مهما حاولنا أن نكون منصفين وعادلين في تعاملنا مع كل القضايا والأمور فلن نصل إلى
إنصاف علي عليه السلام وعدله، ومهما حاولنا أن نعيش التجرُّد والموضوعية في
النظر إلى المسائل فلن نصل إلى تجرُّد علي عليه السلام وموضوعيته، ومهما
حاولنا أن نُبْعِد المؤثرات المحيطة بنا عن التدخل في قراراتنا وأحكامنا فلن نصل
إلى شفافية علي عليه السلام وصفائه.
وهذا الكلام الذي نقوله ليس من المغالاة أو الابتعاد عن الحقيقة، فقد قاله الأعداء
قبل الأصدقاء، والمخالفون قبل الموافقين، والبعيدون عن علي عليه السلام قبل
القريبين منه.
فلقد فرض علي عليه السلام نفسه على الإنسانية جمعاء لا بقوته، ولا ببطولاته،
ولا بتضحياته، ولا بزهده أو تواضعه، بل ولا بشهادته، بل فرض نفسه قبل كل شيء بعدله
الذي صار علماً له وشعاراً، ومن خلال عدله دخلت إليه الإنسانية لتدرسه وتحلل شخصيته
الفريدة جداً.
إذ كيف يصل إنسان ذلك
المستوى من العدل؟ وهل يمكن للطبيعة البشرية أن تتحرر من الأنانية والشخصانية
وتتمظهر في فرد منها يجسِّد تلك المرتب الرفيعة من العدالة التي تجعله في موقع
القدوة والأنموذج والمثال المحتذى للأجيال، سواء التي تبعته واعترفت بحقه ومكانته
وفرادته، أم التي لم تعترف به ولا بمقامه، ولكنها وجدت فيه ذاتها وإنسانيتها
الضائعة المشتتة، والحائرة الباحثة عن العدل في كل زمان وفي كل مكان، فلا تجد عند
غيره أي عدل، وإن وجدته فلا يشفي غليلها ويروي ظمأها إلى العدل الذي تتصوره وتحلم
بالوصول إليه.
لقد تجلى عدل علي عليه السلام في قوله كما في فعله، ولم يخالف قوله فعله،
كان عادلاً في معارضته كما كان عادلاً في حاكميته، فلم تخرجه معارضته عن حالة
الإيجابية إلى السلبية، وبقي الناصح الأمين، والمرشد المعين، حتى قال القائل "لا
أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن"، وأرسل فلذتي كبده لحماية عثمان عندما حوصر
بيته، لأن الحق عنده يجب الوصول إليه بالعدل لا بالظلم، وبالغاية الشريفة الموافقة
للمبادىء لا بالغاية السيئة المطابقة للهوى أو للتعصب.
ولم تجعله حاكميته وولايته
عندما عادت إليه تنحرف به عن جادة الحق والعدل، فلم يقبل المهادنة في الحق، ولا
المساومة على العدل المؤتمن عليه، وقال عليه السلام لابن عمه عبد الله بن
العباس وهو يخصف نعله "ما قيمة هذا النعل؟ فقال: لا قيمة له"، فقال عليه
السلام: "والله لهو أحبُّ إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".
فعلي عليه السلام يرى أن الحكم وسيلة لإحقاق الحق وإقامة موازين العدل،
وليس وسيلة للعز والجاه، أو القوة والاستعلاء، أو الظلم والاضطهاد، لأنه عندما يصبح
كذلك تضيع الحقوق بسبب ضياع العدل وفساد الولاة والحكام ويقول عليه السلام:
"... وأعظم ما افترض - سبحانه - من تلك الحقوق: حق الوالي على الرعية، وحق الرعية
على الوالي. فريضة الله - سبحانه - لكل على كل. فجعلها: نظاماً لإلفتهم وعزاً
لدينهم، فليست تصلح الرعية
إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى
الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت
معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة،
ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية وإليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت
هنالك الكمة،وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل
بالهوى وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل
فعل، فهناك يذل الأبرار، ويعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد...
فالعدل عند علي عليه السلام هو المدخل للأمن والسلام الاجتماعيين، وهو
الصائن للحريات والقيم، وهو المحفز للإبداعات الإنسانية، وهو الذي يجعل من
الحياة الدنيا جنة يتمنى الناس لو يبقون فيها، وأما الظلم عنده فهو النقيض من كل
هذا، ولهذا لم يرتضِ لنفسه أن يُدَوَّن اسمه إلى جانب من سودوا تاريخ البشرية
بظلمهم، وفضَّل أن يُدوَّن اسمه في سجلِّ من بيَّضوا التاريخ بالتزامة بالعدل الذي
صار بسببه مقياساً صارماً وميزاناً دقيقاً لا يقبل المهادنة أو المساومة مهما بلغ
مقدار عناصر الترغيب أو عناصر الترهيب.
ولذا كانت كلمته الشهيرة "... فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه
أضيق".
والحمد لله رب العالمين