تحقيق: نقاء شيت
استفاقت أسمى، فجر ذاك اليوم متأثّرة بحلم رأت فيه والدها شهيداً وقد امتلأ المنزل بالمعزّين. كتمت رؤياها في قلبها، ثمّ تجهّزت للمدرسة. اقتربت من والدها الذي اعتاد أن يحتضنها وأخويها صباح كلّ يوم، لكنّه احتضنها حينها بقوّة وحنين غريبَين، وأوصاها بالاهتمام بأخويها وملازمتهما ورعايتهما، وذكّرها أنّها الأكبر سنّاً. شعرت بشيء غريب، ولكنّها تجاهلت الموقف حتّى تلقّت ذاك الخبر!
ما لم تدركه أسمى من منامها، أنّ العزاء لم يكن لشهيد واحد، بل لاثنين معاً، حسن عطوي وزينب رسلان، الوالدين اللذين أحاطا أبناءهما بكلّ حبّ وعاطفة، وحرصا على تربيتهم على نهج المقاومة.
• ثلاث وردات ولقاء
حسن وزينب، قصّة حبّ نُسجت بأنامل التقوى، فاختُتمت مسيرة المودّة والرحمة بالشهادة، فكانا رفيقَي الدنيا والآخرة، وأبيا أن يدخلا الجنّة إلّا معاً. رحل الشهيدان وتركا خلفهما ثلاثة أطفال ذاقوا طعم اليتم والفقد باكراً: أسمى، خمسة عشر عاماً، وكانت رفيقة أمّها ومحلّ سرّ أبيها، وعلي، ثلاثة عشر عاماً، فتى تلمع عيناه كلّما سمع بذكر أبويه، وقد كان رفيق والده ويجالسه في صبيحة كلّ يوم قبل الذهاب إلى المدرسة ليحتسي معه كوباً من الشاي، وينهل من بعض علمه وأدبه، وأحمد، أصغر إخوته سنّاً الذي لم يكن قد أتمّ السادسة من عمره عند استشهاد أبويه، ولكنّه كان واعياً بفكره، ويخفي خلف ضحكته كلّ حزن وألم. هو ذاك الفتى الذي شاهدناه على شاشة التلفاز يوم تشييع والديه وهو يسأل بحرقة: «كيف هلأ بدنا نعيش بلا أم وبيّ؟».
ارتأت مجلّة بقيّة الله الإجابة عن سؤال أحمد بالتجربة، انطلاقاً من وجع آخر، أرخى بظلّه على جراح أيتام اختبروا الحياة من دون أمّ وأب أيضاً، وكانوا في العمر نفسه، ولكن في زمان مختلف؛ إنّهم أبناء الأمين العام السابق لحزب الله سماحة السيّد الشهيد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه) وزوجته الشهيدة السيّدة أم ياسر. التقى أبناء الشهيدين حسن عطوي وزينب رسلان بالسيّدة بتول الموسويّ، كريمة الشهيد السيّد عبّاس، لتخبرهم عن تجربة اليتم التي عاشتها يوم فقدت والديها وأخيها حسين (13 عاماً)، وكيف واصلت وإخوتها حياتهم على الرغم من صعوباتها، إلى أن أصبحت اليوم جدّة لأطفال صغار.
• فقد الأحبّة غربة
وصلنا إلى الحيّ حيث يسكن أبناء الشهيد عطوي، برفقة السيّدة بتول. أوّل ما استقبلنا جداريّة للشهيدين السعيدين، حسن وزينب، ثمّ صورة لهما عند مدخل البناية وكأنّهما يرحّبان بكلّ زائر عزيز. دخلت المنزل فرأيت الورود تحيط ببسمة الشهيد حسن، وتحتضن عبق صورته وجمال محيّاه الذي لم يمحه تفجير «البيجر»، ولم يتمكّن من سرقة بريق عينيه، فبصيرته المشرقة غطّت على فقدان البصر. وكانت عائلتا الشهيدين والأصدقاء بانتظارنا.
عادت السيّدة بتول بذاكرتها إلى ذلك اليوم، عندما اغتال العدوّ الإسرائيليّ سماحة السيّد الشهيد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، يوم كانت في سنّ الثالثة عشرة، فسألت نفسها: «كيف تمكّنتُ من تخطّي هذه السنين كلّها؟ وهل ينسى الحبيب حبيبه؟». ثمّ قدّمت إجابة حملت السرّ الذي كان السبب في تخطّي تلك المعاناة كلّها: «إنّه الله تعالى، كان وما زال وسيلتي لتخطّي كلّ صعوبات تلك المرحلة»، ثمّ بدأت سرد حكايتها.
• الله يداوي القلوب الحزينة
عادت السيّدة بتول إلى العام 1992م، يوم تلقّت وإخوتها الخبر الأليم بشكلٍ تدريجيّ: أوّلاً باحتمال استشهاد السيّد عبّاس وحده، ثمّ خبر إصابة السيّدة أمّ ياسر، وأخيراً إبلاغهم باستشهاد الجميع: الوالد والوالدة والأخ الأصغر حسين. أخبرتنا أنّها حزنت بشدّة في ذلك اليوم وبكت كثيراً، لكنّها سرعان ما استجمعت بذور الإيمان التي زرعها السيّد في نفسها وروحها، فتوجّهت على الفور لتتوضّأ، وافترشت سجّادة صلاتها، وسجدت وسلّمت أمرها وأمر إخوتها إلى الله. تقول: «كان من عادة أمّي وأبي التوجّه إلى الله فوراً عند أيّ نائبة، فلماذا نلجأ إلى غيره؟». وتتابع: «السكينة بدأت من هناك». وأخذت تروي كيف تمكّنت وإخوتها من تهدئة روع المعزّين، التزاماً بوصيّة والدتها التي كانت تنبّههم أنّه في حال استشهاد السيّد، وهو أمر متوقّع في أيّ وقت، يجب أن لا يُظهروا أيّ جزع لا يناسب مقام الشهادة؛ لأنّها كرامة من الله.
يستمرّ الحديث، فيما عليّ، الابن الثاني للشهيدين عطوي، يحتضن جدّته، ويمسك بيدها، ويهزّ برأسه موافقاً، وعيناه تلمعان وهو يستمع إلى من كانت في مثل عمره يومها. وكلّما دمعت عيناه، يرمق صورة أبويه بنظرات الشوق.
تكمل السيّدة بتول الموسويّ حديثها لتقول إنّها منذ ذلك الحين لم تبكِ إلّا على سجّادة صلاتها، وإنّ العناية الإلهيّة لم تتركها وإخوتها يوماً، فقد سخّر الله لهم قلب خالتهم الحنون، التي تطوّعت للانتقال إلى منزلهم والعيش معهم لرعايتهم وتدبير أمورهم.
وقد تابعت علمها الذي كان والداها يهتمّان به ويحثّانها على تحصيله، كما أصبحت قارئة عزاء، فتقول: «عند الارتباط بأهل البيت عليهم السلام، تشعر أنّهم الأهل الحقيقيّون، لأنّ بلاءاتهم كانت أكبر وأعظم، وأنّ فقدنا لأهلنا هو فرصة لمواساتهم، وارتباطنا بهم هو السبيل للقاء أهلنا في الجنّة».
• جراح الوالد بداية الحكاية
لم يكن سهلاً على أسمى، الابنة الكبرى للشهيدين حسن وزينب، الحديث عن ذلك اليوم الذي بدأ برؤيا عند الفجر، لتتفاجأ بعد عودتها من المدرسة بنبأ استشهاد والديها. وعلى الرغم من شدّة المصاب، إلّا أنّ الله هيّأ لهم سبل العناية، بحيث تكفّل الجدّان، لجهة الأمّ، بالعيش معهم ورعايتهم من قُرب. كما أنّ عمّهم يسكن على مقربةٍ منهم ويتكفّل بهم وبتسيير أمورهم، إضافة إلى جميع أفراد العائلتين والكثير من أصدقاء الأهل الذين يغدقون عليهم بالحبّ والرعاية.
تروي أسمى أنّها حاولت أن لا تفكّر بأنّ أيّ مكروه سيحصل، لكن عندما أخبرتها إدارة المدرسة أنّ ثمّة من سيأتي ليقلّها وأخويها من المدرسة، شعرت على الفور بالقلق. يتدخّل هنا عليّ قائلاً: «وأنا أيضاً انتابني شعور سيّئ، ورحت أسأل أختي في السيّارة إذا كان السبب هو شهادة والدنا، لأنّنا سمعنا صوت القصف، لكنّها لم تجبني وبقيت صامتة». كانا يتحدّثان بوعي وثبات مع حزنهما الشديد، ثمّ تقول أسمى: «منذ إصابة أبي بتفجير البيجر، تهيّأنا لتلقّي هذا النوع من الخبر. وخلال الحرب وما بعدها، كنّا نتوقّع استشهاده في أيّ لحظة».
يتابع عليّ: «بعد انفجار البيجر وإصابة أبي، علّمتنا والدتنا كيفيّة تدبير أمورنا المنزليّة بأنفسنا». يسكت قليلاً ثمّ يقول مع ابتسامة تخفي خلفها دمعة وحسرة: «لكنّنا نشتاق إليهما»!
• الشهداء لا يرحلون
هنا، تتدخّل السيّدة بتول لتخبرهم أنّه مع كلّ هذا الفقد، فالشهداء لا يرحلون، بل هم أحياء عند ربّهم يُرزقون. وأخبرت الأطفال أنّه بعد شهادة والديها، كثيراً ما لمست بركة حضورهما، بحيث إنّه كلّما استعصى عليها أمر ما، تذهب إلى ضريحهما وتبوح لهما بحاجتها، لأن الحوائج تُقضى بإذن الله وبالتوسّل إليه سبحانه من خلالهما، فللشهداء عند ربّهم كرامة عالية.
وفي كلام السيّدة بتول إجابة واضحة عن سؤال أحمد: «كيف هلأ بدنا نعيش بلا أم وبيّ؟»، وهذا ما أكّدته أسمى أيضاً لأخيها وتعمل على تكريسه دائماً، قائلة: «إنّهما معك ومعنا دائماً، ولن يتركانا وحيدين. صحيح أنّنا لا نرهما، ولكنّهما ينظران إلينا من عليائهما ويحيطاننا برعايتهما وعطفهما».
• أمانة الشهيد
انتقلنا للحديث مع الجدّة الملازمة للأولاد، فتقول: «إنّ المسؤوليّة الآن أكبر لأنّني أتولّى تربية أولاد شهيدين، إذ يجب أن أحافظ على نهجهما في حياة أطفالهما». ثمّ تنتقل لتتحدّث عن فضائل الشهيد حسن الذي تميّز بدماثة خُلقه وفكره وثقافته، وقدرته على حلّ أصعب الأمور، والتأثير بمن حوله. أمّا الشهيدة زينب، المربّية الدقيقة جدّاً، فقد كانت تهتمّ بأبسط الأمور في تربيتها لأبنائها، إذ إنّ النظام الذي وضعته لحياتهم قلّل جهد الجدّة في إدارة شؤونهم بعد شهادتهما، لتؤكّد أنّ بركة الشهيدين العزيزين ترافقها دائماً لتساعدها على إتمام مسوؤليّة العناية بهما على أكمل وجه.
• المسيرة مستمرّة
كان الهدف من استعراض جزء من تجربة السيّدة بتول الموسويّ التأكيد أنّ هذه المسيرة يجب أن تستمرّ، وستستمر بإذن الله، بصعوباتها وتحدّياتها والفراغ الكبير الذي يخلّفه فقد الوالدين أو أحدهما، وأنّ الله سبحانه لا يترك أحبّاءه، فكيف إذا كانوا أطفالاً؟
ها هو الطفل أحمد بدأ يدرك معنى شهادة أبويه، وأنّه سيكمل هذا الدرب الطويل مع طيف والديه اللذين لن يتخلّيا عنه وإخوته حتماً، وأنّه سيجتمع بهم يوماً ما مجدّداً في جنان الله، فيقول: «ماما وبابا بالجنّة، فينا نحكيهم من أيّا مكان بالعالم». وهو لا ينفّك يسأل جدّته: «هنّي بيقدروا يشوفوا الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ يعني أنا رح شوفهم بس أطلع عالجنّة، أو بس يظهر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ أنا رح أنطرهم لأنّه بحبّهم كتير، ...».