مع الخامنئي | التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام* تسابيح جراح | من الانفجار... وُلد عزّ لا يُقهر عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1) مناسبة | التعبئة روح الشعب الثوريّة مجتمع | متفوّقون... رغم الحرب آخر الكلام  | إلى أحمد الصغير القويّ قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام سيرة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم نموذجُ الحياة الطيّبة الإمام عليّ عليه السلام مظهرُ العدالة والإصلاح برّ الوالدين في سيرة أهل البيت عليهم السلام

الإمام عليّ عليه السلام مظهرُ العدالة والإصلاح

الشيخ د. خليل رزق
 

إنّ تحقيق العدل الذي تحتاجه المجتمعات والأفراد كحاجة مقوّمة للحياة عموماً، من أصعب ابتلاءات البشريّة لناحية التطبيق؛ لأنّها تصارع الأنانيّة، والعجز، والجهل أحياناً. لذلك، نحتاج إلى نموذج المعصوم الذي يقيم العدل لله فقط، ويواجه أيّ تحدّيات أو عقبات تقف أمام هذه المهمّة الجليلة.
يعدّ الإمام عليّ عليه السلام من أبرز النماذج في تاريخ الأئمّة عليهم السلام، الذي ما قاتل إلّا لتحقيق العدالة والحقّ. ولو ثنيت الوسادة لباقي الأئمّة، لرأينا مشهداً غنيّاً بالمواقف والدروس.

 
• الإمام علي عليه السلام يمنع الاحتكار
احتكار الطعام هو حبسه بهدف الغلاء ورفع سعره، أو شراؤه وحبسه ليقلّ فيغلو. ومتى ضاق على الناس الطعام، ولم يوجد إلّا عند من احتكره، كان على السلطان أن يجبره على بيعه. ولأهميّة ذلك، نرى أنّ الإمام عليّاً عليه السلام كانت توجيهاته تصبّ في إطار النهي عنه، ومنها ما ورد عنه عليه السلام من كتابه إلى رفاعة: «اِنهَ عن الحكرة، فمن ركب النهي فأَوجعْهُ، ثمّ عَاقبْهُ بإظهار ما احتكر»(1). وعنه عليه السلام أيضاً في عهده إلى مالك الأشتر: «ثمّ استوصِ بالتجّار وذوي الصناعات... واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به، وعاقبه في غير إسراف»(2).
وحدّ الاحتكار في الغلاء وقلّة الأطعمة ثلاثة أيّام، وفي الرخص وحال السعة أربعون يوماً(3). وتوسّع الفقهاء المعاصرون في بيان حدّ الاحتكار وشموله لكلّ احتياجات البشر بما في ذلك النفط والكهرباء. لذا، نهت الشريعة الإسلاميّة عن الاحتكار لما فيه من مفسدة عامّة. وقد أثبتت التجارب والأيّام أنّه سبب مباشر للاستعمار والحروب، واستعباد الشعوب، وإزهاق الأرواح بالملايين، وإشاعة الرعب والخوف في النفوس، واختلال الأمن والنظام والتزوير، وسيطرة الظالمين، وتحكّمهم بالبلاد والعباد، وحرمان المعوزين من مقدّرات الحياة وأسبابها، إلى غير ذلك.

• تأمين معيشة الضعفاء
ورد في كتاب الإمام عليّ عليه السلام إلى مالك الأشتر، أنّه كتب إليه: «ثُمَّ الله اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ، وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرَّاً، وَاحْفَظْ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَد، فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى»(4). فجعل بهذا النصّ قسماً مخصّصاً من خزينة الدولة لإعالة العاجزين والمحتاجين الذين لا يستطيعون العمل أو لا يكفيهم ما يحصلون عليه، وثبّت مبدأ ضمان الدولة لكلّ فرد من أفراد المجتمع مسلماً كان أم غير مسلم. وقد روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه رأى شيخاً نصرانيّاً من أهل الذمّة، يتكفّف الناس ويسألهم المساعدة، فقال الإمام عليه السلام : ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، نصرانيّ. فقال عليه السلام : «استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال»(5).

• الانتصار للمظلومين
يروى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام مضى إلى السوق، وحين وصل إلى التمّارين، فإذا جارية تبكي على تمّار، فقال: ما لك؟ قالت: إنّي أمة أرسلني أهلي أبتاع لهم بدرهم تمراً، فلمّا أتيتهم به لم يرضوه، فرددته، فأبى أن يقبله، فقال: يا هذا، خذ منها التمر، وردّ عليها درهمها. فأبى، فقيل للتمّار: هذا عليّ بن أبي طالب، فقبل التمر، وردّ الدرهم على الجارية، وقال: ما عرفتك يا أمير المؤمنين فاغفر لي. فقال عليه السلام : «يا معشر التجّار، اتّقوا الله، وأحسنوا مبايعتكم، يغفر الله لنا ولكم»(6).

• مساواة نفسه بالآخرين
نُقل أنّ أمير المؤمنين عليه السلام مضى إلى سوق الكرابيس (الأثواب القطنيّة)، ومعه مولاه قنبر، فوقف على غلام، فقال: «يا غلام، عندك ثوبان بخمسة دراهم؟». قال: نعم عندي، فأخذ ثوبين؛ أحدهما بثلاثة دراهم، والآخر بدرهمين، فقال: «يا قنبر، خذ الذي بثلاثة». فقال: أنت أولى به؛ تصعد المنبر، وتخطب الناس. قال عليه السلام : «وأنت شابّ ولك شرة الشباب، وأنا أستحيي من ربّي أن أتفضّل عليك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ألبسوهم ممّا تلبسون، وأطعموهم ممّا تطعمون»(7).

• حلّ الخصومات
ورد في تاريخ الطبريّ عن يزيد بن عدي بن عثمان: رأيت عليّاً عليه السلام خارجاً فسمع صوتاً: يا غوثاً بالله! فخرج يحضر نحوه حتّى سمعت خفق نعله وهو يقول: أتاك الغوث، فإذا رجل يلازم رجلاً، فقال: يا أمير المؤمنين، بعت هذا ثوباً بتسعة دراهم وشرطت عليه ألّا يعطيني مغموزاً ولا مقطوعاً، وكان شرطهم يومئذ، فأتيته بهذه الدراهم ليبدلها لي، فأبى، فلزمته، فلطمني! فقال عليه السلام : «أبدله». فقال: بيّنتك على اللطمة؟ فأتاه بالبيّنة. فأقعده، ثمّ قال: «دونك فاقتصّ!» فقال: إنّي قد عفوت يا أمير المؤمنين. قال: «إنّما أردت أن أحتاط في حقّك»، ثمّ ضرب الرجل تسع درّات، وقال: «هذا حقّ السلطان»(8).

• التقسيم بالعدل والإنصاف
ذكر الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص حول بيانه لفضائل الإمام عليّ عليه السلام أنّ واحدة من هذه الفضائل القسم بالسويّة والعدل في الرعيّة، فقد ولّى بيت المال عمّار بن ياسر وأبا الهيثم بن التيهان، فكتب عليه السلام : «العربيّ والقرشيّ والأنصاريّ والعجميّ وكلّ من كان في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم سواء». وفي السيرة العمليّة للإمام عليّ عليه السلام ما يشهد على مدى اهتمامه برعاية مبدأ المساواة في توزيع المال، وهذه نماذج منها:
أ. المساواة بين السيّد والعبد: عن إبراهيم بن صالح الأنماطي أنّه لمّا أصبح عليه السلام بعد البيعة، دخل بيت المال، فدعا بمال كان قد اجتمع، فقسّمه ثلاثة دنانير بين من حضر من الناس كلّهم. فقام سهل بن حنيف، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أعتقت هذا الغلام فأعطاه ثلاثة دنانير؛ مثل ما أعطى سهل بن حنيف(9).
ب. المساواة بين جميع الناس: ورد من كتابه إلى حذيفة بن اليمان والي المدائن، يقول عليه السلام : «آمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحقّ والنصفة، ولا تتجاوز ما قدّمت به إليك، ولا تدع منه شيئاً، ولا تبتدع فيه أمراً، ثمّ اقسمه بين أهله بالسويّة والعدل»(10).
ج. المساواة بين العرب وغيرهم: عن أبي إسحاق الهمداني: إنّ امرأتين أتتا عليّاً عليه السلام عند القسمة؛ إحداهما من العرب، والأخرى من الموالي، فأعطى كلّ واحدة خمسة وعشرين درهماً وكراً من الطعام. فقالت العربيّة: يا أمير المؤمنين، إنّي امرأة من العرب، وهذه امرأة من العجم، فقال عليه السلام : «إنّي والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق»(11).
د. المساواة بين الرجل والمرأة: ورد عن مصعب: كان عليّ عليه السلام يقسّم بيننا كلّ شيء، حتّى يقسّم العطور بين نسائنا(12). وعن كريمة بنت همام الطابية: كان عليّ عليه السلام يقسّم فينا الورس بالكوفة(13). والورس نبات أصفر يُستخدم للصباغة.

• العدالة في القضاء
ورد في تاريخ أمير المؤمنين عليه السلام كثيرٌ من القضايا والوصايا والتعليمات الخاصّة بإقامة العدل ومواصفات القاضي، منها:
1. توجيهاته: ورد عن الإمام عليّ عليه السلام لمّا بلغه أنّ شريحاً يقضي في بيته: «يا شريح، اجلس في المسجد؛ فإنّه أعدل بين الناس، وإنّه وهن بالقاضي أن يجلس في بيته»(14). كما قال عليه السلام له: « لا تُسارَّ أحداً في مجلسك، وإنْ غَضِبْتَ فَقُم؛ فلا تَقْضِيَنَّ وأنتَ غَضْبان»(15). وعنه عليه السلام : «ينبغي للحاكم أن يدع التلفّت إلى خصم دون خصم، وأن يقسّم النظر في ما بينهما بالعدل، ولا يدع خصماً يُظهر بغياً على صاحبه»(16).
2. تطبيقه في سيرته: روي عن الإمام الصادق عليه السلام : «إنّ رجلاً نزل بأمير المؤمنين عليه السلام ، فمكث عنده أيّاماً، ثمّ تقدّم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين عليه السلام ، فقال له: أخصم أنت؟ قال: نعم. قال: تحوّل عنّا! إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُضاف الخصم إلّا ومعه خصمه»(17).
3. المراقبة المستمرّة: من مواصفات الإمام عليه السلام المراقبة المستمرّة لجميع شؤون الحكم، وكما في سياسته الإداريّة التي قضت بعزل بعض الولاة، كذلك في القضاء، فإنّه عليه السلام كان يعزل كلّ من يشعر منه التقصير في المهام وأداء المسؤوليّات، فقد روي إنّه عليه السلام ولّى أبا الأسود الدؤلي القضاء، ثمّ عزله، فقال له: لم عزلتني وما جنيت وما خنت؟ فقال عليه السلام : «إنّي رأيت كلامك يعلو على كلام الخصم»(18).
4. خضوعه للقضاء: من خصائص الحاكم العادل والصالح قيامه بتطبيق القوانين على نفسه قبل غيره، والتزامه بمبادئ العدل قبل طلبه من الآخرين الالتزام بها. ورد في كتاب الكامل في التاريخ عن الشعبيّ: وجد عليّ عليه السلام درعاً له عند نصرانيّ، فأقبل به إلى شريح وجلس إلى جانبه، وقال: هذه درعي. فقال النصرانيّ: ما هي إلّا درعي. فقال شريح لأمير المؤمنين عليه السلام : ألك بيّنة؟ قال: لا، وهو يضحك. فأخذ النصرانيّ الدرع ومشى يسيراً ثمّ عاد وقال: أشـهد أنّ هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين قدّمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه! ثمّ أسلم واعترف أنّ الدرع سقطت من عليّ عند مسيره إلى صفّين، ففرح عليّ عليه السلام بإسلامه ووهب له الدرع وفرساً(19).
هذا غيضٌ من فيض إدارة امير المؤمنين عليه السلام للعدالة والإنصاف حين كان حاكماً يوماً ما.

 

1. دعائم الإسلام، القاضي النعمان، ج 6، ص 36.
2. نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 3، ص 100.
3. النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى، الشيخ الطوسي، ص 374 - 375.
4. المصدر نفسه.
5. وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 6، ص 49.
6. موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، الشيخ الريشهري، ج 4، ص 180.
7. مكارم الأخلاق، الطبرسي، ج 1، ص 224.
8. موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، مصدر سابق، ج 4، ص 181.
9. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 40، ص107.
10. المصدر نفسه، ج 28، ص 88.
11. المصدر نفسه، ج41، ص 137.
12. أنساب الأشراف، البلاذري، ج 2، ص 274.
13. فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل، ج 1، ص 920.
14. دعائم الإسلام، مصدر سابق، ج 2، ص 534.
15. الكافي، الشيخ الكليني، ج 7، ص 413.
16. دعائم الإسلام، مصدر سابق، ج 2، ص 533.
17. الكافي، مصدر سابق، ج 7، ص 413.
18. عوالي اللئالي، الأحسائي، ج 2، ص 343.
19. يراجع: الكامل في التاريخ، الشعبيّ، ج3، ص 401.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع