الشيخ علي متيرك
في عصر السرعة العلميّة والتقنيّات المتطوّرة، أصبح الذكاء الاصطناعيّ أحد أهمّ مفاصل القوّة التي تحدّد مسار الدول ومستقبل الجماعات. وقد أولى الإمام الخامنئيّ دام ظله اهتماماً بالغاً بهذه القضيّة، مؤكّداً أنّها ليست مجرّد أداة إضافيّة أو ترف علميّ، بل عامل محوريّ في التنافس العالميّ، وصناعة القرار، والقدرة على التأثير.
وقد شدّد سماحته على ضرورة التعامل مع هذه التقنيّة بوعي استراتيجيّ، لا بمجرّد التفاعل السطحيّ أو الانتفاع العابر، ليصير للأمّة حضور فعّال وإسهام مبدع في مسيرة التقدّم، لا أن تظلّ مستهلكة فحسب.
* الذكاء الاصطناعيّ في موقع القضايا المصيريّة
لا ينظر الإمام الخامنئيّ دام ظله إلى الذكاء الاصطناعيّ على أنّه مجرّد إنجازٍ أو تطوّرٍ علميّ، بل بوصفه عاملاً حاسماً في التحكّم بمستقبل العالم، ففي قوله دام ظله: «أقترح أن يكون الذكاء الاصطناعيّ واحداً من القضايا التي يجري التركيز عليها، والاهتمام بها، والتعمّق فيها؛ إذ سيكون له دورٌ في التحكّم في مستقبل العالم»(1)، يضع الإمام هذا المجال في صدارة الأولويّات الاستراتيجيّة، قائلاً: «علينا أن نعمل بما يجعلنا -على الأقلّ- في عِداد الدول العشر الأُوَل في العالم في قضيّة الذكاء الاصطناعيّ، فنحن لسنا كذلك اليوم»(2).
يكشف هذا التوجّه عن رؤية بعيدة المدى، ترى أنّ امتلاك أدوات الذكاء الاصطناعيّ شرط للسيادة والاستقلال في المستقبل القريب، تماماً كما كان امتلاك الطاقة النوويّة قبل عقود شرطاً للاستقلال الصناعيّ.
* الدعوة إلى المبادرة الفاعلة
في مواجهة الانبهار بالتطوّرات العلميّة الغربيّة، يحذّر الإمام الخامنئيّ دام ظله من الوقوع في فخّ الانفعال؛ إذ يجب أن تكون الأمّة مؤثّرة في مسار التطوّرات العلميّة، يقول: «ثمّة قضايا متنوّعة تحدث في العالم، سواء أكانت سياسيّةً أم علميّةً، أو من حيث التقدّم والابتكارات العلميّة المذهلة والعجيبة -الذكاء الاصطناعيّ على سبيل المثال-؛ تعاملوا مع الأمر بنحوٍ فعّال ومؤثّر، وليس بنحوٍ منفعل. لا تجوز الغفلة والتغافل عمّا يحدث في العالم والمنطقة»(3).
إنّه يدعو إلى عقلٍ مبادر ومؤثّر، يشارك في التخطيط وصناعة القرار، لا إلى عقلٍ متلقٍّ ومنفعل؛ ليصبح الذكاء الاصطناعيّ جزءاً من استراتيجيّة الوعي والإنتاج المعرفيّ للأمّة.
* عمق التقنيّة واستقلال الإرادة
في تحليلٍ بالغ الأهمّية، يُحذّر الإمام الخامنئيّ دام ظله من الاقتصار على الانتفاع السطحيّ بالذكاء الاصطناعيّ، ويدعو إلى امتلاك مستويات متقدّمة من التقنيّة التي تحتكرها بعض الدول، وهي التي تحدّد مستقبل الاستفادة والتحكّم، فيقول: «مختلف أجهزتنا الآن، العسكريّة وغيرها، تستفيد من الذكاء الاصطناعيّ، وتنتفع به، لكن يجب أن لا يخدعنا هذا الأمر؛ إذْ لا يُعَدّ مجرّد الانتفاع امتيازاً في هذه القضيّة، فهذه التقنيّة لها مستويات عميقة ينبغي إتقانها»(4).
إنّه تحذير من الوقوف عند حدود الاستهلاك التقنيّ، والدعوة إلى الوصول إلى مستوى التصميم والتحكّم في البنية التحتيّة للتقنيّة.
يذهب الإمام أبعد من ذلك، حين يكشف عن خطّة محتملة لإنشاء وكالة دوليّة للذكاء الاصطناعيّ على غرار «الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة»، تديرها القوى المهيمنة لفرض وصايتها على التكنولوجيا. هذه الرؤية الاستباقيّة تعبّر عن وعيٍ سياديٍّ عميقٍ بالمخاطر المستقبليّة التي تهدّد استقلال الأمم علميّاً وتقنيّاً، يقول دام ظله: «وإذا لم تتمكّنوا من فهم المستويات العميقة والمتنوّعة لهذه التقنيّة، والحصول عليها، فإنّهم سيؤسّسون هيئة للذكاء الاصطناعيّ، شبيهة بالوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة، وهم يضعون الأسس لذلك حاليّاً، فإذا أردتم [مثلاً] الوصول إلى تلك المرحلة، يتعيّن عليكم الحصول على إذنٍ لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ في القطاع الفلانيّ، ولا يحقّ لكم الاستفادة منه في القطاع الفلانيّ الآخر، هكذا ستكون الحال. هذا ما يسعى إليه الدهاة في العالم، وحينها، لن يسمح لكم المنتهزون للفرص، والساعون إلى الهيمنة في العالم، بتخطّي هذه العتبة»(5).
* تأسيس البنى التحتيّة الوطنيّة
تتجاوز رؤية الإمام دام ظله حدود التنظير الفكريّ لتطال التنفيذ العمليّ، إذ يشير بوضوح إلى ضرورة بناء منظومة وطنيّة متكاملة للذكاء الاصطناعيّ، تشمل التعليم والبحث العلميّ والمختبرات والتطبيقات العمليّة، لضمان استقلاليّة الأمّة وعدم تبعيّتها لأيّ جهة خارجيّة، فيقول دام ظله: «يجب عليكم أن تَصِلوا بأنفسكم إلى التقنيّات العميقة والأساسيّة لهذه القضيّة، ومستويات البنية التحتيّة لها. يجب أن تتابعوا [تأسيس] البنى التحتيّة للذكاء الاصطناعيّ في البلاد، فليتابع المسؤولون عن هذه القضايا هذه الأمور. بالطبع، في عهد الحكومة الثالثة عشرة، شُكّلت منظّمة تُسمّى (المنظّمة الوطنيّة للذكاء الاصطناعيّ)، تحت إشراف رئيس الجمهوريّة، كانت هذه خطوة جيّدة، لكنّ العمل بقيَ ناقصاً مع الأسف»(6).
هو بذلك يذكّر بضرورة ترجمة الرؤية الفكريّة إلى خطّة تنفيذيّة دائمة، تُتابَع على أعلى المستويات الحكومّية، لتضمن للأمّة استقلاليّتها في صناعة المستقبل.
* المستقبل بين أيدينا
إنّ رؤية الإمام الخامنئيّ دام ظله تؤكّد أنّ الذكاء الاصطناعيّ ليس مجرّد أداة تقنيّة، بل استراتيجيّة للبقاء والتأثير. ولتحقيق الريادة، يجب الجمع بين الوعي الاستراتيجيّ والإتقان العلميّ والتمسّك بالقيم الوطنيّة؛ وبذلك، تصبح الأمّة فاعلة في صناعة المستقبل، لا مجرّد مستهلكة للتقنيّات، وتحقّق التقدّم العلميّ والحضاريّ بما يتوافق مع هويّتها وهدفها الأخلاقيّ.
إنّها معركة الوعي والسيادة المعرفيّة التي لن تنتصر فيها الأمّة إلّا إذا امتلكت قرارها العلميّ، وشاركت بفاعليّةٍ في صناعة أدوات المستقبل.
* التحوّل في الوسائل لا في المبادئ
في الختام، إنّ من أبرز معالم فكر الإمام الخامنئيّ دام ظله في هذا المجال تأكيده أنّ التقدّم العلميّ يتطلّب تطوير أدوات العصر، لكن من دون المساس بثوابت الصراع الحضاريّ بين الحقّ والباطل، يقول دام ظله: «لا شكّ أنّه في عصر الذكاء الاصطناعيّ والكمّ(7) والإنترنت وأمثال هذا التقدّم العلميّ، لا يمكن العمل بأساليب الأعوام الأربعين السابقة نفسها، [أي] عصر الهواتف وأجهزة تسجيل الصوت الفلانيّة. من الضروريّ، اليوم، اختيار الأدوات التي تناسب الزمن لتحقيق هذا الهدف؛ فالأدوات تتغيّر، لكن ما لا يتغيّر هو الاصطفافات»(8).
بهذه العبارة العميقة والدقيقة، يبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله الفرق بين تبدّل الأدوات وثبات المبادئ؛ فالعصر الرقميّ يفرض وسائل حديثة في الدعوة والإعلام والإدارة والبحث العلميّ، بينما تبقى خطوط المواجهة بين المستضعفين والمستكبرين، وبين قوى العدالة وقوى الهيمنة، ثابتة لا تتغيّر.
بذلك، يضع الإمام الخامنئيّ دام ظله الذكاء الاصطناعيّ ضمن معركة الوعي الكبرى، لا بوصفها قضيّة علميّة بحتة، بل بوصفها عنصراً أساسيّاً في الجهاد الحضاريّ الحديث، يربط بين العلم والقِيَم، وبين التقدّم التقنيّ والسيادة الأخلاقيّة والمعرفيّة للأمّة.
(1) من كلامٍ له دام ظله، بتاريخ 17/11/2021م.
(2) المصدر نفسه.
(3) من كلامٍ له دام ظله، بتاريخ 28/07/2024م.
(4) من كلامٍ له دام ظله، بتاريخ 28/08/2024م.
(5) المصدر نفسه.
(6) من كلامٍ له دام ظله، بتاريخ 28/08/2024م.
(7) Quantum.
(8) من كلامٍ له دام ظله، بتاريخ 04/06/2023م.