مع الإمام الخامنئي | الحوزويّون روّاد قضايا الأمّة(2)* ظهور الإمام المهديّ والملحمة الأخيرة فقه الولي | من أحكام الغشّ في المعاملات أخلاقنا | لا تظنّوا بالآخرين سوءاً* الشهيد على طريق القدس مهدي زهير مرعي (عبّاس) الشعب الإيرانيّ: كلّنا مع الوليّ تسابيح جراح | نورٌ من بعد الألم عيتا الشّعب: تلالٌ لم تنحنِ الأكزيما: الأسباب والعلاج وصاياه الأخيرة في عاشوراء (2): انصـروا الحــقّ*

عيتا الشّعب: تلالٌ لم تنحنِ

تحقيق: نقاء شيت
 

عيتا الشعب، أو كما عرفناها بلقب «أمّ العزّ»، تسمية لم تُنسب إلى البلدة من وهم، بل هي نتيجة تاريخ عظيم من الصّراع الّذي خاضته مع مختلف أنواع الاستعمار، وكان آخرها الغطرسة الصّهيونيّة في الحرب الأخيرة على لبنان العام 2024م.

• الموقع الجغرافيّ
تقع عيتا الشّعب على الحدود اللبنانيّة مع فلسطين المحتلّة، وهي منتشرة على تلال مجاورة لها. تحيط بها بلدات رميش شرقاً، وراميا غرباً، ودبل وقوزح شمالاً، وفلسطين المحتلّة جنوباً. تتمتّع البلدة بموقعها المميّز وسط هذه التّلال جغرافيّاً، فصارت حلقة وصل بين القطاعَين الأوسط والغربيّ.
أمّا عن علاقتها مع فلسطين المحتلّة، فيحدّثنا الدّكتور نبيل سرور، وهو أستاذ جامعيّ وباحث في السّياسة والاقتصاد، قائلاً: “على الصّعيد التّجاريّ، كان لتجّار عيتا ملاذاً في الداخل الفلسطينيّ قبل مرحلة الاحتلال الإسرائيليّ، كمختلف القرى الجنوبيّة، فكانوا يقصدون عكّا وصفد وغيرهما من القرى الفلسطينيّة. من هنا، نشأت العلاقة الرّوحيّة بين هذين البلدين وأهلهما، فصارت التّجارة مفتاحاً لإمداد الدّاخل الفلسطينيّ بالسّلاح لمواجهة الاحتلال منذ أيّام الإنكليز. وبعد تهجير الفلسطينيّين، كانت عيتا كغيرها من قرى الجنوب، الحضن الدّافئ للمهجّرين الّذين استقرّ عدد كبير منهم في الأراضي اللّبنانيّة. وتشكّلت عبر الزّمن علاقات مصاهرة بينهم وبين اللبنانيّين، وخصوصاً ممّن هم من قرى طربيخا، وهونين والقدس الفلسطينيّة.

• شرارة المقاومة الأولى
كما ذكرنا، بدأ النّضال وروح المقاومة في عيتا منذ أيّام الاحتلال الإنكليزيّ، وكانت البداية مع الفصائل اليساريّة وصولاً إلى طلائع المقاومة اللّبنانيّة (أمل) مع سماحة السّيّد موسى الصّدر (أعاده الله ورفيقيه)، ثمّ مع بيارق المقاومة الإسلاميّة في حزب الله، فتخرّج من بين ربوعها الكثير من المناضلين والمقاومين الشّرفاء الّذين تُوّج الكثير منهم بشرف الشّهادة.
يسجّل التّاريخ النّضاليّ لعيتا الشعب أنّها شهدت أوّل عمليّة عسكريّة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ عند بوّابة صيدا، وقد حملت اسم الشّهيد فضل محمّد سرور، ابن البلدة، وهو من شباب المقاومة الوطنيّة. كذلك، نال شباب عيتا ونساؤها نصيباً من عذابات الاعتقال في سجن الخيام، إذ كان هناك نحو اثنين وثلاثين معتقلاً.

• دور نساء عيتا
لنساء عيتا دورٌ لا يقلّ أهمّيّة عن الرّجال في المقاومة الوطنيّة واللّبنانيّة؛ فمن بينهنّ الأمّ الّتي ربّت أولادها على هذا النّهج، والأخت الّتي ساندت أخاها في خيار المقاومة، والزّوجة الّتي قدّمت السّلاح لزوجها، والابنة الّتي تحمّلت ألم الفراق. لقد كنّ حقّاً السّند والعون للشّباب والرّجال، والمحفّز لهم على المضيّ قُدماً مهما بلغت التّحدّيات. كما قاست نساؤها ضغوطات نفسيّة كبيرة بسبب اقتياد الشّباب إلى المعتقل، وحتّى بسبب تعرّض بعضهنّ للاعتقال. كما كان لهنّ حضور فعّال في المساجد في كلّ المناسبات وفي تشييع الشّهداء.

• التّمسّك بالتّبليغ الدّينيّ
لبلدة عيتا تاريخ مهمّ في العمل التّبليغيّ، إذ كان للحاج أبو حسين علي حبّ الله، المبلّغ والرّساليّ القدوة في أخلاقه وسيرته، مع ثلّة من الإخوة في جمعيّة التّعليم الدّينيّ الإسلاميّ، دوراً مهمّاً في هذا المجال، بالرغم ممّا تعرّضوا له من عذابات واعتداءات؛ لم يهملوا دعوة النّاس إلى أداء الصّلاة، خصوصاً في المساجد، وقراءة الأدعية جماعيّاً، مع التّأكيد على تمسّك النساء بالحجاب بالرّغم من كلّ ما تعرّضن له من ترهيب وتخويف.

• التّحرير العام 2000م
يروي الدّكتور نبيل سرور أنّه مع ازدياد وتيرة العمليّات الاستشهاديّة، واغتيال العملاء وجنود جيش لحد، اقترب بزوغ فجر التّحرير في أيّار من العام 2000م. وفي الثّالث والعشرين من الشّهر نفسه، انطلقت المواكب الشّبابيّة لتحرير القرى، فدخلت من ثلاثة محاور لتلتقي داخل البلدة معلنةً تحريرها، وقد ارتقى خلال تلك التّحرّكات عدد من الشّهداء. ازدحمت البلدة باحتفالات النّصر وزغاريده، لتنتقل بعدها المواكب السّيّارة إلى القرى المجاورة. وتكرّر مشهد النّصر في الخامس والعشرين من أيّار، عند تحرير المعتقلين في معتقل الخيام. وبالرّغم ممّا قاسوه من تعذيب نفسيّ وجسديّ، إلّا أنّ بعض الأسرى المحرّرين التحقوا بالعمل المقاوم فور نيل الحريّة، فانخرطوا في صفوف المقاومة وصاروا من كوادرها، ومنهم من استشهد لاحقاً.
كانت تلك المحطّة الشّرارة الّتي عزّزت الأمل بتحرير القدس يوماً ما، حتّى جاء يوم الثّاني عشر من تمّوز من العام 2006م، بحيث كانت الثّغرة في الشّريط الشائك بوّابة لتسطير ملاحم أسطوريّة على مدار ثلاثة وثلاثين يوماً من المواجهات العنيفة مع العدوّ الإسرائيليّ.

• موقع استراتيجيّ
بحسب الدّكتور سرور، فـإنّ موقع عيتا الجغرافيّ جعلها أرضاً خصبة للعمليّات العسكريّة، فهي محاطة بمجموعة من المواقع الإسرائيليّة، ومنها: موقع بيرانيت والرّاهب وضهر الجمل وراميا، مضافاً إلى قيادة المنطقة الشّماليّة، والمعبر المطلّ على رميش. وكانت نيران هذه المواقع شرارة اندلاع حرب تمّوز، بحيث صبّت كلّ حقدها على عيتا وأهلها خلال الحرب. كما احتضنت أرضها عمليّة الأسر، وكانت الحصن الّذي آوى فيه المقاومون الجنود الصّهاينة الأسرى، إلى أن بدّلوا ملابسهم ثمّ نقلوهم إلى مكان أكثر أماناً.

• ثلاثة وثلاثون يوماً من تمّوز
يذكر الدكتور سرور أنّه خلال حرب تمّوز، هُجّر كلّ أهل عيتا من البلدة. وقد استقبلتهم رميش في بيوتها ردّاً لجميل استقبال أهالي عيتا لهم العام 2000م. هذا وقدّمت البلدة خلال الحرب واحداً وعشرين من خيرة شبّانها المدنيّين والعسكريّين شهداء في سبيل الله. وقد دمّر العدوّ الإسرائيليّ نحو 60 % من البلدة، التي واجهت القصف المستمرّ على مدار أربع وعشرين ساعة، بهدف تشتيت العمل المقاوم، ومحاولة التّوغّل البرّيّ من أكثر من جانب، ولكن بحمد الله باءت كلّ محاولات الصهاينة بالفشل، الأمر الّذي جعلهم يزدادون غضباً وقصفاً ودماراً للبلدة. ومع ذلك، سطّر المجاهدون بطولات كبيرة، إذ كانت مشارف عيتا مقبرة لعدد من آليّات الميركافا.
وبالرّغم من كلّ ما حصل من قصف وتهجير، وبمجّرد الإعلان عن انتهاء الحرب وتحقيق النّصر الإلهيّ، لملم أهالي عيتا جراحهم وآلامهم، وعادوا إلى قراهم، وأقاموا عرس النّصر ابتهاجاً. وقد تشاركوا بيوتهم إلى حين إعادة إعمار البلدة.

• دورها في معركة أولي البأس
استمرّت عيتا في بذر روح المقاومة في نفوس أبنائها لتنقل الرّاية من جيل إلى جيل، حتّى جاء يوم السّابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام 2023م واندلعت معركة طوفان الأقصى، فكان مواليد حرب تمّوز أبطال الميدان في تلك المعركة وحماة الدار. وقد سطّروا ملاحم البطولة على تخوم بلدتهم، ومنعوا العدوّ من الاقتراب شبراً واحداً على مدار عامين بالرّغم من كلّ التعزيزات والتّحشّدات الّتي أقامها عند الحدود، خاتماً محاولاته بتوغّلات بريّة، ولكنّ مجاهدينا استبسلوا في الدّفاع عن أراضيهم، فألحقوا به وبآليّاته خسائر جسيمة، إذ منعوه من التّقدّم وصدّوا هجومه البرّيّ.

• آمنوا بربّهم
في الختام، يؤكّد الدّكتور سرور، أنّه مع كلّ ما قدّمته عيتا من تضحيات، إذ إنّها دُمّرت بشكل شبه كامل، وقدّمت نحو خمسة وسبعين شهيداً من أبناء بلدتها، ستبقى عصيّةً على الاحتلال، وسيبقى اسمها من بين القرى والبلدات الّتي أثبتت أنّ إرادة الثّبات ستنتصر.
إنّهم بحقّ فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى. لقد تناقل قصص بطولاتهم رفاق الجهاد الّذين ما وهنوا وما ضعفوا فأكملوا المسير، وحفظت تلال عيتا أصوات تهجّدهم في اللّيل ومناغاتهم السَّحَر بتلاوات عطرة للقرآن الكريم. ما تركوا ذكر الله بالرّغم من كلّ المخاطر الّتي أحاطت بهم، بل كان الذّكر سلاحهم الّذي أمدّهم بالعزيمة لمواجهة آلة القتل الصّهيونيّة الّتي لم يكن لها مثيل في الحروب السّابقة.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع