آية الله ناصر مكارم الشيرازي
* الإدارة الدقيقة في كل المراحل
بعد دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، جرت حوادث عديدة كشفت كل واحدة منها عن وجه جديد لهذه الإدارة الإلهية، وكنماذج نذكرها:
1- إظهار العدل الإسلامي في بداية الدخول:
لم يكن ذلك اليوم التاريخي في شباب محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليوم الأوحد والأخير الذي تظهر فيه الإدارة والتدبير الدقيق لهذا الإنسان العظيم عندما وضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة وحل بذلك مشكلة كادت تودي بحياة العشرات من الناس من جراء العصبيات القبلية، بل إننا نجد بعد الهجرة أيضاً مواقف عديدة جرت فيها حوادث بسيطة ولكنها كانت لتحدث اختلافات عظيمة استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلها ويقتلع جذور الفتنة فيها.
فأثناء هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وفي اللحظات الأولى حيث كان الناس يستقبلونه متجمهرين بحفاوة بالغة وكل فرد منهم ينتظر أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته حيث كان يُخشى أن أي ترجيح في هذا المجال سوف يحدث اختلافاً كبيراً بين القبائل تبقى آثاره عشرات السنين في المستقبل، هناك وقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "ناقتي مأمورة"، فخلَّوا سبيلها. وكان أن وقف الناقة عند باب بيت "أبي أيوب الأنصاري" وحُلّت القضية بدون أي اختلاف يذكر.
2- عقد المؤاخاة:
كان المجتمع الإسلامي آنذاك مؤلفاً من طائفتين هما "مهاجرو مكة" و"أنصار المدينة"، طائفتان بثقافة وعادات وآداب مختلفة يجمعهما فقط الإسلام بحلقة وصلة.
كان على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤسس الوحدة والانسجام بينهما وأن ينظم الأجهزة المختلفة التي ستسير في حركة واحدة نحو هدف واحد.
وهنا قام بخطوة لا سابقة لها عندما آخى بينهما بعقد الأخوة. صحيح أن المؤمنين أخوة، ولكن كان لهذا العقد تأثيرٌ كبير في تثبيت أواصر المودة والأخوّة. وهكذا حل مشكلة الوحدة والغربة التي يمكن أن يشعر بها المهاجرون من جانب، وأزال سوء الانسجام والتنسيق من جانب آخر، فأصبح الجميع أعضاء بيت واحد، حتى وصلت هذه الأخوَّة في بعض الأحيان إلى حد التوارث (بالطبع قبل نزول آيات إرث الأرحام- سورة الأحزاب).
3- المسجد مركز العبادة والحكومة:
كان المجتمع الإسلامي الجديد يحتاج إلى مركز اجتماعي، ذي جاذبة قوية ومعنوية، ولذلك- كما قلنا- أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل الشروع بأي عمل ببناء المسجد الذي لم يكن فقط مركزاً للعبادة، وإنما أصبح مركزاً لكافة النشاطات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية للمسلمين ومركزاً للحكومة أيضاً. والملفت، أنه خلافاً لكل مراكز الحكومات وقصور الحكام في ذلك العصر كان هذا المركز الحكومي في غاية البساطة، فقد كان مؤلفاً من أربعة جدران لا يعلو الواحد منها عن قامة الإنسان وكان بدون سقف في البداية، ثم وضع له سقف من سعف النخيل. واستمر هذا الوضع حتى آخر حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إن هذا جانب آخر من الإدارة الفريدة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قام به بوحي من الله، وانتشر خبره في تمام "الجزيرة العربية" وجذب إليه قلوب الناس.
4- ميثاق عدم الاعتداء:
قام نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لأجل إحكام أركان الإسلام الجديد بعقد ميثاق عدم اعتداء بين المسلمين والقبائل الموجودة داخل المدينة، وما دام هؤلاء أوفياء لهذا العقد بقي هو صلى الله عليه وآله وسلم وفياً له. وهكذا هيأ وعبّد الطريق أمام التقدم الفكري والثقافي الذي كان في ذلك الوقت أهم الأمور. تلك المواثيق كان لها دور عظيم في النمو والانتشار السريع للإسلام.
5- اجتناب الحروب في جبهات مختلفة:
سعى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يجبر على خوض حربين أو عدة حروب معاً لأن الأعداء إذا تكاتفوا فلن يسهل التغلب عليهم. وإن كان القرآن قد ضمن النصر للإسلام في عدة آيات
﴿ليظهره على الدين كله﴾ ولكن هذا الأمر مرتبط مباشرة بالتدبير الصحيح والإدارة الإلهية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لهذا، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أمضى في السنة الثامنة للهجرة "صلح الحديبية" مع المشركين لمدة عشر سنوات وانصرف نحو "خيبر" التي كانت إحدى القواعد الخطرة والمتآمرة على الإسلام حيث استولى عليها بسهولة. وهكذا منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من حصول اتحاد أولي بين الكفار والمشركين.
6- إرسال الكتب لزعماء وملوك العالم:
عندما استقرت الحكومة الإسلامية في المدينة وحولها، واطمأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمستقبل الجزيرة العربية (وإن كانت مكة لم تفتح بعد).
أطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسالته إلى خارج حدود الجزيرة، وعرض الإسلام على جميع شعوب العالم، وأزال فكرة قومية الإسلام أو اختصاصه بمنطقة دون أخرى.
فبعث بالكتب والرسائل إلى زعماء وملوك العالم عبر سفراء وممثلين عنه بدون أية تشريفات ومجاملات.
ويذكر المؤرخون المسلمون أن عددها وصل إلى 186 رسالة، ذكروها في كتبهم ووثائقهم. (الوثائق السياسية- محمد حميد الله).
7- أخذ البيعة وإيجاد روحية جديدة في لحظات الأزمات:
مع أن اعتناق الإسلام والشهادة برسالة النبي يلازم إعلان الوفاء الكامل له، ولكن الرسول وأثناء الإقدام على مراحل حساسة ومصيرية كان يجدد البيعة، وبهذه الطريقة كان يربّي روحاً جديدة في نفوس أتباعه. كما حدث في "الحديبية" عندما سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع 1400 نفر من المسلمين بدون مظاهر القتال لقصد الإحرام نحو بيت الله وقبل عدة فراسخ من مكة (الحديبية) منعهم زعماء قريش من الدخول إليها. وهناك تبادلوا السفراء، وفي إحدى الجولات اعتقلت قريش مبعوث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تمض فترة قصيرة حتى وصل خبر قتله إلى المسلمين.
هناك قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم "سنرد بقسوة، ومع أننا لم نتجهز للقتال، فسوف نحاربهم". ثم نزل إلى شجرة قريبة، وأخذ البيعة من كل واحد من المسلمين على أن يثبتوا ولا يولّوا الأدبار أبداً.
وبهذا العمل رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من معنويات المسلمين إلى درجات عالية وشد عزائمهم في مواجهة الأعداء الذين تخلوا عن كل موازين الإنسانية وداسوا عليها، ومن جانب آخر ألقى في قلوب الأعداء الرعب وزلزلهم. فكيف تنهض مجموعة صغيرة غير مسلحة إلا بالسيوف (التي كانت تعد جزءاً من متاع السفر) ولا تملك أي شيء آخر من وسائل الحروب وهي بعيدة عن الوطن، بمحاربة جمهور مكة الغفير؟!!
تملَّك الرعب قلوب زعماء قريش وتقدموا نحو عقد ميثاق عدم الاعتداء، فقبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن رأى تراجع الأعداء واطمأن للمصالح العظيمة التي كانت كامنة في مثل هذا الصلح في العاجل والآجل، ورجع المسلمون إلى المدينة. وقد سمّي هذا الصلح "بصلح الحديبية" وعرفت تلك البيعة "ببيعة الشجرة" أو "بيعة الرضوان" التي ذكرت في الآية 18 من سورة الفتح. لقد كانت إدارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عظيمة جداً في الحرب والصلح.
أطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رسالته إلى خارج حدود الجزيرة، وعرض الإسلام على جميع شعوب العالم وأزال فكرة قومية الإسلام.
8- النظرة الثابتة في الحرب:
كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفضل العظيم في أنه أول شخص في تاريخ العرب (بل في تاريخ العالم) يجمع تحت راية الإسلام والأمة الواحدة شعوباً مختلفة. وكان لهذا الأمر تأثيرٌ كبيرٌ في تحرير كامل الجزيرة العربية خلال فترة 23 سنة، وطرد العناصر استطاع أن يبين الأبعاد الاستراتيجية لغزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعماله العسكرية بشكل كامل، ولهذا لم تبين أعماله العسكرية من الناحية الفنية جيداً، رغم أنه بنى أعظم جيش عقائدي في التاريخ.
يقول القرآن الكريم:
﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولِّهم يومئذٍ دُبُّرَهُ إلاَّ منحرَفاً لقتال أو متحيّزاً إلى فئةٍ فقد باء بغضبٍ من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير﴾ (الأنفال، 15-16).
أشار بعض المتخصصين في المسائل العسكرية، والذي كان يطالع مؤخراً في الأعمال العسكرية والسياسية لنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، بشكل واضح إلى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان صاحب نظرة متطورة في المعارك، بل ليس له نظير في التدبير الحربي والقيادة العسكرية.
ويذكر أحد القادة العرب في كتابه (النبي وفن الحرب) في معرض الحديث عن استخدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحرب النفسية:
"لقد أحدث الرسول تغييراً عظيماً في نظام الحروب الجديدة وذلك باستفادته من جميع الأبعاد في الحرب. فهو يجر الحرب إلى كافة الجبهات ويستفيد من كل سلاح ممكن. وبالإضافة إلى ذلك استفاد كثيراً من الحرب النفسية... ففي كل معاركه وغزواته كانت أساليب الحرب النفسية تتجلى بقوة حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم "نصرت بالرعب". وفي مكة حقق انتصاراً ساحقاً بدون إراقة الدماء واستخدام السلاح.
إن كل هذه المشاهدات الدقيقة والأساليب العظيمة التي امتزجت بشهامة وشجاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقاطعيته وصلابته تحكي عن تلك الإدارة العظيمة والقيادة الحكيمة لرسول الإسلام التي لم ولن يوجد نظير لها عبراً لتاريخ وبعون الله سوف نقدم أمثلة أخرى كهذه في الأبحاث المستقبلية.
في الواقع، أردنا أن نشير هنا إلى أننا نحن المسلمين لدينا أغنى وأعظم المصادر المرتبطة "بالإدارة والقيادة". فبالتدقيق والمطالعة في حياة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام نستلهم أبعاداً عظيمة في هذا المجال.
ومن جانب آخر، فعلى العاملين في الحكومة الإسلامية والأجهزة الإسلامية الذين يسعون لتطبيق الإسلام أن يقتدوا بتلك السيرة العظيمة التي تجلت منها الإدارة الفريدة في أروع امتزاج مع الشجاعة والتقوى.
(يتبع)