مع الخامنئي | التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام* تسابيح جراح | من الانفجار... وُلد عزّ لا يُقهر عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1) مناسبة | التعبئة روح الشعب الثوريّة مجتمع | متفوّقون... رغم الحرب آخر الكلام  | إلى أحمد الصغير القويّ قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام سيرة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم نموذجُ الحياة الطيّبة الإمام عليّ عليه السلام مظهرُ العدالة والإصلاح برّ الوالدين في سيرة أهل البيت عليهم السلام

مجتمع | متفوّقون... رغم الحرب

تحقيق: شيرين حميّة


كان يُجري امتحاناته الرسميّة مرتدياً ملابس سوداء، نظر إلى النافذة، وقال: «طوشتنا المسيّرة»، فاقترب منه المراقب وقال له: «كن أقوى منها وانجح»!
هي قصّة تلخّص معاناة تلاميذ القرى الجنوبيّة وطلّابها، ومنهم طلّاب الشهادة الثانويّة العامّة، الذين خضعوا لامتحانات في ظلّ اعتداءات العدوّ الصهيونيّ المتواصلة منذ معركة أولي البأس التي شهدها لبنان في أيلول/ سبتمبر من العام 2024م حتّى الآن. ومع ذلك، أصرّوا على الخضوع للامتحانات، متحدّين غطرسة العدوّ واستباحته لسماء بلادنا وأرضها. كيف كانت هذه التجربة؟ وما الرسالة التي أرادوا إيصالها للعدوّ؟ وما السبل الكفيلة بدعمهم لتجاوز هذا الواقع المرير وتداعياته؟

• علمنا يخيفهم
على الرغم من الظروف القاسية التي مرّ بها الطلّاب وهم على مقاعد الدراسة بسبب اعتداءات العدوّ اليوميّة على قراهم، وما يرافق ذلك من دمار ونزوح وفقد الأحبّة، وتحليق متواصل للمسيّرات الصهيونيّة في أجواء مختلف القرى والمناطق، إلّا أنّهم تحدّوا هذا الواقع، وأصرّوا على مواصلة تعليمهم. في قرية قبريخا الجنوبيّة، تخبرنا زينب، وهي تلميذة في الصفّ الخامس الأساسيّ: «لقد استشهد والداي، ومع ذلك، سأتابع تعليمي وأتفوّق، لأنّ هذا ما أراداه». تخبرنا سما، وهي تلميذة من قرية بقاعيّة في الصفّ الثالث الأساسيّ: «أنا أفتخر بشهادة أبي وأميّ لأنّهما الآن في الجنّة مع أهل البيت عليهم السلام، وأريدهما أن يفتخرا بي من خلال مواصلة تعليمي».
وكذلك عليّ، وهو طالب في الثانويّة، يعلن بثبات وعزيمة عن موقفه، فيقول للمجلّة: «على الرغم من أنّنا فقدنا منزلنا واستشهد أخي، إلّا أنّني وأفراد أسرتي تعاهدنا أن نمضي قُدماً ونواصل تعليمنا لأنّ ذلك يخيف عدوّنا كثيراً، فالحرب القادمة ستكون حرب الأدمغة والعلم، ويجب أن نكون أقوياء في الميادين كلّها». توافقه إسراء الرأي، وهي طالبة في معهد تقنيّ: «يجب أن نتسلّح بالعلم لبناء وطننا لبنان، ونمنع الأعداء من استغلاله، ونحصّن أنفسنا في معادلة حرب الذكاء الاصطناعيّ. سأتابع اختصاصي بهمّة عالية، مع أنّني لست في قريتي بسبب تدمير بيتي ولست بين أصدقائي أيضاً. يجب أن نكون أقوى من هذه الظروف كلّها».
في مقابل هذه التضحيات والتحدّيات، نجد من الطلّاب من قدّم روحه فداءً لهذا الوطن، منهم طالب المؤسّسة الإسلاميّة للتربية، من بلدة طاريّا البقاعيّة، الشهيد علي الهادي رفعات سماحة، الذي ذاب أثر جسده حبّاً بتراب أرضه.

• ودّعنا عامنا الماضي بتفوّق
لا يقف أمر الثبات والتحدّي عند هذا الحدّ، فقد ترجم هؤلاء الطلّاب إصرارهم على مواصلة مسيرة التعلّم من خلال الدرجات والمراتب العالية التي نالوها في امتحانات شهادة الثانويّة العامّة، وهم الذين تأخرّوا عن الالتحاق بعامهم الدراسيّ بسبب نزوحهم من قراهم.
في جولة قامت بها المجلّة على بعضهم، استوقفتنا إجابة الطالب محمّد عبد الله الشرتوني، جريح «البيجر»، حين قال: اليوم صدرت نتيجتي ونتيجة جدّي» وأوضح: «جدّي كان مفقود الأثر، واليوم صدرت نتيجة فحص الـ DNA لإثبات شهادته. محمّد فقد عينه وأصابع يده، لم يمنعه ذلك من أن يحصد المركز الثامن على صعيد لبنان، في الامتحانات الثانويّة الرسميّة، فرع (الآداب والإنسانيّات).أمّا حوراء حمزة، وهي أيضاً جريحة فقدت بصرها نتيجة مجزرة «البيجر»، فقد تفوّقت ونالت تقدير جيد جدّاً، لتثبت للعالم أجمع أن لا شيء يقف أمام إرادتها. وكذلك تفوّق ابن ميس الجبل، علي فؤاد برجي، بمعدّل 18.25 بدرجة جيّد جدّاً، فرع علوم الحياة، على الرغم من إصابته البليغة التي تعرّض لها جرّاء تلك المجزرة.

• مسؤوليّة المؤسّسات التعليميّة في دعم الطلّاب
في عمق المجتمعات التي تعيش الحرب، تتوزّع المسؤوليّات بين الجميع لمواجهة التحدّيات ومكافحتها. وهنا، يبرز للمدارس دور مهمّ، بحيث لا تصبح مجرّد مؤسّسات تعليميّة، بل منطلقاً للثبات الاجتماعيّ والنفسيّ، خاصّة بالنسبة إلى الأجيال الناشئة، إلى جانب دور الأسرة، ومؤسّسات المجتمع المدنيّ، ومراكز الدعم، ووسائل الإعلام .
جالت المجلّة على بعض المؤسّسات والاختصاصيّين للوقوف عند دورها في تسهيل ظروف التعليم وصنع جيل قويّ على الرغم من هذه الظروف.
بناء على ما يعايشه يوميّاً الأستاذ محمّد باجوق، المتخصّص في التربية الأسريّة والمرشد التربــويّ والـــنفسيّ، من حجم التــأثيرات التي خلّفتها الحرب على الأطفـال والأســر، ولا سيّــما في المناطـــق المعرّضــة للاعتداءات المباشـرة في الضاحية الجنوبيـّة والجنـــوب والبقاع، فهو يرى وسط هذا المشهد الملبّد، أنّ ثمّة قدرة للتلاميذ على مواصلة الحياة بعزيمة وثبات، والتكيّف مع الواقع على الرغم من شدّة الألم، مؤكّداً أنّ ثمّة مسؤوليّات تقع على عاتـق المؤسّســـات التعليميّة والمربّين بشكل عام، منها:
1. الإصغاء إلى الطلّاب، وتوفير بيئة تحاكي براءتهم، فتُعيد إليهم الثقة والأمل بأنّ المستقبل ما زال متاحاً أمامهم على الرغم من الصعاب كلّها.
2. تحويل المدارس إلى حضن بديل يحتاج إليه الطفل، وتوفير مساحة آمنة يُعاد فيها بناء توازنه النفسيّ، تماماً كباقي أدوار أفراد الأسر النواتيّة أو الممتدّة .
3. اعتماد مقاربة تربويّة - نفسيّة متكاملة، تبدأ أوّلاً بالاحتواء الفرديّ، عبر جلسات إنصات حقيقيّة لا تتعامل مع الطفل كضحيّة، بل كناجٍ له الحقّ في التعبير، والغضب، وحتّى الصمت. هذا الأمر ضروريّ جدّاً، خصوصاً في الحالات التي عايش فيها الأطفال مشهد الفقد بأبشع صوره.
4. إعادة دمج الطفل في الحياة المدرسيّة بشكلٍ تدريجيّ، مع مراعاة ظروفه الخاصّة، وتقديم دعم معنويّ ثابت، لا موسميّ.
5. استقبال التلاميذ ببسمة وحبّ، بحيث يشعرون أنّهم ليسوا وحدهم، بل محاطون بجماعة تهتمّ بهم، وتُصغي إليهم، وتمنحهم الأمان، من خلال تكريس معلّم داعم بروح الأبوّة، ومعلّمة داعمة بحسّ الأمومة، وصديق وفيّ، ونشاط تعبيريّ متنوّع، أو حتّى لوحة فنيّة تُخرجه من دائرة الألم المغلقة.
6. تجنّب زرع مشاعر اليأس أو الانتقام في نفس الطفل، بل ينبغي تعزيز فكرة أنّه قويٌّ بصموده، وأنّ بقاءه على مقعد الدراسة بحدّ ذاته فعل مقاومة، وأمل متجدّد لعائلة فُقدت وقرية صمدت.
ويختم: «أتوجّه برسالتي إلى هؤلاء الطلّاب من مختلف المناطق، ليكونوا أقوى من التحدّيات والصعوبات كلّها، ونحن معكم ونشدّ على أياديكم».

• أبناء الشهداء: حالة خاصّة
بيّنت المرشدة النفسيّة في المؤسّسة الإسلاميّة للتعليم- مدارس المهديّعجل الله تعالى فرجه الشريف، دعاء غصن، أنّ عدد أبناء الشهداء في الحرب الأخيرة بلغ نحو 75 طالباً في المدرسة، ما يعادل 5 % من الإجمالي العام لعدد طلاب مدرسة الإمام المهديعجل الله تعالى فرجه الشريف في شمسطار، و5 % ممّن تهدّمت منازلهم. أمّا عن دور المؤسّسة في احتضان الحالات الخاصّة، فتقول: «بناءً على توصيات مؤسّسة الشهيد، فإنّنا نؤدّي دورنا بوعي ومسؤوليّة لنساهم في مدّ الطلّاب، الذين عانوا الفقد والجراح، بالمعنويّات العالية حتّى يكملوا مسيرتهم التعليميّة وحياتهم بشكل طبيعيّ». وشرحت الخطوات التي اتّبعتها المؤسّسة في سبيل تحقيق هذه الغاية، مثل:
1. تقديم برامج دعم وتفريغ نفسيّ للأطفال الأيتام. فضلاً عن إعداد النشاطات التّي يحبّونها، ومنها: الرسم والموسيقى والخياطة وكتابة القصص.
2. القيام بزيارة ميدانيّة لعوائل الشهداء، بهدف الوقوف إلى جانبهم ودعمهم نفسيّاً واجتماعيّاً.
3. قيام المعلّمين والمنسّقين بمساعدة التلاميذ في تجاوز الصعوبات التعليميّة، بالتعاون مع ذوي القربى المشرفين على كفالتهم، وتهيئة وسائل الراحة النفسيّة لهم.
وختمت غصن: «نحن في المؤسّسة نوجّه خطاباً خاصّاً إلى هؤلاء الطلّاب، مردّدين ما قاله سماحة الشهيد الأقدس (رضوان الله عليه) للمجاهدين: (أنتم الشموخ كجبال لبنان الشامخة، العاتية على العاتي، والعالية على المستعلي... أنتم بعد الله سبحانه وتعالى الأمل والرهان)، وهم فعلاً كذلك».

• معلّمو الجنوب: صمود وتحدّي
للجنوب فصل خاصّ في حكايا الصمود والمواساة والصبر، خاصّة وأنّ المعلّمين يؤدّون دورهم التعليميّ والاجتماعيّ فوق ركام المدارس المدمّرة.
لطالما كانت المؤسّسات التعليميّة مصدر خوف للعدوّ الإسرائيليّ، لأنّ العلم هو الطريق المؤدّي إلى النّصر، فنالها نصيب من القصف والتدمير. لكنّ المعلّمين ثبتوا وتحدّوا الظروف الصعبة، من فقد وتهجير، إيماناً منهم بأنّ هذا الجيل سيواصل المسيرة بصلابة وعزيمة كبيرَين. ومن المبادرات التي قام بها بعض الأساتذة والأهالي في سبيل مواجهة هذا الواقع الصعب، افتتاح مدرسة صغيرة ضمّت المئات من النازحين المؤمنين بهذه الرسالة السامية، فيما لجأ بعضهم إلى التدريس عبر الإنترنت «online». في هذا المجال، يقول أحد الأساتذة في وصف المشهد العام: «حرصنا على استكمال العام الدراسيّ مهما كانت الظروف قاسية. لقد كان ضروريّاً أن نؤدّي دور الأم والأب والصديق في بعض الحالات الصعبة، علّنا نستطيع التخفيف عن التلاميذ الذين خسروا أفراداً من عائلاتهم».
أمّا الأستاذة فادية، فتقول: «بعد الفقد، يعاني الطالب من طاقة سلبيّة وتراكم الحزن، فعملنا على تحويلها إلى طاقة إيجابيّة. وفعلاً، أبناء المقاومة يتعافون سريعاً، على الرغم من الصعوبات التي واجهناها في البداية لناحية التكيّف مع مكان السكن الجديد والأصدقاء الجدد».
وختاماً، يتوجّه المعلّمون الجنوبيّون برسالة خاصّة إلى الطلّاب: «أيّها الأعزاء، أنتم أقوى من الحرب، أنتم صوت الحياة العائد ليعلو فوق كلّ دمار. لا تجعلوا الخوف يطغى على أحلامكم، فنحن وإيّاكم الناجون، وأنتم المستقبل، فارسموه كما تحبّون».
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع