حنان الموسوي
انتهى الاجتماع وتفرّق الإخوة. القاعة التي كانت مكتظّة بالمجاهدين فرغت سريعاً، كلٌّ علِم تكليفه وغادر، بقيت وصديقي فقط نتحدّث عن مهمّتي. هممت بالخروج، لكنّ رنين جهاز «البايجر» المعلّق على حزام خصري أوقفني! حملته بكلتا يديّ وقرّبته من وجهي، وصلتني رسالة مفادها أنّ عطلاً طرأ على الجهاز. أريتها لصديقي ثمّ استرجعت الجهاز وضغطت على «ok»، دوّى انفجار صمّ آذنايَ وسلبني الرؤية مباشرة، فوقعت أرضاً لبعض الوقت. ثبت في فكري أنّ مدّخرة الجهاز انفجرت.
• رسومات حمراء
كلّ الجهات ظلام. تناهى إلى مسمعي صوت صديقي الخافت الذي اخترقته شظيّةٌ، كان يطلب لي النجدة عبر الهاتف. لا أذكر كيف استطعت الوقوف والتوجّه نحو المطبخ مستعيناً باللمس، تقاطر الدم منّي مع كلّ خطوةٍ خطوتها. نقشت رسوماتٍ حمراء على الجدران بأصابعي المدماة حتّى وصلت. فتحت الصنبور وغسلت رأسي، تحسّست عينَيّ فأدركت أنّ ضرراً أصابهما. مررت بأصابعي على صراط شفتيّ، قد قدّتهما الشظايا فشقّت كلّ فلقةٍ منهما نصفين. ومنذ ذاك الحين، لم يغادرني طعم الدماء. ساعدني انهمار الماء على استعادة توازني قليلاً، فاتّجهت نحو الباب واستعنت بالجيران ليطلبوا لي الإسعاف. بعدها، انتظرت المصعد وقد وافاني صديقي بمنشفة لفّ بها رأسي، فأخفى رعب ما ظهر من جروح. تجمهر سكّان المبنى حولي بانتظار الإسعاف. غزارة النزف دفعتني للتمدّد أرضاً من دون ورود أثرٍ ينبئ أنّ مسعفاً ما في طريقه إليّ، خاصّة بعد معرفتنا أنّ جلّ أجهزة «البايجرز» قد انفجرت.
• صورٌ نازفة
أحضر أحد الجيران مشكوراً سيّارته ونقلني بها إلى مستشفى بهمن، ومنها إلى الساحل لعدم توفّر مكانٍ شاغرٍ لي في الطوارئ، ومنها توجّهنا إلى طوارئ مستشفى الزهراء عليها السلام، فبدأ الممرّضون بإجراء الإسعافات الأوليّة بعد تمزيق قميصي وبنطالي، لأكتشف أنّي مصاب في بطني وفخذي أيضاً.
الوجهة التالية كانت نحو مستشفى الجامعة الأميركيّة. رفضوا استقبالي بدايةً لاكتظاظ المكان بالجرحى، لكنّ الإصابة في وجهي وحالتي الحرجة فرضتا عليهم ذلك. تولّى ممّرضان أمر الاهتمام بي، فطلبت منهما الاتّصال بأخي، وإخباره عن مكان وجودي وأنّي بخير، وقد وافاني ومعه زوجتي وأولادي سريعاً.
قبل وصولهم، أُدخلت إلى غرفة العمليّات. أضواؤها الساطعة اخترقت حجُب الجروح، فلمحت وميضاً بعيني اليُمنى، ما طمأن بالي أنّي لم أفقد البصر كلّيّاً. ضمّت الغرفة أكثر من جريح على اختلاف خطورة أوضاعهم، وكانت أولويّة بدء الجراحات لمن زهدت به الحياة.
على طاولة العمليّات حُبِس الوقت. ثلاثة مواضع يجب متابعتها؛ استأصلوا العين اليُسرى لأنّ شظيّة كبيرة فرتها واستقرّت فيها، وضمّدوا جروح يديّ، وبتروا إصبعاً كانت تربطه قطعة لحمٍ واهية، وبعدها، رتقوا جروح الفخذ والبطن. بقيت ثلاثة أيّام في غرفة الاستشفاء لا أدرك ما يدور حولي بسبب كثرة الأدوية المخدّرة. بفضل الله لم يكن ثمّة خطر على حياتي، كما أنّي لم أحتج إلى نقل وحدات دم على الرغم من النزف الشديد. دللت أخي على مكان هاتفي فأحضره لي، لم يخلُ منّي الشكّ أنّ عيني اليسرى لم تُستأصل، لأنّي كنت أرى ضوء الهاتف عبرها. ولاحقاً، أخبرني الأطبّاء أنّ السبب هو توهّم الدماغ بأنّها ما زالت موجودة. بعد ذلك، تواصل معي المعنيّون من السفارة الإيرانيّة لأُنقل إلى إيران، كما أنّهم أرسلوا طبيباً تابع حالتي من كثب.
• حرب وسفر
سرى في قلبي وعينيّ نورٌ عجيب حين تحسّنتُ قليلاً، فتنقّلت بين الغرف لزيارة الجرحى. وفي اليوم الخامس، توجّهت بمساعدة الدفاع المدنيّ إلى المطار، وأثناء وجودي في الطائرة، علمت بأنّ الحرب بدأت، وأنّ قريتي قد تعرّضت لعدوانٍ إسرائيليّ. وصلنا إلى طهران بعد اثنتي عشرة ساعة، وكانت الوفود الطبيّة في مستشفى «فارابي» (أكبر مستشفى للعيون في الشرق الأوسط) على أهبة الاستعداد وبانتظارنا، كما أنّهم نشروا أجهزة فحص العيون في الممرّات.
خضعت لعمليّة جراحيّة أعادوا خلالها فتح عيني اليسرى، وتأكّدوا أنّها قد فُرِّغت تماماً، كما انتزعوا بعض الشظايا من عيني اليمنى. تبِعتني زوجتي وبناتي بعد أيّامٍ أربعة، واجتمع الأحبّة جميعاً. أحضر لي الأهل هاتفاً خلويّاً مع خطٍّ إيرانيٍّ، وصرت أتابع أخبار الحرب وأنقلها إلى باقي الجرحى، وأصبحت غرفتي مضيفاً لهم. توالت الأخبار عن شهادة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، ولكن عندما قرأت بيان النعي لم أصدّق، خرجت إلى الممرّ صارخاً بأعلى صوتي: «يا أهل العالم استشهد السيّد!»، فهرع الجرحى بشكل هستيريٍّ، ولم يصدّقوا الخبر حتّى رأوه على شاشة الهاتف. نزل الخبر كالصاعقة، ليس على الجرحى فحسب، إنّما أيضاً على الطاقم الطبّيّ الإيرانيّ.
نُقلنا إلى فندق بعد أسبوعين، وسكنت برفقة عائلتي. بقيت في إيران مدّة أربعة أشهر، وعدنا إلى بيروت في آخر رحلة قبل إيقاف الرحلات بين البلدين. عدت إلى قريتي ليلاً، واستقبلني الأهل والأقارب بالأرزّ والورود، وبباقات المحبّة الصادقة، الموشّاة بالعزّ. بحمد الله لا أعاني إلّا من أوجاع طفيفة في بعض مواضع الإصابة. ربّما وهبني الله أجر ولائي، فمنذ انتسابي إلى صفوف حزب الله، اخترت العمل في مجالٍ صعب، أصررت عليه على الرغم من المجهود الكبير الذي أبذله، وكنت مع فريق العمل نختار لقب «مجموعة أبي الفضل العبّاس عليه السلام ». لطالما حرصت على إيصال الماء شديد البرودة للإخوة المرابطين في الصحراء، مع خطورة الظروف.
• سرّ الصدقة
لقد غيّرت الإصابة ما في داخلي، وارتقت بها روحي، فهي وسام يهديه الله لخواصه. أفتخر بجراحي، وأعدّها مكافأة من أبي الفضل العبّاس عليه السلام . وأمّا عن نفحة اللطف التي خفّفت وطأة الإصابة، فهي بركة السيّدة الزهراء عليها السلام التي تجلّت حين زارتني في المنام قبل الإصابة بشهرين مشرقة الوجه، تجرّ أطراف عباءتها ، وقد أوصتني بذكرها دائماً، وبالتصدّق على اسمها، وقد صدقت الرؤيا ونفّذت الوصيّة، ومصداق ذلك دفع الأذى المحتوم الذي أحاط بي بفضلها، لأنّي كنت قد رفعت صدقةً قبل المجزرة بقليل.
تشبّثت تلك الرؤيا بذهني، فصار العنفوان يهدر في دمي، حزب الله هو الخطّ المبارك الذي نتمسّك به بشقّ الأنفس، وعنه لن نحيد. سنحفظ سلاحنا بأشفار عيوننا، وستُزهق دونه الأرواح. دوري لم ينتهِ بعد، سأتابع علاجي وأنظّم أموري لأكون دائم العطاء ولو بمقدار نصف طاقتي السابقة. أجالس الجرحى خاصّة من أهدوا عيونهم لأبي الفضل عليه السلام ، لأنهل منهم العزيمة والإرادة الصلبة. عمدت لتأهيل نفسي، فبتّ أقود السيّارة لمسافات طويلة، وأتدرّب على الرماية بعينٍ واحدةٍ كلّما سنحت لي الفرصة.
اسم الجريح الجهاديّ: كربلاء.
تاريخ الولادة: 21-11-1985م.
تاريخ الإصابة: 17-9-2024م.
نوع الإصابة: استئصال العين اليسرى وبتر إصبع.