نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناسبة: مُعلّمـي في ذاكرتي


تحقيق: كوثر حيدر


تجلس الأخت منال، مدرّسة اللّغة العربيّة، في مكتبها ليلاً، بعد إتمام واجباتها المنزليّة ورعايتها أطفالها على أكمل وجه. تحضّر برنامج اليوم التّالي، وتصحّح أخطاء اليوم بعبارات الآمال الكبيرة، وإلى جانبها ملصقات تلمع، ترشّها على أوراق الطلّاب الألمع! تضعُ قنديلاً على طاولةٍ متينةٍ قديمة، تحاكي الأجيال الّتي مرّت تحت يديها. لم يتغيّر شيء، سوى أنّها أصبحت أمّاً كبيرة، خرج من رحمها أطفالٌ كُثُر، فهي، على حدّ قولها، "مربيّة قبل كونها مدرّسة".

إنّ مدرّسين ومدرّسات، يحملون مَهمّة "منال"، لا يُحالون على صفحات النّسيان. هم ذاكرة الطّفولة المفعمة بالأحداث. هم ذاكرة الماضي الجميل، الّتي تصنع روّاد الحاضر وقادة المستقبل. نجول في هذا التحقيق بين ذكريات شباب اليوم؛ لنسألهم عن المعلّم الّذي بقي حيّاً في ذاكرتهم، بعد أن غادروا المقاعد الدّراسيّة وباشروا حياتهم وأعمالهم اليوم.


•"آمالنا معقودة عليك"
البداية كانت مع "جهاد"، رجل خمسينيّ يعمل في كبرى المؤسّسات الماليّة في لبنان. انتقل في بداية شبابه للبحث عن فرص ملائمة للعمل خارج البلد. اجتهد كثيراً للحصول على قوت ملائم، وسط أجواء كفيلة بسحق أعظم الأحلام المركونة على هامش القصص المنسيّة، فناضل بين أصقاع الغربة والوطن لتحقيق ما يرنو إليه. ثلاثون عاماً أمضاها في السّعي؛ ليستقرّ في نهاية المطاف في بلده الأمّ، مع عائلته وأولاده الثّلاثة. يركض خلف رحلة السّعي صوت أستاذ قديم، يرنّ صوته في القلب كلّما اجتاح النّفس تقاعس أو استسلام. "كنتُ حينها في المرحلة المتوسّطة، وأحداث البلد لا تنذر بالخير. معظم من عاش تلك الفترة يعلم أنّ غبار الحرب أغشت على عيون أجيال بأكملها. لكنّنا نجونا.. كان لي أستاذ في مادّة الرّياضيّات، واكبني منذ طفولتي وحتّى فترات الشّباب. وكنت حينها قد بدأت بالانجرار خلف التّيارات المسحوقة فكريّاً، فجاء وأيقظني بكلماته الّتي لا أنسى منها حرفاً: (لستَ أنتَ من ينتمي إلى هذه الجماعات. إنّك تملك قدرات عظيمة لإفادة بلدك ومجتمعك، وهذا ليس السّير القويم بالنّسبة إليك. إنّني أبني آمالاً كبرى عليك، لا تخيّب ظنوننا بك). كان وقع كلماته كبيراً في نفسي، فهو لم يكن من المدرّسين العاديّين بالنّسبة إليّ. مكانته واحترامه بين الطّلّاب كانا كبيرَين، وهو من بين أقوى أساتذة الرّياضيات في البلد لشدّة نباهته، فضلاً عن خُلقه الحسن معنا ومع الأساتذة. أشعر أنّ مرور هذا الإنسان في حياتي لم يكن صدفةً، فقد التقيتُ به بعد فترة من انتقالي إلى العمل في الغُربة، وكنتُ حينها أشعر ببعض الفوضى. رؤيته أعادت ترتيب أفكاري من جديد".

•"أريد تغييراً حقيقيّاً"
في مشهد مماثل، تحضر قصّة "حسين" الفتى "النّاريّ"، الذي يُعرف بغضبه السّريع جرّاء أيّ خلاف مع زملائه، ممّا دفع بعض رفاقه إلى الابتعاد عنه في المرحلة الثّانويّة. يتابع "حسين" دراساته العليا في الهندسة في الجامعة اللّبنانية، إلى جانب نشاطه الرّياضيّ والحوزويّ. يصف أستاذه "حسن"، مدرّس اللّغة العربيّة في المرحلة الثانويّة، بالأستاذ المربّي، الّذي أحسن إليه شخصيّاً بالتّأثير في إحداث منعطف كبير في حياته. يقول: "جلس الأستاذ (حسن) معي بعد مشادّة كلاميّة لي مع النّاظر كان قد شهدها في أحد الأيّام، فسألني: متى سينتهي هذا الغضب؟ هل أنت سعيد بالحال الّتي وصلت إليها؟ الجميع يتحاشى الاحتكاك بك بسبب سوء خلقك. كيف ستمضي بقيّة حياتك بهذه العصبيّة؟ اليوم أنت في المدرسة، وأمامك طريق طويل، ولاحقاً ستؤسّس عائلةً، وهذا المسار لا ينبِّئ بالخير. حديثه كان حادّاً. حاولتُ نقاشه لكنّه اعترضني بحجّة ضيق الوقت، وهو قد سمعني كثيراً قبل هذه المرّة. وقال لي إنّه في المرّة المقبلة، سيكون بانتظار رؤية تغيير حقيقيّ في شخصيّتي؛ لأنّ اسمي (حسين) اسم صاحب أفضل الثورات. اليوم، وأنا على مشارف الانتهاء من دراستي الجامعيّة، وأخطّط للزواج وتأسيس أسرة، لا أستطيع القول إنّي تغيّرت كليّاً، ولكنّي منذ ذلك الحين وحتّى اليوم، عند أيّ زلّة أوشك على الوقوع فيها، أتذكّر أنّ اسمي حسين".

•دافعٌ وعطاء
"فاطمة"، خرّيجة الجامعة اللبنانية - اختصاص إدارة الأعمال، تعمل في إحدى المؤسّسات الاجتماعيّة، وربّة منزل، تقول: "مع تغيّر الظروف المعيشيّة، انتقلت إلى إحدى المدارس الرسميّة في الصفّ السابع، وكان عليَّ أن أدرس مادّة الرياضيّات وباقي المواد العلميّة باللّغة الإنكليزيّة للمرّة الأولى. كان جوّ الانتقال، مضافاً إلى دراسة المواد، يزعجني بشدّة، وبدأ يرتسم أمامي مشهد الرسوب، والخجل المرافق له. لكن تعرّفت في الأسبوع الأوّل على أستاذ الرياضيّات، الذي تحدّث مع الطلّاب واكتشف هواجسنا، فكان أستاذاً صبوراً معطاءً، بدّد مخاوفنا من مادته عن طريق حُسن تعامله، وشجّعنا على الدراسة والعطاء في باقي المواد أيضاً. يوماً بعد يوم، أبدعنا في المادة، واستطعتُ أنا وزميلاتي المثابرات حصد المراتب الأولى على باقي الشُعب. كان هذا الأستاذ مؤثّراً جدّاً لناحية دفع الفرد نحو تحقيق الأهداف الصعبة، وظلّ هذا الدافع يرافقني طوال حياتي. ومن الصدف الجميلة التي حملتها السنوات اللاحقة، أنّي وجدت الأستاذ الكريم ناظراً في مدرسة طفلتي الصغيرة".

•اختيار التخصّص الجامعيّ
"فاطمة"، خرّيجة كلية الإعلام في الجامعة اللبنانيّة، تقول: "عندما كنتُ في الصفّ السادس، قامت إحدى المعلّمات باختياري للمشاركة في تقديم أحد الأدوار في برنامج إذاعيّ على إذاعة النور. وقامت معلّمة أخرى باختياري أيضاً للمشاركة في التمثيل في برنامج تلفزيونيّ. أعطتني المعلّمتان فرصةً لاكتشاف مدى حبّي لهذا المجال، وكان ذلك سبباً في اختياري لاختصاصي الجامعيّ".

•معلّمي الشهيد
أمّا "عصام"، أحد المجاهدين، فتدمع عيناه حين يذكر معلّماً واحداً: "كنت ضعيفاً في الموادّ العلميّة في مرحلة المتوسطة، لانتقالي وأهلي من بلاد الغربة إلى لبنان، وعندما كنت على وشك الرسوب أذكر كيف دعاني أستاذ الكيمياء إلى لقائه. كان شابّاً صغيراً متخرّجاً لتوّه، واقترح عليّ أن نمضي وقتاً معاً ليشرح لي ما يصعب عليّ فهمه في الصفّ. المكان الذي اقترحه كان الجامع. لاحظ الأستاذ دهشتي من المكان أوّل مرّة، فاقترح أن أتوضّأ لتحلّ البركة في درسي. كنت لا أصلّي حينها، علّمني الوضوء، وجلسنا نتذاكر كصديقين، بمرح ونشاط. حلَّ وقت الصلاة، علّمني إيّاها بسلاسة، وهكذا لعدّة أسابيع حتّى تخطّيت صعوباتي الدراسيّة حينها، لكنّني أخذت منه أنس المسجد والقرآن والصلاة، والتزمت بفضله. وفي يوم افتقدته في المسجد، حيث يجلس ويقرأ القرآن بانتظاري، يومها علمت أنّ أستاذي كان مجاهداً بطلاً، وأضحى شهيداً. واليوم، أتمنّى أن أكون على خطاه".

•كلماتها بين السطور
أمّا أنا، "كوثر"، كاتبة هذا المقال، فإنّي أيضاً من خرّيجات الجامعة اللبنانيّة، كليّة الإعلام، وأعمل في إحدى المؤسّسات الإعلاميّة. كانت لي معلّمة في مادّة اللغة العربيّة في الصّف السّادس الابتدائيّ، لا يغيب وجهها عن ذاكرتي رغم مرور السّنين. اقتربت يوماً نحوي، وسألتني بصوت منخفض: "من ساعدكِ في فرض الإنشاء؟". رمقتها باستعجاب أن لا أحد، فأبدت إعجابها الشّديد بقلمي، وعقدت آمالاً كبرى عليّ لمتابعة الكتابة. كان كلامها أشبه بإنذارٍ أعجبني، ومنذ ذلك الحين، وفي أوّل يوم لي في كليّة الإعلام، وعند كتابة أيّ مقال وأيّ كلمةٍ، يمرّ وجه معلّمتي بين الأسطر، بابتسامتها اللّطيفة، وسؤالها الخجول.

•دائماً في الذاكرة
لطالما كان التعليم جزءاً أساسيّاً من المنظومة الثقافيّة الإنسانيّة. والذي يدير هذه المنظومة هم الأساتذة أنفسهم. قد ينسى المرء أيّ شيء، لكنّه لن ينسى ذلك "البطل" الّذي أمسك بيده، وعبر به من ظلام الجهل إلى نور المعرفة والعلم، وسيبقى يُشير إلى تلك المدرسة، وذاك الطّابق، وذاك المدرّس الّذي كان الأعزّ على قلبه، والّذي لا يمكن أن يغيب عن ذاكرته.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع