د. علي قاسم مقداد*
تحوّلت المقاومة إلى فلسفة وجود تحدّد معنى الحياة ومغزى الكرامة وحدود الهويّة، ضمن مسارات وسياقات وأطر عباديّة مسلكيّة تشدّد على الربط بين الجهاد الأكبر، أي جهاد النفس، والجهاد الأصغر، أي محاربة الظلم بكلّ صنوفه وأشكاله، في صورة تكامليّة للإنسان الرساليّ ببُعدَيه الماديّ والروحيّ، بحيث تتربّى النفس البشريّة من خلال تجربة عمليّة تجعلها قادرة على التمييز بين الحقّ والباطل.
• الجذور الدينيّة لفلسفة المقاومة
لا يمكن فهم مركزيّة المقاومة في الفكر الشيعيّ من دون العودة إلى التجربة التأسيسيّة المتمثّلة بسيرة الإمام عليّ عليه السلام وملحمة كربلاء بقيادة الإمام الحسين عليه السلام. ففي مثل هذه التجارب، تتجلّى المقاومة بوصفها تكليفاً إلهيّاً قبل أن تكون خياراً سياسيّاً.
فالموقف الحُسينيّ الذي جسّد شعار «هيهات منّا الذلّة» لم يكن مجرّد احتجاج تاريخيّ، بل تحوّل إلى عقيدة وجوديّة تُلزم الفرد بالوقوف في وجه الباطل أينما كان، ولو كان الثمن التضحية بالنفس.
ومن هنا، تشكّلت في الوعي الشيعيّ صورة المقاومة كفعل يشرعن التضحية ويمنحها بُعداً رساليّاً، بحيث يصبح الموت في سبيل الحقّ غاية متمّمة للعقيدة، لا بل هي في صلب فلسفة تجسّد المعنى الحقيقيّ للوجود الإنسانيّ.
• المقاومة كهويّة جماعيّة
عبر التاريخ، تعرّض الشيعة لاضطهاد سياسيّ واجتماعيّ في مراحل مختلفة، ما عزّز تحوّل المقاومة إلى هويّة جمعيّة. فقد تراكمت في الذاكرة الشيعيّة صور الثبات والصبر والاحتجاج، وأصبحت المقاومة عنصراً مكوّناً للشخصية التاريخيّة للجماعة، لا مجرّد موقف ظرفيّ.
هذا الوعي جعل المجتمع الشيعيّ يرى فيها دفاعاً عن الوجود، لا عن أرض أو حدود فحسب، وتكليفاً شرعيّاً اتّخذت معه المقاومة أشكالاً متعدّدة:
- مقاومة فكريّة للمظالم.
- مقاومة سياسيّة للطغيان.
- مقاومة اجتماعيّة للحيف والتمييز.
- مقاومة عسكريّة عند تعرّض الكيان للخطر والاحتلال.
• البُعد الأخلاقيّ: بين العدل والكرامة
يربط الفكر الشيعيّ المقاومة بمبدأين أساسيّين:
1. العدل: هو جوهر العقيدة، بحيث يُنظر إلى الظلم باعتباره فساداً للإنسان والمجتمع، ومقاومته فعل واجب.
2. الكرامة الإنسانيّة: التي لا تُمنح بل تُنتزع من خلال فعل الصمود ورفض الخضوع. ومن هنا، تصبح المقاومة أخلاقاً قبل أن تكون سلاحاً، ووعياً قبل أن تكون معركة.
إنّها حالة من الالتزام الأخلاقيّ تُعيد تعريف مفهوم القوّة، ليس كقدرة على البطش، بل على الثبات أمام الظلم.
• المقاومة مشروع حضاريّ
في الفكر السياسيّ الشيعيّ المعاصر، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران وتبلور تجربة المقاومة في لبنان والعراق، اتّسعت فلسفة المقاومة لتصبح مشروعاً حضاريّاً يناهض الهيمنة والاستبداد العالميّ.
فالمقاومة هنا ليست انعزالاً أو رفضاً للعالم، بل شكلٌ من أشكال المشاركة الفاعلة في كتابة مسار التاريخ، عبر صياغة نموذج مستقلّ من السيادة والحريّة.
كما قدّمت المقاومة نفسها بوصفها منظومة دفاعيّة–اجتماعيّة تحمي المجتمع، وتعيد المكانة لفكرة الاستقلال الحقيقيّ الذي لا يقوم على الاقتصاد أو السياسة وحدهما، بل على قدرة الأمّة على حماية قرارها.
• البُعد الروحيّ والوجدانيّ
المقاومة في الفكر الشيعيّ ليست مجرّد إجراءات عمليّة، بل تمتاز بعمقها الروحيّ. فثمّة شحنة إيمانيّة تشكّل أساس هذه الفلسفة، يتغذّى عليها الشعور بالمسؤوليّة الرساليّة تجاه المستضعفين، والولاء للحقّ، والإيمان بأنّ التاريخ لا يُكتب بالقوّة الماديّة فقط، بل بالدم الذي يُسقى في سبيل القيم.
ولهذا، تُقدَّم مقاومة الاحتلال أو الاستبداد أو الطغيان دائماً كامتداد لمعركة كربلاء. فكلّ ساحة مقاومة تصبح كربلاء جديدة، وكلّ ظالم يتحوّل إلى يزيد جديد، وكلّ مقاوم يُنظر إليه بوصفه امتداداً لثورة الإمام الحسين عليه السلام.
بهذا المعنى العميق، تصبح المقاومة في الفكر الشيعيّ طريقة لفهم الوجود، وإطاراً للحياة، ومنهجاً للكرامة. إنّها رفض دائم للظلم، وإصرار دائم على بناء عالم أكثر عدلاً.
إنّ فلسفة المقاومة ليست نظريّة جامدة، بل حركة دائمة ترافق المجتمع في مراحله كلّها، وتشكّل قلب الوعي الجمعيّ وروحه.
إنّها ليست فعلاً يبدأ بالحرب وينتهي بالسلام، بل حالة وعي متّصلة، تجعل من الحقّ مبدأً، ومن الصمود طريقة حياة.
*أكاديميّ وباحث في العلاقات الدوليّة.