الشيخ بلال حسين ناصر الدين
لطالما كان الجهل، ومعه الحقد، من ألدِّ أعداء الحقّ، ومن أكثر القِوى الدافعة إلى تشويه الحقائق وإلصاق التهم الباطلة بغير أهلها. وبهذا، أكثر المغرضون من الترويج لمصطلح «ثقافة الموت»، مدّعين أنّ بيئة المقاومة تحمل هذه الثقافة وتربّي أبناءها عليها! ولأجل ذلك، راحوا يختلقون المشاهد، ويبثّون ما ليس واقعاً، ثمّ يحوّرون الوقائع لتخدم سرديّتهم، وكأنّ الحقيقة طوع ما تشتهي أباطيلهم.
والسؤال: هل نحن فعلاً نحبّ الموت ونتمنّاه؟
إنّ الذين يروّجون لهذه التهمة تغافلوا، عن قصد أو قصور، عن حقيقة راسخة في ديننا: وهي أنّ الإسلام دين الحياة، دينٌ يدعو إلى العلم والبناء والعمارة والزواج والعمل. لقد علّمنا الإسلام كيف نحيا حياةً طيّبة؛ كيف نبني بيوتاً، ونؤسّس عائلات، ونتجمّل بالأخلاق والقيم بل وفي مظهرنا. فهل يُعقل أن تكون ثقافة كهذه ترفع من شأن العلم والسعي والكدّ والعمل والإنتاج، ثقافة موت؟!
لقد خلط هؤلاء بين الموت، بوصفه قدراً له أسبابه التي لا تتخلّف عند اكتمالها، والشهادة التي هي مقامٌ كريم يُعدّ أشرف أشكال الموت إذا ما وقع.
إنّ الموت، في ذاته، ليس مطلوباً في ثقافتنا، بل ينبغي في ديننا ألّا يطلبه الإنسان، لأنّ تمنّيه يعبّر عن يأس، وهذا محرّم على المؤمن، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: 87)، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تتمنّ الموت»(1). أمّا الشهادة، فهي طلب أن يكون رحيل الإنسان من هذه الدنيا بأبهى صور الرحيل وأعظمها مكانة، بأن يقضي المرء في سبيل الدفاع عن الإسلام وعباد الله وذوداً عن الأرض والعرض. فالمؤمن الذي ينشد الشهادة، يقول بلسان حاله: «يا ربّ، إن قضيت عليّ بالموت، فأحسن خاتمتي؛ اجعلها شهادةً بين يديك».
بين ثقافة الموت وثقافة الشهادة فرق شاسع؛ فالأولى لمن يئس من رحمة الله، وهو يرضخ للذلّ والاستكبار والظلم والاعتداء، فيموت بذلك مقهوراً. أمّا الذي يسعى في سبيل الدفاع عن نفسه وأهله وأرضه، إنّما هو الحيّ، بضميره وإنسانيّته وفكره. والذي إذا مات في سبيل الله، مات قاهراً، كما في قول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: «فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ»(2).
أن تموت لتحيا أرضك، ويسلم أهلك ودينك وشرفك، فهو موت من أجل الحياة. أمّا أنتم أيّها المغرضون، فإنّكم تحيون وأنتم أموات وتظنّون أنفسكم أنّكم أحياء. إنّكم تعيشون بلا مشروع، بلا قضيّة، بلا معنى، ولهذا، يضيق فهمكم عن استيعاب ثقافة الحياة التي نحملها. فإن كان الموت بلا قيمة هو مصير من لا قضيّة له، فذلك شأنكم؛ أمّا نحن، فنسأل الله حياةً كريمة، وخاتمةً مشرّفة، وشهادةً تُرضيه.
أمّا أنتم، فاقضوا أيّامكم أذلّاء وارحلوا من الدنيا وأنتم كذلك، من دون شهادة.
1. الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 385.
2. نهج البلاغة، الخطبة 51.