مع الإمام الخامنئي | المبعث حيّ... ونحن مخاطَبون* بأيّ جديد سيأتي الإمام المهديّ عجل الله فرجه؟ * أخلاقنا | لا تُفسد قلبك بالحسد (1)* الشهيد سليماني...كيف قدّمته الصحافة العالميّة؟ زوجة الجريح... شريكة الجهاد إقصاء الشيعة من التاريخ اللبناني!* «كيــف سأعيش من دون والديّ؟» آخر الكلام | أوّل اختبار نصيحة زوجين: ليتنا تعارفنا جيداً! عقد الزواج عهدٌ والتزام

إقصاء الشيعة من التاريخ اللبناني!*

د. سعدون حمادة


لا شكّ في أنّ بعض المؤرّخين، ومعظمهم من رجال الدين، قد سخّروا مواهبهم ومواقعهم لأداء خدمات جليلة للتاريخ اللبنانيّ بحثاً وتنقيباً وكشفاً لما لا يُحدّ من مجهولات الفترة العثمانيّة وملابساتها. إلّا أنّ بعضهم الآخر توهّم أنّ التاريخ منبر عام يسخّره عندما يشاء لتمجيد من يرغب وتسفيه من يريد بإطلاق شحنات من المشاعر الشخصيّة المتأجّجة من دون أيّ مراعاة للأمانة والحقيقة. وقد كان لتاريخ الشيعة النصيب الأوفر منها، سواء في البقاع، أو في جبل عامل، وعلى الأخصّ في جبل لبنان.

• من أدبيّات المؤرّخ
إنّ تاريخ لبنان هو تاريخ وطن وشعب عاش ولا يزال في بقعة معلومة من الأرض تتكوّن من جبال وسهول وسواحل ومراكز سكنيّة وحضاريّة متعدّدة، وينتمي إلى طوائف متنوّعة ومتداخلة تشكّل في مجموعها موضوع هذا التاريخ ومادته. فليس من الجائز أن يبقى محصوراً بالجبل من دون غيره من المناطق، وينحصر في تاريخ الأسرتين المعنيّة والشهابيّة وتاريخ الموارنة والدروز من دون سائر اللبنانيّين(1).
يقول مؤرّخ لبنانيّ معاصر: «إنّ المؤرّخين الموارنة، وخصوصاً من رجال الإكليروس، يعدّون الآباء الشرعيّين لتاريخ لبنان، وكان يتوجّب عليهم أن يحافظوا على سلامة هذا التاريخ وأصالته ويرفضوا الكثير من الأساطير والأوهام والخرافات وأعمال التزوير والتحريف التي لحقت به. ولكن نلمس مع الأسف أنّ بعضهم أصرّ على أنّها من ثوابت تاريخ لبنان، وأنّ لا مجال للشكّ بصحّتها».
وقال أيضاً حول أدبيّات المؤرّخ: «لا يجوز للمؤرّخ أن يخرج عن أصول الأدبيّات العامّة التي تقوم على احترام كرامة الآخرين والابتعاد عن التجنّي عليهم والتشهير بهم، فالتحقير والشتائم لا يعدّان من العمل التاريخيّ، بل إنّهما يُفقدان قائلهما صدقيّته»(2).

• تغييب الرواية الشيعيّة
لقد تعرّض الشيعة في تاريخهم إلى الكثير من التجنّي الذي تجاوز هذه القواعد. لذلك، لا يمكن تناول تاريخهم في لبنان إلّا بوصفه وجهاً آخر لتاريخ لبنان الوطنيّ العام وليس جزءاً من هذا التاريخ أو فصلاً مهمّاً وأساسيّاً منه، تتحرّك فيه مختلف الجماعات والمناطق بدون أن تحجب إحداها الأخرى أو تتوارى خلفها. إنّ ظروف لبنان التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة ميّزته عن سواه من البلدان المجاورة والقريبة التي تتشارك معه في الكثير من الخصائص والعوامل والصفات، إلّا أنّها تختلف عنه في تركيبته الطائفيّة المعقّدة والعلاقات الداخليّة التي تحكم هذه الطوائف من جهة، وعلاقة كلّ منها بالسلطة الحاكمة من جهة أخرى.
يقول باحث غربيّ حول تغييب الدور الشيعيّ المحوريّ في تاريخ لبنان: «إنّ التجربة الشيعيّة في العصر العثمانيّ حُذفت من الرواية اللبنانيّة الوطنيّة، وأقصى المسيحيّون المعاصرون، المختصّون بكتابة عرض الأحداث وسيرة القدّيسين، اللبنانيّين الآخرين عن باقي مكوّنات لبنان التاريخيّ. وأصبح النظام اللبنانيّ الكلاسيكيّ المستقبليّ نتاج مخيّلة المنظّرين المسيحيّين. فلم تكن الإمارة على القبائل الدرزيّة يوماً هي المؤسّسة الوحيدة للحكم الذاتيّ في لبنان» (3).

• أبرز الصعوبات
إنّ أهمّ الصعوبات التي لا بدّ من أن تعترض كلّ من يتعمّق في بحث هذا الموضوع تعود إلى سببين أساسيّين:
1. ندرة المراجع: لم يتّخذ أيّ مؤرّخ حتّى الآن تاريخ الشيعة في لبنان موضوعاً مستقلّاً بذاته وشاملاً سائر المجموعات الشيعيّة التي عاشت فيه. ولم يصل إلى متناولنا مرجع قديم أو حديث يبحث تخصيصاً في هذا الأمر، ما يفرض على الباحث الرجوع إلى عدد غير محصور من أمّهات المراجع لاصطياد بعض المعلومات المتناثرة والأفكار العرضيّة التي عادةً ما يوردها واضعها بدون تعمّد أو تركيز، والعمل على استخلاص مدلولاتها ومحاولة ردّها إلى واقعة تاريخيّة معلومة وربطها بسياق متواصل ومحدّد.
إنّ المراجع التي وضعت في جبل لبنان تحديداً -وغالباً كان واضعوها رجال دين موارنة دفعهم الحماس والرغبة في إبراز دور طائفتهم إلى الإشادة بها بدون إعارة اهتمام يذكر لدور الطوائف الباقية، إلّا من حيث ارتباطهم بالغاية المنشودة- هي مراجع قليلة ومحدّدة تفرض على الباحث فيها الحذر الشديد واليقظة المتواصلة عند استخلاص بعض وقائعها ومدلولاتها من براثن الغرض وشطط الهوى. ولا تخفى صعوبة هذا الفرز ومحاذيره.


أمّا ما وصل إلينا من مصنّفات جبل عامل، وهي الوحيدة التي كتبها مؤلّفون من الشيعة، فهي أشبه بالملاحم الشعبيّة منها بالتاريخ. يطغى في أغلبها صليل السيوف وصهيل الخيول على السياق التاريخيّ والسرد المنطقيّ المتماسك. وقلّما تجاوزت اهتماماتها حدود جبل عامل الضيّقة.
2. الخوف من النفس: إنّ تاريخ لبنان، كما هو معتمد ومتداول حاليّاً، أقرب إلى الأسطورة التي تنسجها المخيّلات المستترة على هواها ومزاجها؛ فإنّ واضعيه المعلومين والمجهولين تخيّلوا تاريخاً ينسجم مع ما يفضّلون ويرغبون، وافترضوا أو أملوا لو أنّ تاريخ لبنان جرى كما يطمحون؛ فلم يلتفتوا إلى ما حصل فعلاً وواقعاً، بل وضعوا تاريخاً افتراضيّاً ينسجم مع تطلّعاتهم وتمنيّاتهم أكثر ممّا يتطابق مع الحقيقة والواقع.
إنّ سيرة «عنترة»، المعروفة في التراث الشعبيّ العربيّ هي أكثر انتشاراً وذيوعاً وشهرة من تاريخ الشاعر الفارس كما ورد في كتب الأدب ودواوين الشعر. إذ تحوّل هذا الفارس الإنسان، بفضل المتحمّسين له المعجبين بشعره وفروسيّته والمتعصّبين لقضيّته، إلى بطل أسطوريّ خارق يقوم بالمعجزات المستحيلة، وينتصر دائماً على أعدائه الأشرار من الإنس والجنّ والمخلوقات الوهميّة الأخرى في معارك ملحميّة، متحدّياً بنجاح كاسح كلّ القوى الطبيعيّة والبشريّة والخرافيّة التي زرعها الخيال الجامح المتعاطف معه إلى حدّ الهوس في طريقه المظفّرة.
قد يكون ثمّة بعض أوجه الشبه بين ما ذكرناه عن الحدود الفاصلة بين تاريخ عنترة الأكاديميّ، وسيرته العشائريّة المنفلتة من ضوابط الواقع والمنطق، وبين تاريخ لبنان المفترض والموضوع، وتاريخه الحقيقيّ كما حصل فعلاً.


إنّ الفيلسوف أو السياسيّ أو رجل الدين أو الداعية إلى معتقد أو رأي أو مذهب قد يعمد أحياناً إلى تدعيم ما يذهب إليه بالرجوع إلى أحداث التاريخ وتطوّراته، ليستعين بما يرى أنّه يخدم غايته في إقناع نفسه أو إقناع الآخرين بتفسير الواقعة التاريخيّة بشكلٍ يتلاءم مع ما ينادي به ويروّجه ويدعو إليه. أمّا المؤرّخ، فأوّلى مهامه أن يبرز الحدث كما حدث لا كما يريد ويتمنّى، وبدون تدخّل منه بأيّ أسلوب كان.

• ضرورة سدّ الفجوات
إنّ الذين وضعوا التاريخ اللبنانيّ وصاغوه كما رغبوا أن يكون اضطّروا إلى استخدام أساليب ملتوية عن جهل حيناً وعن عمد أكثر الأحيان. تبتدئ هذه الأساليب بالمبالغة والاجتزاء، وربّما تصل في محطّات مفصليّة إلى التزوير.
إنّها عيوب فاضحة وواضحة، مع أنّ تكرارها باستمرار قد يوهم العابر الطارئ أنّها حقائق واقعة من دون أن تعجز الخبرة المتوسّطة والعاديّة عن كشف زيفها. وبما أنّ التاريخ هو وحدة متكاملة مترابطة الأجزاء، فلا بدّ من سدّ هذه الفجوات وتصحيحها كي لا يتزعزع البناء في أساسه. وهذا أمرٌ لا بدّ منه لجلاء ما له علاقة بموضوع بحثنا وبتاريخ لبنان الوطنيّ العام، منذ الجذور الأولى لبناء هذا الوطن مع بداية الاحتلال العثمانيّ العام 1516م حتّى ظهور ملامحه الغضّة مع نظام المتصرفيّة العام 1861م.


*مقتبس من كتاب: تاريخ الشيعة في لبنان، ص 8-12.
1. لم يتجاوز عدد أفراد الطائفة الدرزيّة بالإضافة إلى جميع الطوائف المسيحيّة أكثر من 30 % من سكّان لبنان في مستهلّ العهد العثمانيّ.
2. انقلاب على الماضي، عادل إسماعيل، ص 17 و24.
3. أطروحة دكتوراه، ستيفن وينتر: The Shiiite Emairates of Ottoman Syria، جامعة شيكاغو، 2002م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع