د. فاطمة نصر الله*
تمثّل حالة الزوجين الشابّين، عليّ ومريم، وهما في أواخر العشرينات، نموذجاً صارخاً لصراعٍ خفيّ ينشأ ليس من غياب الحبّ، بل من تصادم الخلفيّات الثقافيّة والشخصيّة. فقد تزوّجا بعد فترة خطوبة تقليديّة لم تتجاوز ثمانية أشهر، ليكتشفا بعد أسابيع معدودة أنّ الزواج ليس مجرّد اتّفاقٍ على العيش معاً، بل ميدانٌ لاختبار التفاهم حول أعمق تفاصيل الحياة.
فإذا كان الحبّ كافياً لبدء الزواج، فهل يكفي وحده لضمان استمراره؟ وما العوامل التي تحول دون نجاحه منذ الفترات الأولى؟
• أوّلاً: دراسة الحالة
1. خلفيّة عامّة عن الزوجين: ينتمي الزوج إلى أسرة محافظة دينيّاً، تتمسّك بشكل واضح بالأعراف الدينيّة والقيميّة والاجتماعيّة. بينما نشأت الزوجة في بيئة تشجّع على الاستقلاليّة والحريّة الشخصيّة، مع العلم أنّ العائلة تتبنّى القيم الدينيّة وتطبيقاتها وتحرص عليها، لكن بأساليب مختلفة تميل إلى المظهر المتحرّر أكثر منه إلى المتحفّظ. هذا الفارق في تطبيقات المبادئ الثقافيّة، شكّل السبب الأوّل لعدم الانسجام بين الزوجين.
2. بداية الحياة الزوجيّة وظهور مؤشّرات الخلاف: ظهرت مؤشّرات التباين في الأسابيع الأولى من الزواج، لا سيّما في ما يتعلّق بالتوقّعات المرتبطة بالأدوار الزوجيّة والعلاقة بالعائلة الممتدّة. فقد رأى الزوج أنّ انتقال زوجته إلى بيت الزوجيّة يستبطن انسجاماً تلقائيّاً مع منظومة أسرته، من خلال الاندماج في النشاطات واللقاءات والمناسبات العائليّة الخاصّة بأهل الزوج، كالتزام ضروريّ لا يمكن التخلّف عنه مهما كانت الظروف. في المقابل، رأت الزوجة أنّ الارتباط لا يعني التخلّي عن استقلاليّتها التي تربّت عليها، كما أنّها لا تريد أن تنفصل عن أفراد عائلتها ونشاطاتهم ومناسباتهم الخاصّة أو العامّة، وهي حريصة أيضاً على الالتزام بنشاطات الصديقات ولقاءاتهنّ المتكرّرة، خصوصاً في المقاهي والأماكن العامّة.
3. أسباب الخلاف: من خلال ما تقدّم، يمكن استخلاص أسباب الخلاف الأساسيّة:
أ. توقّع الزوج المرتفع بأن تلتزم زوجته التزاماً ثابتاً بالزيارات العائليّة الأسبوعيّة، إذ عدّ غيابها عنها نوعاً من عدم الاحترام. في المقابل، ترى الزوجة أنّ إلزامها بالحضور يعدّ «تكبيلاً اجتماعيّاً» لها، وهذا ما يتعارض مع خصوصيّتها وقناعاتها وأسلوب حياتها.
ب. تمسّك الزوج بنمط تقليديّ في إدارة المال، يقوم على تمركز القرار الماليّ بيده، بينما طالبت الزوجة بنظام قائم على الشراكة والشفافيّة، ما زاد من حدّة التوتّر بينهما.
ج. اعتماد الزوج أسلوب الصمت عند شعوره بالانزعاج، بينما تعتمد الزوجة الحوار المباشر والحرص على إخباره بكلّ ما يزعجها دون تأخير. وقد أدّى هذا التناقض في التعبير عن المشاعر إلى تفاقم سوء الفهم بينهما، وجعل تراكم الانفعالات أمراً متوقّعاً.
4. النهاية المبكرة للزواج: اتّخذ الطرفان قرار الانفصال بعد سنة وشهرين، في ظلّ غياب جهودهما والعائلتين في الإصلاح، إذ لم يكن ثمّة مشكلة بنيويّة جوهريّة، بل السبب هو غياب القدرة على إدارة خلافات قائمة أصلاً في الاختلافات الثقافيّة والطبائعيّة.
• ثانياً: تحليل الحالة
تُظهر هذه الحالة عدداً من المؤشّرات الدالّة على فشل زواج لم يُبنَ على وعي كافٍ، وهي أمور كان ينبغي أن تناقش أثناء فترة التعارف، مع حرص الطرفين على تلمّس نقاط اطمئنان مشتركة قبل اتّخاذ قرار الارتباط والزواج، ويمكن تلخيصها بالآتي:
1. التباين الثقافيّ غير المحسوب: يعدّ اختلاف الخلفيّات الثقافيّة من أبرز عوامل عدم التوافق بين الزوجين، خصوصاً حين لا يُسبق بالحوار الصريح والتفاهم المبكر. فقد دخلا الحياة الزوجيّة وهما يحملان «افتراضات مسبقة» عن السلوك الذي يُتوقَّع من كلٍّ منهما، من دون تنسيق أو توضيح متبادل. ومع أنّ عائلتَي الزوج والزوجة تلتزمان بالقيم الدينيّة، فإنّ تطبيقاتهما العمليّة والاجتماعيّة تختلف تبعاً لقناعات وأفكار كلّ منهما.
2. غياب الجهوزيّة النفسيّة للزواج: لم يمتلك الزوجان مهارات التواصل، ولا القدرة على معالجة الانفعال أو احتواء التوتّر. الجهوزيّة النفسيّة هنا تشير إلى نضج الفرد في فهم ذاته واحتياجاته من جهة، وفهم احتياجات الشريك من جهة أخرى. وهنا، لا بدّ من أن يدرك كلّ من الزوج والزوجة الفروق التي تميّز الشخصيّة الذكوريّة، كجهاز نفسيّ ومنظومة متكاملة، عن الشخصيّة الأنثويّة ومنظومتها النفسيّة الخاصّة، إذ توجد بينهما نقاط التقاء عديدة، كما تظهر فروقات واضحة في جوانب أخرى. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (مريم: 36). ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ﴾؛ تعبير إلهيّ يشير إلى فارق جوهريّ بين الذكر والأنثى في البنية النفسيّة والشخصيّة. وهذا الاختلاف الذي يُظهر عظمة الخلق الإلهيّ، لا ينبغي أن يكون سبباً للخلاف بين الزوجين، بل مصدراً للتكامل بينهما، وعاملاً يضفي على الحياة الزوجيّة حيويّةً ونماءً.
إنّ فترة التعارف التي تسبق عقد القران، تعدّ المرحلة الأساسيّة التي ينبغي أن يكرّس فيها الشابّ والفتاة جلّ تركيزهما للتعرّف على استعداد الطرف الآخر لبناء الحياة الزوجيّة وتحمّل مسؤوليّاتها بكلّ ما تنطوي عليه من معانٍ دقيقة. وهنا، يبرز دور الأهل الأساسيّ والمركزيّ، إذ إنَّ تربية الأبناء على النجاح في الحياة الزوجيّة التي تتطلّب استعداداً ناضجاً من الطرفين، لا تقلّ أهميّةً عن تربيتهم على النجاح في الدراسة.
3. تضارب التوقّعات بشأن الأدوار الزوجيّة: إنّ اختلاف النموذج المرجعيّ للأدوار (التقليديّ والمنفتح)، هو أحد أسباب الخلاف الأساسيّة بين الزوجين. وقد بيّنت الدراسات الميدانيّة أنّ عدم الاتّفاق على الأدوار يُعدّ من أهمّ العوامل التي تُنبئ بعدم الاستقرار الأسريّ.
4. التدخّل العائليّ والضغط الاجتماعيّ: ساهم وجود التباين بين العائلتين في تعميق الشرخ، بحيث إنّ إحداهما عائلة محافظة تتوقّع التزاماً عالياً بالأعراف، والأخرى تعتمد الأساليب التي تحترم الحريّة الفرديّة كأساس لحركة الفرد اليوميّة. فبدل أن تكون العائلة شبكة دعم وعون، أصبحت هنا مصدر ضغط أشعل التوتّرات بدل احتوائها.
• ثالثاً: المعالجة والمقترحات
تعزيز الحوار ما قبل الزواج: ينبغي للمقبلين على الزواج، أن يستثمروا فترة التعارف في مناقشة تفاصيل الحياة الزوجيّة المتوقّعة، فهي تمثّل «الوقت الذهبيّ» لوضع أسس العلاقة الدائمة التي يُبنى عليها مستقبل الشابّ والفتاة معاً. من الموضوعات الأساسيّة التي ينبغي التفاهم حولها: دور العائلة، وطبيعة الزيارات، والخصوصيّة، وإدارة المال، والتوقّعات المتعلّقة بالعمل والبيت. إنّ هذا الحوار المسبق والتفاهم على التوجّهات العامّة، مع توضيح بعض التفاصيل، يخفّف كثيراً من التوقّعات غير الواقعيّة، ويفتح الطريق أمام تحقيق الغاية الإلهيّة من الزواج، «لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا»، كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21).
• بناء مهارات التواصل البنّاء:
هي عديدة وتشمل:
1. الإصغاء الفعّال.
2. التعبير عن الانزعاج من دون اتّهام.
3. استخدام لغة تُبرز المشاعر، بدل اللغة الاتّهاميّة التي تعتمد على المنطق بما كان ينبغي فعله.
4. إدارة الحوار بدل تحويله إلى مواجهة على قاعدة (رابح/ خاسر).
5. الاتّفاق على نموذج الأدوار الزوجيّة: سواء أكان النموذج تقليديّاً أم منفتحاً، إذ يجب أن يكون قراراً واعياً للطرفين، ونموذجاً جديداً يجمع نقاط القوّة الموجودة في كلّ من النمطين، وليس امتداداً تلقائيّاً للبيئة الأسريّة السابقة.
6. تنظيم التدخّل العائليّ: وضع حدود إيجابيّة واضحة تحافظ على خصوصيّة الحياة الزوجيّة، مع احترام دور العائلة الكبرى من دون السماح لها بالتأثير في القرارات الداخليّة، وضرورة الإبقاء على المكانة المعنويّة العالية للعائلتين على قاعدة المشورة والاستفادة من الخبرات، حين تدعو الحاجة.
7. الاستعانة بالإرشاد الأسريّ المبكر: يوصى بالاستعانة بالإرشاد الأسريّ خلال السنوات الأولى من الزواج، في حال الضرورة، خاصّة عندما تكون القناعات متباينة، فالإرشاد المبكر يمنع تراكم السلوكات السلبيّة ويعيد ضبط قواعد التواصل.
• إدارة الخلافات
تبيّن هذه الحالة أنّ فشل هذا الزواج قد لا يرتبط بنقص المودّة بين الزوجين أو وجود مشكلة مركزيّة، بمقدار ما هو ضعف القدرة على إدارة الخلافات والاختلافات الطبيعيّة بينهما. كما إنّ التباين في القناعات والطباع والتطبيقات ليس سبباً لفشل الزواج حصراً بالضرورة، بل عامل غِنى إذا أُدير بوعي وحوار ونضج.
*مختصّة بالإدارة التربويّة.