نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الإمام علي بن أبي طالب وحقوق الإنسان


زينب الطحان

بدأ استخدام مصطلح التعدّدية الثقافية في الولايات المتحدة خلال الثمانينات من القرن الماضي للإشارة إلى مجتمع مثالي، لتعايش ثقافات متنوعة باحترام متبادل. وكانت التعدّدية الثقافية طموحاً لدى من يمثلون أو ينطقون باسم الأقليات المختلفة، لأنها تضفي الشرعية على انتمائهم الثقافي المختلف، وتمنح الاعتراف بخصائصهم الثقافية المتمايزة. لكن ظهر هناك تباين في المواقف حول المقصود من قبول الاختلاف والاعتراف بالخصوصية الثقافية.

يفوت التاريخ، ومن يكتب التاريخ، أن هذه الإشكالية ظهرت في قرون سابقة، وكان أول من سعى لتنظيمها اجتماعياً وثقافياً وضمن أطر سياسية منفتحة على الآخر المختلف علي بن أبي طالب عليه السلام. تجلّيات هذه الحقيقة يوردها كتاب "الإمام علي بن أبي طالب وحقوق الإنسان". وقد يكون هذا الكتاب من الكتب القليلة التي تلقي الضوء على الفقه السياسي عند الإمام عليه السلام.
المؤلف هو الدكتور حسن الزين، والده المؤرخ المعروف الشيخ علي الزين، الذي قد صدرت له مؤلفات مهمة عديدة تصبّ في هذا المضمار. وأهمية الكتاب تبرز في أنه يقدم للتاريخ بموضوعية لافتة ويعتمد في تفسير وتقييم التاريخ والفكر العلم والموضوعية ولا سيما في وصفه للظروف الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي ترافق أو تفسّر القوانين والأنظمة.

*الكتاب يشكّل مرجعاً لأحداث اليوم
الكتاب هو عبارة عن قسمين، يضمّان عدة فصول. القسم الأول يحوي تسعة فصول، تحدّث فيها عن حقوق الإنسان كما عرفها الفقه السياسي الصادر عن الإمام علي عليه السلام في مقارنة مع الفكر السياسي الحديث، وعن الحرية، ومبدأ تساوي المواطنين أمام القانون، ومبدأ تكافؤ الفرص وحق المعارضة السياسية والتعامل مع غير المسلمين وموقفه من الخوارج وقضية عبادة الشخص. في القسم الثاني يتعرض إلى وسائل حماية حقوق الإنسان من تعسف السلطة، وفيه دولة المؤسسات والقانون ومبدأ المشروعية، والحدّ من صلاحيات الحاكمين، والرقابة على أعمال الحكم، وحكم الشعب ودوره في مسيرة الحكم، والتنمية والإعمار والمساءلة والمحاسبة.

يرى المؤلف أن المواضيع التي برزت في هذا الكتاب تتصل بما يسمى اليوم في جميع الأنظمة الديموقراطية العريقة (مرتكزات الديموقراطية) وجميع هذه المرتكزات تتّصل بما يدعى اليوم (حقوق الإنسان). وإذا كان هدف القانون في النظام الديموقراطي حماية حقوق الإنسان من تعسف السلطة، فإنّ الهدف الديموقراطي قد ظهر جليّاً من خلال النظام الذي أقامه الإمام علي عليه السلام لجهة حماية حقوق الإنسان من تعسّف السلطة.

*طبّق مفهوم الحكم دون ظلمٍ لأحد
في مبدأ المعارضة السياسية يقول الكاتب: إن الإمام علياً مارس قولاً وفعلاً مبدأ التعدّدية السياسيّة والثقافيّة، في عهده، وإذ تمّ اختراع هذا المبدأ في العصر الحديث، كيف مارس الإمام ذلك؟ وما الفارق بين هذا التطبيق وبين أفق ما يدّعيه فلاسفة ومفكّرو الحداثة؟

إن كلام الإمام علي عليه السلام وتصرّفاته في مواجهة الظروف التي واجهته قد فصّلت من نظام الحكم الإسلامي ما أضاف جديداً في مواجهة تحديات ذلك العصر وفي ما وضح من المبادئ والمواقف التي أثرت الفكر الإسلامي ولا تزال ولا سيما لجهة حماية حقوق المعارضة السياسية والأقليات السياسية والدينية والعرقية. هذه الحقوق التي لا يزال الكثير منها وحتى يومنا هذا يتلقى الاعتداءات الضارية في الكثير من بلدان العالم الديموقراطي الحديث لا سيما لجهة حقوق الأقليات الدينية التي تقف على حافة الهلاك في بعض الدول المتحضرة.

ويمكن لسائل أن يسأل: كيف لنا أن نفسر حرب الإمام علي عليه السلام ضد بعض معارضيه في ضوء ما يعرضه هذا الكتاب حول أسبقيته في سَنّ مبدأ التعددية السياسية والثقافية؟

إن للحرب في الفقه السياسي عند الإمام علي عليه السلام شروطاً يجب أن تتحقق، وتتمثل في تحقق الفتنة، والدفاع عن النفس أو عن أحكام الشرع. إنه لم يبدأ أحداً بقتال في جميع حروبه حتى أنه في موقعة النهروان مع الخوارج لم يسمح لجيشه ببدء القتال وكذلك في موقعة الجمل، وطبق المبدأ نفسه في حرب صفين وغيرها عبر المفاوضات والمراسلات. وتؤكد الوقائع التاريخية أنها قد فرضت عليه قسراً فكان لا بد من القيام بالواجب للدفاع عن صورة الإسلام الحقيقية، وردها إلى منابعها الأصلية.

*الإمام علي عليه السلام استوعب ظاهرة "التكفير"
وبالطبع لا يغفل الكتاب "ظاهرة الخوارج"، و"مصطلح التكفير"، فالإمام علي هو أول من شهد هذه الحال في حكمه، فكيف تعامل معها؟

إن تعامل الإمام علي عليه السلام مع التكفير كان مثالياً وحضارياً لجهة خضوعه لأحكام الشرع الإسلامي. إذ رأى الإمام أنهم (طلاب حق ضلوا). وجاء في وصيته : "لا تحاربوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه"1. كان خليفة وكانوا من رعاياه ولكنه لم يسجنهم ولم يقطع نصيبهم من العطاء من بيت مال المسلمين.

وقد كان الإمام عليه السلام يبرر عدم التعرض لهم بالقول: "لهم علينا ثلاث أن لا نمنعهم المساجد أن يذكروا الله فيها وأن لا نمنعهم الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا"2. ولا بد أن نذكر أن الإمام عليه السلام رفض السماح لأتباعه بقتل ذلك الخارجي الذي شتمه ووجّه إليه تهمة الكفر أمام ملأ من الناس ولم يسمح بالتعرض لابن الكواء عندما تعرّض له بالتهجّم والتكفير أثناء الصلاة في المسجد.

*مفهوم "الذمي" حُوِّرَ معناه والإمام علي عليه السلام أوصى بإنصافهم
في مسألة العلاقات مع غير المسلمين ما تزال تثار إلى اليوم قضية دفع الجزية للحكومة الإسلامية، والتي تتهم بأنها كانت تمارس ظلماً يجبر غير المسلمين على دفع ثمن إقامتهم في بلاد المسلمين رغم أنهم يساوونهم في المواطنة. وورد في الكتاب أن الإمام علياً عليه السلام قال لولديه الحسن والحسين عليهما السلام في وصيته: ".. والله الله في ذمة نبيكم فلا تظلم بين أظهركم" 3. ويبيّن الكاتب، ولعلها من المحاولات البحثية النادرة التي تلفت إلى هذا التوضيح:

أولاً: إن دفع الجزية حُرّف عن معناه الأصلي، لأن له علاقة بإعفاء أهل الكتاب من بعض ما يلزم به المسلمون بالدفاع عن حياض الإسلام وبلاده ضد الأعداء حماية للجميع من استهدافات الأعداء في الخارج. وقد سبق عند فتح أرمينية أن رفض بعض سكانها دفع الجزية وعرض أن يشارك في الحروب لحماية الجميع من العدو. واشترك المعترضون في القتال وانتهى الأمر بموافقة الفاتحين العرب. وكان أكثر المؤرخين يعرفون الجزية بأنها بدل الحماية التي يقدمها الفاتحون العرب ولا يشارك بها الآخرون.

ثانياً: إن للإمام كلاماً يشير فيه إلى المساواة في الحقوق بين أهل الذمة وبين المسلمين إذ يقول: "دماؤهم كدمائنا" و"دم الذمّي كدم المسلم حرام". إن الواقع الذي كان قائماً عبر التاريخ يظهر أنهم كانوا يتمتعون بامتيازات اقتصادية وغير اقتصادية، ويعترفون بأن عبارة ذمي ترجمت إلى الفرنسية عبر العبارة homme de foe أي صاحب الضمير والشرف، فهي لم تحمل أية إهانة.

*الإمام عليه السلام أكّد على تساوي الجميع
كانت للإمام علي عليه السلام مواقف يشهد لها التاريخ تفيد أنه كان يرفض تعظيمه من المسلمين وغير المسلمين. فمبدأ عبادة الشخص يتناقض مع مبدأ تساوي الجميع أمام أحكام الشرع الإسلامي. لقد أسس عليه السلام أن مبدأ المساواة مقدس وأن مخالفته هي بمثابة مخالفة لأحكام الشرع الإسلامي. أوَليس هذا ما ينطوي عليه موقفه عليه السلام من مستقبليه لدى وصوله إلى مدينة الأنبار إذ ورد (أنه لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار- من النصارى - فترجلوا واشتدوا بين يديه فقال لهم: "ما الذي صنعتموه؟ قالوا: خلق منا نعظّم به أمراءنا، فقال لهم: والله ما ينتفع به أمراؤكم وتشقون به في آخرتكم ما أخسر المشقة وراءها العقاب وأربح الدعة ومعها الأمان من النار" 4.

*الإمام علي عليه السلام سعى في إقامة دولة المؤسسات
أطلق المفكّر الفرنسي بوسويه Bossuet عبارته الشهيرة: "أيها الأمراء إنكم سوف تموتون ولكن دولتكم يجب أن تبقى وتستمر". وهذا الكلام أكثر ما ينطبق على "دولة المؤسسات" التي أقامها الإمام علي خلال تجربته القصيرة.
ويقول الكاتب: إن هذا الأمر يتعلق بنظام يقوم على قواعد تلزم الأفراد ورجال الحكم بالخضوع لنفوذ المؤسسات دائماً، الذي يلغي نفوذ الشخص أو الأشخاص. وهذا النفوذ اختفى في عهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من خلال أحكام الشرع ونواهيه التي حلّت محلّه. ومن هنا لم يتمكن الإمام من مساعدة أخيه بالمال؛ ليسد به حاجته وفاقته وحاجات أطفاله وقال له: "إن المال مال الله". وهذا ما أثار، أيضاً، نقمة أصحابه في موقعة الجمل حين أصرّ على إعادة أموال المحاربين المهزومين إليهم.
باختصار كانت أعمال الإمام علي عليه السلام في الحكم تتمحور كلها حول إعادة بناء المؤسسات القانونية. وساد خضوعه عليه السلام لحكم الشريعة السمحاء كل أقواله وأفعاله وجميع تصرفاته في تعامله مع أصدقائه وأعدائه على السواء.

*الكتاب مهم ولكن...
إن الكتاب الذي يقع في 132 صفحة، قدم رؤية حداثية حول ممارسة الإمام علي عليه السلام للسلطة، وقد وُفّق في نواحي استعراض سيرة هذه الممارسة النادرة في التاريخ الإنساني ومعطياتها الفذّة في التعاطي مع مجريات الحياة وتطوراتها، ولكنه لم يوفق في تقديم مقاربة تاريخية لأحداث معاصرة، مع تعهد القيام به من خلال العنوان الذي ألزم نفسه به. لأن هذا المصطلح حديث وأملته تجارب أمم توصلت إليها بعد أحداث دامية عاشتها عموماً، ولكن حدث أن تصدى لها العالم الغربي تحديداً، وهنا تكمن المفارقة في أنه يُفترض به أن يتعرض لأحداث تاريخية مرّت بها التجربة المعاصرة وهي شبيهة بما حدث في عهد الإمام علي، ليظهر من خلالها كيف تمكّن الإمام من مقاربتها من منظور إسلامي متطور سابق لعصره بقرون.. فقد اكتفى الكتاب بذكر المفاهيم الغربية ومقاربتها نظرياً، دون التوقف عند الفكر العملاني للنظريات وتطبيقاتها. لكنه على الرغم من ذلك قدّم رؤية متطورة حول فكر الإمام علي عليه السلام تستدعي من مؤلفين وباحثين في العالم الإسلامي تطوير هذه الرؤية التحليلية للاستفادة تاريخياً وعملانياً من تجربة رائدة لا تتكرر في التاريخ إلا مع إمام معصوم، نأمل أن نعيشها مع دولة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.


 1.نهج البلاغة، من كلام الإمام عليه السلام، 61.
2.كنز العمال، المتقي الهندي، ج11، ص300.
3.شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي، ج22، ص654.
4.الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ص236.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع