ماجدة ريّا
دخل فواز إلى منزله والشرير يتطاير من عينيه ونبرات الغضب جلية في صوته:
-ألم أطلب منكِ أن تمنعيه من الخروج؟!
أجابت الأم المسكينة بهدوء وصبر:
-امنعه؟! إنّه شاب ولا يمكن أن أسجنه في المنزل طول النهار!؟
وعلا صارح الأب من جديد:
-لكنّك تعرفين إلى أين يذهب؟
-أنا أعرف شيئاً واحداً فقط: إنّنا ربيناه أفضل تربية بحيث يبقى قلبي مطمئناً حيثما يذهب.
-حتّى ولو ذهب إلى الموت؟
-لا أحد يذهب إلى الموت يا فواز، بل الموت يأتي إلينا ولو كنّا في بروج مشيّدة!!
-هذا ما تريدينه؟ ولكن لتعلمي وليعلم ابنك أنني لست راضياً عن هذا التصرف.
صفق الباب وراءه وخرج غاضباً وترك ليلى حائرة لا تدري ماذا تفعل وآلاف الأفكار تتضارب في رأسها: "ربّي .. ساعدني على إقناعه بأنّ هذا الدرب هو الدرب الصحيح.. ساعدني يا رب".
عاد هادي من جهاده متعباً فأخذ حماماً سريعاً ودخل غرفته ليستريح وإذ بباب الغرفة يفتح ليدخل منه والده متجهم الوجه، مقطب الجبين لينهره قائلاً:
-عدت إذاً؟
-بإذن الله عدت.
-هادي .. لقد ربيتك يوماً بيوم لتخرج الآن عن طاعتي؟
-أنا لا أخرج عن طاعتك يا والدي ولكن طاعة الله أولى.. أنا لا أمشي في درب السوء لا سمح الله، وإنّما الدرب الذي اخترته هو أشرف درب يمكن أن يختاره إنسان..
-ليمشي به غيرك إذاً.. أما أنت فلا.
-أرجوك يا والدي أن تفهمني، هكذا أحب حياتي أن تكون ولن أرضى عن هذا الدرب بديلاً.
-لا رجاء عندي، ولست براضٍ عنك!
خرج من عند ولده غاضباً ليصب جام غضبه على زوجته من جديد:
-كفى يا ليلى عن التأثير في ولدنا، فأنت التي تحضينه على اتباع هذا الطريق؟!
- لا يا فواز .. أنا لم أطلب منه أي شيء وإن كنت أحبذ ذلك، ولكنّني لا أستطيع أن أمنعه عن الخير.
وصرخ بأعلى صوته: أي خبر هذا؟ أي خير! أكاد أجنّ معكما!
-استهدِ بالله يا فواز وعمّق صلتك به علّه يهديك.
تركها تكمل كلامها وحدها وخرج..
انتبه فواز من نومه مذعوراً وهو يردّد "لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.. لا حول ولا قوّة إلاّ بالله..".
وسألته ليلى مندهشة:
-ما بك يا فواز؟
-الحمد لله إنّه حلم.. لا بل كابوس!..
-خيراً إن شاء الله؟! ماذا رأيت؟
-تصدّقي أولاً .. إنّ قلبي لواجف مما رأيت!
-حسناً سأفعل لكن أخبرني..
-رأيت أرضاً خضراء، شبت فيها النيران، والناس حولها يحاولون إخمادها وفجأة رأيت هادي من بين الجموع يركض باتجاه النيران وهو يرش عليها الماء ليطفئها فزلّت قدمه ووقعه فيها وأنا لا زلت أصرخ وأناديه..
-أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
إسمع يا فواز، أريد أن أقول لك شيئاً واحداً فقط!
-قولي.
-إنّ لكلّ إنسان عمراً محتوماً لا يتجاوزه أبداً وهو بمشئية الله، وإذا كان عمر ولدي لا بدّ أن ينتهي وهو في ريعان شبابه فمن الأشرف لنا ألف مرة أن ينتهي بالشهادة وليس بأي شيء آخر.
-ليلى!.. قال ذلك بنبرة حادة.
أجابته بهدوء أعصاب:
-نعم يا فواز، إنّها الحقيقة، هل تستطيع أن تمدّه بعمر جديد؟ هل تستطيع أن تنتشله من النار أو من أيّ شيء يصيبه؟
-كلاّ! قال ذلك بحسرة.
-إذاً دع ولدك يعمل بما يرتاح.. سلّمه لله.
-لقد سلمته لله يا ليلى ولكن!
-من دون لكن! ارضَ عنه ودعه ينطلق أكثر وشجّعه بدلاً من أن تحاسبه؛ فبذلك يرتاح.
-حسناً يا ليلى! لكم ما تريدون.
خرجت ليلى إلى غرفة الجلوس لتجد هادي واقفاً ينظر من النافذة إلى البعيد نظرات تائهة والحزن بادٍ في عينيه.. اقتربت منه أمّه وربتت على كتفه وهي تسأله بصوتها الحاني:
-أراك حزيناً يا هادي، ومضطرباً..
-نعم يا أمي.
-هلا أخبرتني ما بك؟
-أشعر في أعماقي بأنّني أصبحت أقرب إلى الآخرة منّي إلى الدنيا وإن رحيلي عن هدف الدنيا ليس ببعيد.
-وهل هذا يزعجك يا هادي؟
-طبعاً لا، لأنّ هذا ما أريده.. تابع وقد غصّت عيناه بالدموع: لا أريد أن أرحل عن هذه الدنيا وأبي غير راضٍ عنّي؛ ذلك يؤلمني ويحزّ في نفسي، بل يكسر أجنحتي التي سأرتفع بها..
-لا تحزن يا هادي لأنّ أباك قد اقتنع بعملك ووافق عليه.
تفاجأ هادي بالخبر وبدت الدهشة في عينيه وصرخ بأعلى صوته:
-أمّي! أحقاً ما تقولين؟!
-نعم يا حبيبي فلتذهب مطمئناً، ولتعمل بما يريحك وليهدأ بالك من ناحية أبيك.
-الحمد لله.. الحمد لله.. سأذهب إليه، أين هو؟!
-ما زال في غرفته.
ركض هادي فرحاً وما إن وصل إلى أبيه حتّى اعتنقا وبكيا وكأنّه موكب وداع وأخذ كلّ منهما ينظر إلى الآخر وعيناه تفيضان بالدموع وكأنّه اللقاء الأخير.