أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

الانضباط الذاتي: المناشىء والعوائق

تحقيق: فاطمة علي مصطفى


كان الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمن، ولا يزال، معنياً بأدق التفاصيل المتعلقة بالبشرية سيما الاجتماعية منها وذلك من خلال عنايته بالفضائل النفسية والأخلاق الحميدة التي اعتبرها الأساس في بناء المجتمع الإسلامي. ولعل أول ما يدفع المسلم لتطبيق هذه الأخلاق المتجسدة بأنواع السلوك، هو محاربة الهوى وضبط النفس بطريقة ذاتية وترويض الفرد نفسه على ما يسمى بـ"الإنضباط الذاتي"... فما هو مفهوم الإنضباط الذاتي؟ وما هي أبرز أسباب الفوضى؟ وأين تكمن المشكلة؟ أفي النظام، أم في الفرد، أم في الحاكم؟ وما هو دور الفرد والمجتمع في هذا المجال؟

*مفهوم الإنضباط:
الإنضباط هو السلوك الذي ينسحب من داخل الشخصية على الخارج من حيث تعاملها مع الآخرين وفق منهج معين يخضع للثقافة التي تطبع هذا المجتمع أو ذاك، حيث يخضع له الفرد في تعامله مع الآخرين. و يتمثل بمراعاة ما عليه من واجبات وما له من حقوق وتطبيقها، و الالتزام بالمعايير الاجتماعية بصورة ذاتية بمعزل عن نظام الثواب والعقاب، أي دون أية حوافز.

*منشأ الفوضى من أين؟
تختلف الدوافع والأسباب التي تؤدي إلى الفوضى و مخالفة النظام باختلاف المناخات الاجتماعية والثقافية، كما تتعدد تبعاً للاختلافات الفردية. فـ (ميسان/طالبة) تعتبر أن أهم الأسباب هي سرعة العصر الذي نعيشه، فنحن في سباق مع الزمن، والحياة صعبة تحتاج إلى متطلبات كثيرة علينا أن نوفق بينها، وذلك سينعكس سلباً على مراعاة جميع الضوابط، فالسائق مثلاً لا يستطيع تطبيق كل نظم السير عندما يكون الوقت ضيقاً. كما تعتبر (ميسان) أن قلة من الناس هم من يمتلكون (ملكة) الإنضباط الذاتي. لكن الأمر يختلف بالنسبة لـ(يوسف/موظف)؛ فهو يعزو الأسباب إلى ذات الإنسان فيقول: "كل فرد يمتلك القدرة على تطبيق النظام بشكل ذاتي، ولكن النفس البشرية تأمر بالشر ﴿إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي﴾﴿53﴾(يوسف) لذلك فإن من طبيعة الإنسان ألا يتقيد بالنظام إلا بوجود الموجه". وقد تنبه علماء النفس الاجتماعي إلى أهمية تحليل مظاهر السلوك البشري والتفرقة بين ما هو راجع منها إلى عوامل فطرية أو غريزية وبين ما هو راجع منها إلى أنماط ومظاهر ثقافية أي إلى تأثير البيئة الثقافية. وهذا ما توافق عليه (أم أحمد/ربة منزل) فتعتبر: "أن الدوافع تنقسم إلى قسمين: نفسية تكون بشكل فطري، فالبعض يكون لديه استعداد لتطبيق النظام من تلقاء نفسه، وآخر تكون الفوضى جزءاً من حياته. واجتماعية: إذ أن الإنسان "حيوان اجتماعي" يقوم بتقليد ما يدور حوله منذ الصغر. وهنا يبرز دور الأسرة والمربي "فمن شب على شي‏ء شاب عليه".

*من يتحمل مسؤولية التقويم؟
لا بد لكل مشكلة من وجود مسؤول عن حدوثها وتقويمها. ففي نظر (يوسف): "للقيمين الدور الأهم والأبرز (فمن نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتهذيب نفسه) فالإنسان الذي يدعو الناس إلى التقيد بالقانون عليه أن يلتزم هو نفسه بهذا القانون فيقوم بتنفيذ عمله على أتم وجه ليكون قدوة حسنة للآخرين". ويضيف: "الأسرة والمجتمع ووسائل الإعلام والقيمون تقع عليهم جميعاً المسؤولية فهذه العلل تتضافر لتكوّن شخصية الإنسان السوي". أما (زينب/معلمة) فقد رأت أن: "جميع المؤسسات الاجتماعية من أسرة ومدرسة وإعلام... تكمل أدوار بعضها البعض ولكن الأهم على الإطلاق هو جو الأسرة والتربية المنزلية والعادة التي ينشأ عليها الفرد". وفي الواقع فإن عملية التطبيع الاجتماعي ما هي إلا عادات ينقلها وسطاء إلى الطفل كالعادات وأنماط السلوك المختلفة من النظافة والمشي وتطبيق القانون ورد التحية... وهذه العادات تعوّد الطفل على أن يتكيف مع البيئة الاجتماعية ومع أفراد محيطه. أما (أيمن/مهندس) وانطلاقاً من قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" فقد رأى أن: "جميع المسلمين مسؤولون عن تطبيق القانون؛ فالرسول قدوتهم وعليهم إتباعه، ليس فقط في الأمور الفقهية بل في جميع أعماله. خاصة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا يؤدي حتماً إلى احترام القوانين ووضعها موضع التطبيق. وعلى الفرد أن يعتبر أن تطبيق النظام حق له وليس واجباً عليه، لأنه يصب في مصلحته. فالعلاج يبدأ من الفرد نفسه (معلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم) أما القيمون فهم أداة لتطبيق النظام". كما يلفت النظر إلى أن "على رجال الدين الحث على تطبيق النظام وتشجيع الرقابة الذاتية وليس فقط تعليم الأمور الفقهية فالإمام علي عليه السلام يقول: اللَّه... اللَّه... في نظم أمركم".

*الصرح العلمي أمثولة النظام (مجتمع مصغر):
يقول د. طلال عتريسي أستاذ علم الاجتماع التربوي وعلم النفس الاجتماعي ومدير معهد العلوم الاجتماعية عن حقيقة وجود الحافز الذاتي للانضباط: "إن الإنسان بطبيعة تكوينه يمتلك استعداداً مزدوجاً للانحراف من جهة، وللاستقامة من جهة أخرى. لذلك يحتاج إلى قانون أو سلطة لتنظيم وضبط علاقاته مع الآخرين. ومن دون هذا القانون الإلهي أو الوضعي، فإن الدوافع الذاتية والرغبات المختلفة هي التي تسيطر على سلوكه". إذاً فإن أهم دوافع الفرد للفوضى هي حب الذات "بالطبع لأن الإنسان يرغب بأن يحصل على ما يريد بأقصر الطرق وأسهلها، وهذا قد يتنافى مع الواقع والقوانين ولهذا يحتاج كل مجتمع إلى النظام الذي يحدد لكل فرد حقوقه وواجباته بغض النظر عن الدوافع الذاتية التي قد تتعارض في كثير من الأحيان مع القوانين والأنظمة، كما يحتاج إلى الأداة التي بواسطتها يتم تطبيق النظام". أما عن تكوين الرادع فقد رأى د. عتريسي "أن التربية وصولاً إلى التشريعات المختلفة التي تمثلها السلطة بأشكالها كافة هي التي تردع جوانب الانحراف وتعزز أو تفرض جوانب الاستقرار". وفيما يتعلق بالإرث الثقافي الذي تتناقله الأجيال من عادات وتقاليد ومقاييس خاصة بكل مجتمع فيقول: "العامل الاجتماعي يلعب دوراً أساسياً ومهماً بالتدريب على تطبيق النظام والعامل الاجتماعي هو مجموع المؤسسات التي تتدخل في التنشئة الاجتماعية، من الأسرة إلى المدرسة إلى المؤسسات الثقافية والإعلامية لأن الجانب الوراثي مهما كانت طبيعته سوف يخضع للضوابط الاجتماعية على امتداد سنوات طويلة تبدأ من الطفولة لتتحول بمرور الوقت للتكيف مع القوانين العامة والمعايير الاجتماعية في مجتمع معين". أما عن مسؤولية الإعلام ورجال الدين وواجبهم اتجاه الآفات الاجتماعية ومعالجتها بصفتهم العامل الأقوى، نظراً لما يحتلونه من مساحة واسعة من اهتمام العامة فيرى د. عتريسي: "أن العصر الذي نعيشه يلعب فيه الإعلام والرأي العام دوراً مهماً خاصة في التأثير على سلوك الفرد وعلى الأفكار وعلى اتجاهات الرأي العام السياسية والأخلاقية وغيرها. وهذا يعني أن ما تنقله وسائل الاعلام يساهم مباشرة في طريقة التعاطي مع القوانين والأنظمة واحترامها، أو رفضها وعدم الاكتراث بها. ومما يزيد دور الاعلام في عصرنا هو أن تأثيره يطال معظم أفراد المجتمع وليس شريحة محددة. أما رجال الدين فإنهم في مجتمعاتنا ذات الإرث الثقافي الديني يلعبون دوراً بارزاً بسبب نظرة التقدير التي يحظون بها والتي تجعلهم من حيث يدرون أو لا يدرون قدوة للآخرين خاصة وأن الدين الإسلامي يحرص على عملية الضبط الداخلي للرغبات والنوازع. كما أن رجال الدين لديهم فرص متعددة للاتصال بأوساط اجتماعية مختلفة".

*من التنظير إلى التطبيق:
نظراً للآثار السلبية الكثيرة المترتبة على عدم الانضباط وخروجاً منها من الحيز النظري إلى الحيز التطبيقي، قامت جمعية الإمداد الخيرية الإسلامية خلال العام الدراسي السابق بإطلاق حملة للإنضباط الذاتي ضمن ثانوية الإمام الخميني قدس سره لتقويم سلوك الأفراد ووضعهم على المسار الصحيح وتسليط الضوء على أبرز النقاط الحية التي تساعد على ذلك. وعن هذه التجربة تحدثنا رانية بلوط-المشرفة التربوية فتقول: "لاحظنا من خلال عملنا مع التلاميذ الذين يشكلون صورة مصغرة عن المجتمع أن هناك سلوكيات معينة تعد سلبية إلى حد ما ولا بد من تقويمها والتشجيع على سلوكيات جديدة. وقد تم المشروع من خلال خطوات مدروسة بدأت بالتخطيط والتنسيق مع مدير الإشراف والإعداد التربوي ثم مع الإداريين والهيئة التعليمية. وقد بدأ العمل الميداني بتوزيع لوائح هدفها تحديد المعايير المطلوبة من التلميذ والمعلم. كما نظمت ملصقات تتضمن أحاديث وأقوالاً وآيات وأدبيات تخدم هذا الهدف، كما أنشئت إذاعة تربوية داخلية تقوم بإرشاد الطلاب ومساعدتهم". ومع أن عمر التجربة كان قصيراً حيث إنها لم تتخط أربعة أيام فقد آتت أكلها وحصدت نجاحاً عبّر عنه الجميع من خلال استفتاءات منظمة جاءت نتائجها على الشكل التالي:

- لاقى البرنامج ترحيباً إجمالياً من المعلمين وطالبوا بتفعيله أكثر.
- ساهم البرنامج خلال أيامه الأربعة بتسهيل العلاقة بين مختلف الأفراد.
- تعويد التلاميذ على الانضباط الذاتي خصوصاً الصغار منهم "فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر".
- تنمية الحس بالمسؤولية.

لقد تم نجاح البرنامج بنسبة 70% وقُيم بأنه جيد. وتختم رانية بقولها: "في النهاية لمسنا فعلاً أن هذا البرنامج قد رسخ في أذهان الطلاب مفهوم الإنضباط الذاتي وساعدهم أكثر على تحدي النفس..."

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع