نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

اليد المنتجة.. مباركة

الشيخ محمّد حسن زراقط

العمل في الإسلام مفهوم مركزيٌّ، تدور حوله مجموعة من التشريعات والقيم التي شرّعها الله عزّ وجلّ وأقرّها.

وتتنوّع هذه التشريعات والقيم بين مشجّعة على أصل العمل أو على بعض أنواعه، ومحرّمة لبعض أشكاله، ومنظّمة لطرائق أدائه، ومحافظة على حقوق بعض أطرافه. وما سوف نسلّط الضوء عليه في هذه المقالة، هو نظرة الإسلام إلى العمل الاقتصاديّ المنتج، بغضّ النظر عن كونه تجارة أو زراعة أو عملاً حرفيّاً أو منزليّاً. والدعوى التي ندّعيها سوف نحاول إثباتها على ضوء النصوص الدينيّة، سواء من القرآن أو السنّة الشريفة عند الحاجة.

•روح العمل ومساحته في التشريع
لا يمكن التعرّض لجميع الأحكام والتعاليم الإسلاميّة المرتبطة بالعمل في مقالة مختصرة. وتكفينا من باب المقدّمة الإشارة إلى نقطتين تكشفان عن مدى اهتمام الإسلام بالعمل وطبيعة نظرته إليه:

الأولى: على الرغم من التكريم الإلهيّ للإنسان وجعله خليفةً، إلّا أنّه تعالى رهن نيل جنّته ورضاه، بل وشفاعة أوليائه، بالعمل. والنصوص الدالّة على ذلك كثيرةٌ، منها الآيات الكاشفة عن أنّ الله لا يبذل جنّته بالإيمان وحده إن لم يكن مقروناً بالعمل، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ (الكهف: 107). وعلى هذه الآية الشريفة تُقاس سائر الآيات المشابهة.

الثانية: من يعرف الفقه الإسلاميَّ، الذي هو تعبير عن مساحة واسعة من الرؤية الإسلاميّة إلى الإنسان وحركته في هذه الأرض، يعرف أنّه ينقسم، بحسب أحد تقسيماته، إلى قسمين أساسين: أحدهما العبادات، والآخر المعاملات، وقسم كبير من المعاملات مخصّصٌ للبحث في العمل الإنتاجيّ والأحكام المرتبطة به من جهاتٍ عدّة. وحجم الاهتمام يكشف عن الأهمّيّة، كما لا يخفى.

•العمل المنتج: قيمة إسلامية خاصّة
وما يفيد احترام الإسلام للعمل الاقتصاديّ المنتج، ويشكّل بالتالي الرؤية الإسلامية في هذا المجال، أمور عدّة، نعرضها تباعاً:

1- العمل المنتج قيمة في حدّ ذاته:

يرى علماء الكلام والفقهاء المسلمون الشيعة، أنّ الله تعالى لا يأمر إلّا بالشيء الحسن، ولا ينهى إلّا عن الشيء القبيح(1). وعلى ضوء ذلك، تكون الآيات الآمرة بالسعي والعمل المنتج دليلاً على أنّ العمل المنتج حسنٌ ولذلك أمر الله به. والآيات التي نشير إليها كثيرةٌ، منها:

- قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الجمعة: 10). ومن أجمل الدلالات التي تتضمّنها هذه الآية وشبيهاتها في النصّ، أنّها تعبّر عن السعي في طلب الرزق بأنّه ابتغاء من فضل الله تعالى. وهذا تعبير يكشف عن احترام الجهد الذي يبذله الإنسان في العمل المنتج. وكأنّ الآية تريد أن تقول للإنسان: أيّها الإنسان أنت عندما تسعى لا تبتغي الحصول على لقمة أو مبلغ من المال، بل أنت تسعى وراء فضل الله تعالى.

- قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: 15). ومن الواضح أنّ الربط بين المشي في مناكب الأرض وبين الدعوة إلى الأكل، دليل على أنّ المراد من المشي هو السعي في الإنتاج، فإنّ الأكل يتوقّف على تحصيل المأكل بالإنتاج. ويؤكّد هذا المعنى أنّ عدداً من المفسّرين يرون أنّ تذليل الأرض هو تطويعها للإنسان وجعلها صالحة للعمل فيها واستخراج الرزق منها(2).

2- العمل أحد غايات الخلق:

من المبادئ الأساسيّة في الرؤية الكونيّة الإسلاميّة مبدأ الاستخلاف الذي يعبّر عنه قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30). ومن معاني الاستخلاف، أنّ الله أوكل إلى "الإنسان زمام هذه الأرض، والكشف عمّا فيها من قوى ومنافع والاستفادة منها"(3). ومن المعاني المرتبطة بالاستخلاف مفهوم "الاستعمار"، الذي ورد في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61). والعمارة هي جعل الأرض عامرةً، والاستعمار هو طلب العمارة بأن يُطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرةً تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها(4). ولا يتمّ الإعمار ولا تتحقّق الاستجابة للدعوة الإلهية إلى عمارة الأرض إلّا بالعمل المنتج.

3- العمل المنتج مقدمة للاستقلال والاستغناء عن الآخرين:

من القيم الإيجابيّة العليا في الإسلام قيمة الاستقلال والاستغناء عن الآخرين. ويتوقّف الاستقلال والاستغناء عن الآخرين على بذل الجهد والعمل المنتج ليستغني الإنسان عن الآخرين. ومن جميل ما يُنسب إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قوله: "احتج إلى مَن شئت تكن أسيره، واستغنِ عمّن شئت تكن نظيره، وأفضِل على مَن شئت تكن أميره"(5). وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "اللهم بارك لنا في الخبز، ولا تفرّق بيننا وبينه، فلولا الخبزُ ما صُمنا ولا صَلَّيْنا ولا أدَّينا فرائضَ ربِّنا عزّ وجلّ"(6). وهذا الحديث من الأحاديث اللافتة التي تؤشّر إلى أثر الخبز الذي يرمز إلى الحاجات الغذائيّة، والعلاقة بينه وبين ترك الصلاة والصوم اللذين هما من أهم عناصر الهُويّة الإيمانيّة. وهذا يعني أنّ الحاجة الاقتصاديّة تعوق الإنسان عن طلب الكمال وعن أداء واجباته الدينيّة، فضلاً عن أنّها وسيلة قد يستغلّها العدوّ لتحقيق مآربه وأغراضه. والخبز لا يحصّله الإنسان إلّا بسلسلة من الأعمال الاقتصاديّة المنتجة(7).

4- ذم الكسب من غير عملٍ:

تحريم الربا في شريعة الإسلام من الثوابت التي لا يرقى إليها الشكّ. وقد نهى الله عزّ وجلّ عنه في القرآن ووردت أخبار كثيرةٌ في السنّة الشريفة تذمّ المراباة وتنهى عن الربا. وممّا يلفت النظر في القرآن هو المقارنة التي ينقلها الله عزّ وجل عمّن يحاول التملّص من تحريم الربا، بمقارنته بين البيع والربا ومحاولة التسوية بينهما، وذلك في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275). ولسان الآية لسان استنكار للتسوية بين البيع والربا. ولعلّ أهّم الفوارق التي تجعل هذه التسوية خاطئة وغير صحيحة هي أنّ الربا ربحٌ دون جهد، أمّا البيع فهو ربحٌ مع جهد. والقاعدة العامّة التي تقرّها شريعة الإسلام هي تحريم أكل المال بالباطل، المستفادة من قوله تعالى: ﴿لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ (النساء: 29). وفي مقابل هذا الموقف السلبيّ نجد أنّ الشريعة الإسلامية تعترف بقيمة الجهد الذي يبذله الإنسان. ويتجلّى هذا التعليم الإسلاميّ في عددٍ من التشريعات؛ منها أنّ تملّكَ الأرض المباحة يتحقّق بتحجيرها وإحيائها، والأشياء المباحة تملك بالحيازة، وثمّة حالات يُفرض فيها على المستفيد من عملٍ أن يدفع أجرة المثل للعامل؛ كي لا يذهب عمله هدراً.

5- إعطاء القيمة الماليّة للعمل المنزليّ:

من المفاهيم الخاطئة في عصرنا هذا، تقسيم الزوجة إلى امرأة عاملة وامرأة غير عاملة. والمرأة غير العاملة هي التي تتولّى تربية أطفالها وإدارة منزلها. ووجه الخطأ في هذا التقسيم، أنّ الشريعة الإسلامية تعدّ العمل المنزليّ عملاً منتجاً، وتقرّ في مقابله حقّاً ماليّاً يمكن للزوجة أن تُطالب به، سواء كان ذلك إدارة المنزل وأداء الأعمال المرتبطة بها أو تربية الأطفال من رضاعهم إلى غير ذلك من الأعمال التي تتوقّف عليها التربية. وكي لا نطيل نكتفي بالتأمل في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ (الطلاق: 6). فالآية واضحة الدلالة على أنّ الرضاع عملٌ تستحقّ المرأة الأجر عليه حتى لو كانت أمّاً للرضيع. وعندما ننظر في المجتمع الإسلاميّ المعاصر أو القديم لا يخبرنا هذا التاريخ، في حدود اطلاعي، عن أنّ أمّاً أخذت أجراً على إرضاع وليدها. وبالتالي يبدو هذا التشريع وكأنّه مجرّد اعتراف نظريّ يهدف إلى إلفات النظر إلى أنّ الجهد في تربية الولد عملٌ له قيمة ماليّة، بغضّ النظر عن المطالبة بها أو التسامح فيها.

ختاماً، تكشف الملاحظات المتقدّمة عن أهمية العمل الاقتصاديّ المنتج في الإسلام. وما تقدّم ليس سوى غيضٍ من فيض دلائل ومؤشّرات تكشف عن نظرة الإسلام إلى العمل ورفعه من قيمته، منها دعوة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم إلى متابعة ما يعمل فيه الإنسان حتى لو داهمته القيامة(8)، ومنها، وربّما من أهمّها، أنّ من يراجع سيرة الأنبياء يجد أنّه كان لكلّ منهم مهنة وحرفة يعتاش منها، كالرعي في حالة النبيّ موسى عليه السلام، وصناعة الدروع في حالة النبيّ داود عليه السلام، والتجارة في حالة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم.

1.دروس في العقيدة الإسلامية، مصباح اليزدي، ص189.
2.انظر: الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائيّ، ج19، ص356.
3.التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنيّة، ج1، ص79.
4.انظر: الميزان في تفسير القرآن، (م.س)، ج10، ص310.
5.الإرشاد في حجج الله على العباد، المفيد، ص303.
6.الكافي، الكليني، ج5، ص73.
7.انظر: نهج البلاغة، باب الخُطب، الرقم 209.
8.انظر: كنز العمال، الحديث 9056.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع