بسم اللَّه الرحمن الرحيم
ود الشهيد السعيد محمد مصطفى حيدر أحمد في بلدة الكرك البقاعية عام 1973م، وترعرع
في بيت هادئ مليء بالمحبة والإيمان، في بيت تظلله الرعاية الإلهية بأجنحة أم حنونة
كانت توفر له كل مستلزمات العمل الجهادي وترفرف ليه بالرفق والرحمة والخير، وتسبره
الألطاف قدماً بتربية صالحة ونشأة رسالية جبارة رغم خراب المجتمع وانحراف الرعية
والمحيط، فكان منذ صغره يتصدق بمصروفه اليومي مجبولاً بالحياء علَّه يأتي ذلك اليوم
الذي يتصدق بدمه وروحه.
وكان لا بد ومنذ بزوغ فجره
المتألق الوهاج أن يتطلع ويدرك ويستخلص العبر، فخلا بنفسه ونأى عن الانحراف والشذوذ
ولم يعرف لهما في حياته طريقاً أو سبيلاً.
وفي لحظة من الزمن وفي ظل احتدام الصراع البشري الدنيوي وكان عوده في بداية
استقامته آلت عليه الغيرة الحسينية الحيدرية إلا أن يغوص في مجالات الحق ويترك
التشعبات والردائف.
فشق بإرادته العلوية طريق المجد الموصل إلى النجاة ومخر عباب البحر الطويل بسفينة
النجاة الحسينية وكانت المحطة الأولى كشافة ولي العصر المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ليكون زهرة فواحة
ثم شبلاً معطاء ثم قائداً مقداماً في وقت كانت شهادات الفوز والتقدير العلمي تلاحقه
أينما حل، وفي هذه الأثناء اتسعت آفاقه وتطلعاته ورأى نفسه متعطشة للتحصيل العلمي
الحوزوي فترك التعلم الأكاديمي بعد أن حصَّل شهادة البكالوريا قسم أول، ليتفرغ
للعلوم الدينية في حوزة الإمام المنتظر. لكن هادي وأمثاله من فتية الإيمان لا يروي
ظمأهم إلا السير في طريق ذات الشوكة طريق العبودية للمعشوق الأعلى فاختصر الطريق
ميمماً وجهه.. شطر الجنوب مبدلاً بدل البيت بيتاً والأهل أهلاً والأحبة أحبة،
وقد التحق بصفوف المقاومة الإسلامية عام 1990، وشارك بالعشرات من المهمات العسكرية الجهادية وخضع لعدة دورات عالية، فلبس فوق رداء العلم لامة الحرب وامتشق سيفه ورمى بصره أقصى القوم، وظل يقارع العدو لسنوات عدة، تارة في عملية طلوسة النوعية وأخرى بالشقيف، وثالثة بالسويداء ورابعة بالأحمدية وغيرها وغيرها من العمليات النوعية المشرّفة حتى أنه شارك في عملية رامية الاستشهادية وقدر له أن يرجع سالماً، وأخيراً وفي ساحة من سوح الجهاد منذ سنين خلت اختار له ربه اللقاء فكان العناق والعشق.
أردت التعرف إلى ذاك
العابد الفارس الممتطي زاوية شرفها جلوسه بوقاره وهدوئه وهيبته. فتفسخت الزوايا
خشوعاً من تسبيحاته الصاعدة من القلب بانسياب بأشعة من نور لتصل إلى البارئ عزّ وجلّ
عبر أريج النبوة وعبق الرياح الآتي لأخذ زاد العشاق الأحبة للَّه ولم لا وهذا الزاد
قطاف مجبول بالألم والجراح والمناجاة في جوف الليل الدامس للقاء اللَّه والأنس
بسرمديته والعفو بين أكناف النور الإلهي الساطع، أترى يا إلهي هل ذاك الجالس في
زاويته المتألق وجهه بنور الرحمة الإلية من بني آدم البشريين أم هو ملاك إنساني
اصطفاه اللَّه عن الأخيار المطهرين مباهياً به ملائكته فكان مقامه أرفع درجة وأسمى
علواً، وتسير بنا الأيام حتى تحطنا معاً في ساحات العز والفخار وفي الليالي المظلمة
القارسة المفعمة بالأنس الجهادي وعند كل استراحة كنا نتناول أطراف الحديث الذي يجري
بنا طويلاً وفي كل سياق، لا يحدثني هادي إلا عن الإخلاص بالنية والعمل، عن هموم
الأمة، عن آلام المضطهدين في العالم، ثم ينهض ويقول ثم يا أخي الدرب شاق وطويل
وأمرنا صعب مستصعب وإياكم أن تهنوا أو تحيدوا عن هذا الدرب.
أخوك الواله للقياك عبد اللَّه
* من وصيته:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
﴿مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
﴾.
أيها الأخوة المجاهدون:
حرروا نفوسكم من نير العبودية لغير اللَّه لأنها لا تكون إلا له سبحانه وتعالى ولا
تأخذكم الشهوات والغفلات والملاهي والملذات فتقيدكم وتحجبكم عن اللَّه تعالى
فتكونوا عمياناً لا تبصرون كما قال سبحانه وتعالى:
﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا﴾
﴿قَالَ
كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى
﴾، فيا لها من مصيبة وحسرة لا تزول ولا تقاس بمصائب وحسرات هذه
الدنيا الدنيّة عندما نستفيق من غفلتنا ونومنا العميق فنجد زادنا فارغاً لقد ذهب
هباءً أو كنا ممن يظن أنه يُحسن الصنع في حياته الدنيا.
أيها الأخوة الأعزاء، أمرنا صعب مستصعب لا يسلكه إلا نبي مرسل أو إمام معصوم أو عبد
امتحن اللَّه قلبه بالإيمان.
إخواني إذا أردنا أن ننصر الإسلام وهو واجبنا فعلينا أن نقدم الدماء والتضحيات، هذه
الدماء هي وقود لثورة واندفاعها نحو الكمال والنصر ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُم
﴾.
أخواتي الشريفات، علينا أن نستمر في جهادنا مع الاستكبار وأذياله، علينا أن نكون
حسينيين وعليكن أن تكن زينبيات، علينا أن نكون مظلومين فننتصر كالحسين في كربلاء لا
أن نكون ظالمين.
إخواني المؤمنين، من عبد مسلم ذليل للَّه عز وجل يكتب الكلمات الأخيرة، فمن منطلق
الرسالة المحمدية والخط الرسالي القويم وخط المقاومة الإسلامية العزيزة أذكركم
أخواني الأعزاء بعهدكم مع اللَّه على أن تبقوا أوفياء عاملين في سبيله وعهدكم الذي
عاهدتم به الإمام الراحل المقدسي وخليفته آية اللَّه الإمام الخامنئي المفدى (حفظه
اللَّه) على أن تبقوا في خطه ونهجه الإلهي المستقيم.
إخواني المجاهدين، اطرقوا أبواب الشهادة فإنها أقصر الطرق إلى اللَّه وأجلّها
وأعظمها إلى رحمة اللَّه ورضوانه ولا ينالها إلا ذو حظ عظيم، فاطلب منكم أن تظلوا
محافظين مدافعين عن ثغور الإسلام وصائنين لدماء الشهداء لأن هذا الدم يسقط بعين
اللَّه ولا يضيع ويُحفظ ويصنع ثورة على مر العصور، إن اليد التي تتوضأ وتقاتل في
سبيل اللَّه مطمئنة لا تهزم أبداً بإذن اللَّه. إن دماء الشهداء أمانة في أعناقنا
يجب الحفاظ عليها وأخيراً أسأل اللَّه تعالى أن يغفر لي ذنوبي ويكفّر عني سيئاتي
وأن لا يفضحني على رؤوس الأشهاد وأن يرزقني شفاعة محمد وآله الطاهرين عليهم السلام.
وأطلب السماح من جميع الأخوة المجاهدين المؤمنين ومن كل شخص يعرفني.
* وصيتي إلى والدي العزيز:
أبي العزيز: أن الخط الرسالي صعب مستصعب ويتطلب مجاهدين وشهداء ومدافعين عن الإسلام
والرسالة المحمدية ورفع راية الحق والعدل ومن ذلك الواجب يتطلب مني كإنسان مسلم أن
أدافع عن الإسلام وأشارك المجاهدين عملهم للدفاع وتحقيق النصر أو الشهادة بإذن
اللَّه تعالى.
والدي العزيز، أعرف أنك تحملت كثيراً وتعبت في تربيتي ودفعت الثمين والرخيص لنبقى
أعزاء فإني أشكر اللَّه الذي جعلني من هذه الذرية الطيبة التي تحب الحق والخير
فاعرف يا أبي أنني اخترت هذا الخط بملء إرادتي ولا أحد أجبرني على أي شيء أو
التصميم على ذلك لكن الوصول إلى رضا اللَّه ورحمته ومغفرته تشدني وتدفعني لذلك
فاستأذنك وأتركك لأذهب عنك إلى المقر الأبدي ونسأل اللَّه أن يجعلني وإياك في جوار
أهل الجنة. وأعرف أنك الأب العطوف والعزيز على قلبي فكنت مقصراً معك كثيراً فسامحني
وترحّم عليَّ ولا تحزن أبداً لأن الذي يموت في هذا الخط وهو راضٍ ربه يكون ابتعد عن
متاهات الدنيا ووسوسة شياطينها من الأنس والجن ومات على الحق.
أبي، استمر في هذه الدنيا وهذه الحياة المتبقية من العمر وأنت مطمئن تعيش حياتك الطبيعية وأرشد أخوتي إلى طريق الصواب والخير وانتبه عليهم من مكائد الشيطان وانجرافات الزمن، وانتبه لأمي الحبيبة التي عانت كثيراً ولا تزال فساعدها على تحمل ذلك فكل من عليها فإن ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وتمسك بولاية القائد للأمة ونائب الإمام عجل الله فرجه الشريف، آية اللَّه الإمام الخامنئي (دام ظله الوارف).