمكن أن تفعلوه في عصر الذكاء الاصطناعيّ.
* مدرّبة جامعيّة.
(1) معيار فلسفيّ ومنهجيّ لتبنّي التقنيّة، مستوحى من حكاية «غولديلوكس والدببة الثلاثة»، ويدعو إلى تبنّي المنهج الأمثل بين الإفراط والتفريط.
(2) مخترع، ومهندس ميكانيكيّ، وكيميائيّ اسكتلنديّ ذائع الصيت، اشتهر على نطاق واسع بفضل التعديلات الكبيرة التي أجراها لتحسين كفاءة المحرّكات البخاريّة وفعاليّتها، خاصّةً من حيث التكلفة.
(3) هي المجمّعات التقنيّة الأكثر شهرة وتأثيراً في العالم، وتقع في الجزء الجنوبيّ من منطقة خليج سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكيّة.
(4) الذكاء المعزّز (Augmented Intelligence) هو مزيج من الذكاء الاصطناعيّ والذكاء البشريّ. ورد هذا المصطلح في مقال منشور بهارفارد بعنوان: «هل يجب أن يزيد الذكاء الاصطناعيّ من الذكاء البشريّ، أم أنّه يحلّ مكانه؟».