الشيخ إسماعيل حريري*
الخِطبة، بكسر الخاء، هي أن يبدي الرجل رغبته الزواج من امرأة ما، فيقال: «خطب المرأة إلى القوم»، إذا تكلّم أن يتزوج منهم، فهو خاطب(1)، وتكون المرأة مخطوبة حينئذ.
والخِطبة بهذا المعنى ليست عقد زواج، بل مقدّمة لإبرامه، تحدث بعد حصول التراضي والتوافق بين الطرفين، مع الالتزام بالشروط الشرعيّة اللازمة لصحّة العقد. وإن كان العُرف يطلق لفظ «مخطوبة» أحياناً على من عُقد قرانها، وأحياناً أخرى على من ذُكرت للزواج من دون أن يُبرَم عقد بعد، إلّا أنّ الحكم الشرعيّ يقتضي أنّ المرأة لا تصبح زوجة شرعيّة إلّا بإبرام عقد الزواج الصحيح، وليس بمجرّد الخطبة.
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما الضوابط الشرعيّة التي يجب التقيّد بها في المرحلة التي تسبق عقد الزواج، سواء أكان الطرفان في طور التعارف والتفاهم، أم كانا قد اتّفقا على الزواج لكنّ العقد لم يُبرم بعد؟
• أوّلاً: مراعاة الأحكام الشرعيّة حال التعارف
من الأحكام الواضحة في شرع الإسلام أنّ كلّ رجل وامرأة، إلّا من استُثني كما سيأتي، يتحتّم عليهما مراعاة الأحكام الآتية:
1. حرمة نظر كلّ منهما إلى الآخر في ما لا يجوز النظر إليه: فللرجل أن ينظر من المرأة إلى الوجه والكفّين فقط. أمّا المرأة، فلا يجوز لها النظر من الرجل إلى ما يزيد إلى ما يُعتاد كشفه عادةً، كالرأس والرقبة والذراعين ونحو ذلك، بل يحرم النظر إلى ما يجوز النظر إليه إذا كان بتلذّذ وريبة.
2. عدم جواز الكلام بما يوجب الافتتان وإثارة الشهوة، كالكلام المشتمل على الغزل والحبّ والعشق ونحو ذلك.
3. الامتناع عن أيّ حركة، أو جلسة، أو نظرة، أو طريقة مشي، أو نبرة صوت، أو كيفيّة إلقاء الكلام بنحو يثير فتنة الطرف الآخر، كترقيق المرأة صوتها عند الكلام وتحسينه، كما ورد في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ (الأحزاب: 32). وقد ورد تفسير ذلك في العروة الوثقى(2) وبحار الأنوار بالآتي: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾؛ «أي لا ترقّقن القول، ولا تلن الكلام للرجال، ولا تخاطبن الأجانب مخاطبة تؤدّي إلى طمعهم فتكن كما تفعل المرأة التي تظهر الرغبة في الرجال، و﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾؛ أي في قلبه نفاق وفجور، و﴿وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾؛ أي قولاً مستقيماً، جميلاً، بريئاً عن التهمة، بعيداً من الريبة»(3).
4. مراعاة المرأة لباسها الشرعيّ أمام الأجنبيّ، إذ يجب أن يكون ساتراً ولا يُظهر تفاصيل الجسم، وأن يكون خالياً من مظاهر الزينة كالألوان الصارخة، أو طريقة الخياطة والتصميم، التي تلفت الأنظار، وتعدّ زينة بنظر العرف، بحيث يلفت اللباس نظر الأجنبيّ ويوجب الوقوع في الفتنة والفساد(4).
5. تجنّب إظهار الزينة في البدن من استعمال مساحيق التجميل ولبس الحلي ونحو ذلك ممّا يعدّ زينة بنظر العرف، قال تعالى: ﴿وقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ... وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: 31).
• ثانياً: عند الرضا بين المتعارفين
بعد التعارف قد يحصل الرضى والوئام بين الطرفين، فيسأل سائل: هل يُسقط الرضى المتبادل بين الشابّ والفتاة المقبلَين على الزواج هذه الأحكام الشرعيّة؟
الجواب واضحٌ بناءً على ما سبق: طالما لم يُعقَد الزواج شرعاً، فإنّ المرأة تبقى أجنبيّةً عن الرجل وفق الاصطلاح الفقهيّ. وعليه، فإنّ فترة التعارف، حتّى في حال اتّفق الطرفان على الزواج، ولبست المرأة خاتم الخطوبة وصار معلوماً أنّها خطيبة فلان، لا تُسقط تلك الأحكام الشرعيّة. وينطبق الأمر نفسه على الحالة التي تمّت فيها الخطبة رسميّاً، أي وافق أهل الفتاة على طلب الخاطب، ما دام العقد الشرعيّ لم يُبرَم بعد. ففي هذه المرحلة، يظلّ كلٌّ منهما أجنبيّاً عن الآخر، ويجب مراعاة تلك الضوابط.
وهذا ما ورد في إحدى استفتاءات الإمام الخامنئيّ دام ظله:
السؤال: حصلت الخِطبة بين المرأة والرجل إلّا أنّه لم يُعقد الزواج بعد، فما حكم حديثهما مباشرة أو عبر الهاتف، أو خروجهما معاً من أجل شراء حاجيات الزواج مع مراعاة الآداب الإسلاميّة؟
الجواب: لا إشكال في ذلك مع مراعاة جميع الضوابط الشرعيّة(5).
• ثالثاً: الخطبة بعقد القران
لقد استثنى الفقهاء من الأحكام والضوابط المذكورة الزوجين، أي في حال عقدت الخطبة بعقد القران كما هو دارج اليوم، فيجوز لكلّ منهما النظر إلى الآخر، وتبادل الكلام معه واللمس، فضلاً عن العلاقة الكاملة بينهما، إلّا ما حرّمه الله تعالى. إلّا أنّ الخِطبة في العرف العام، لا تقبل التعامل بينهما كزوجين، خاصّة أنّ المرأة لم تنتقل إلى منزل الرجل، لذا، ينبغي مراعاة آداب تلك الفترة بما هو متعارف.
ومن الواضح أنّ عقد الزواج هو السبب الذي يُحلّ العلاقة بين الرجل والمرأة، ولولاه، لبقي كلّ منهما أجنبيّاً عن الآخر، بحيث تطبّق عليهما الأحكام المتقدّمة، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام»(6)؛ وعلى الرغم من أنّ هذا الحديث ورد في البيع، فهذا يعني أنّ هذه العقود والمعاملات تنجز بكلمة، ومنها الزواج.
• رابعاً: نصائح شرعيّة
على كلّ شابّين مقبلَين على الزواج أن يعلما أنّه ليس عقداً فقهيّاً فحسب، بل له بُعد معنويّ وعباديّ عظيم. لذلك، ينبغي أن يبدآ علاقتهما برضى الله، ويسعيا إلى طاعته. ومن أبرز ما يوصى به:
1. أن لا يتهاونا أبداً بالضوابط الشرعيّة، إذ لا يجوز ذلك.
2. الحذر من الخلوة بينهما، بحيث يجلسان وحدهما ولا يمكن أن يدخل عليهما أحد، ولو كانا في بيت أهلها أو خارجه.
3. عدم تأخير عقد القران في حال تمّ التوافق بينهما، لأنّه من دوافع عدم تأخير عقد القران هو التزام الطرفين بالضوابط الشرعيّة، خشية أن يقعا في الحرج بسبب وجودهما معاً في مكانٍ واحد، خاصّة وقد تتزايد بينهما مشاعر الحبّ والودّ مع مرور الوقت، فيخشيان الانزلاق إلى ما حرّم الله.
4. مراعاة الآداب في علاقتهما، فيكون ذلك حاجزاً لهما عن ارتكاب المحرّمات. ومن هذه الآداب:
أ. أن لا يختليا ببعضهما، حتّى لو كان يدخل عليهما أحد من وقت لآخر.
ب. التقليل من العبارات العاطفيّة التي قد لا تكون في نفسها حراماً، إلّا أنّها قد تسبّب الفتنة أحياناً.
ج. الابتعاد عن الموضوعات التي قد تحفّز العاطفة وتثير الغريزة.
أخيراً، على أهل الشابّين أن يؤدّوا دوراً توجيهيّاً ورقابيّاً حكيماً، يساعد ولديهما على الالتزام بالضوابط الشرعيّة في مرحلة ما قبل إبرام عقد الزواج، إذ يبقى كلٌّ منهما أجنبيّاً عن الآخر، فلا يجوز التساهل بما قد يعرّضهما للوقوع في الحرام.
* أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالميّة، فرع لبنان.
1. مجمع البحرين، اليازجي، ج 2، ص 51.
2. مستمسك العروة الوثقى، السيّد محسن الحكيم، ج 14، مسألة 39.
3. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 175.
4. أجوبة الاستفتاءات، ج 2، ص 99، سؤالان رقم 281 و282.
5. من أرشيف الاستفتاءات في مكتب الوكيل الشرعيّ للإمام الخامنئيّ دام ظله، لبنان.
6. الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص201، ح 6.