سكينة حسن*
في غياهب السجون وظلمات الطوامير، يشعّ نورٌ من آل محمّد، راكعٌ، ساجدٌ طويلاً، يرتّل كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار. لم ينقطع العبد الصالح عن شؤون شيعته، بل ظلّ يجيب عن أسئلتهم ويدعو لهم.
الإمام موسى الكاظم عليه السلام، الذي أقضّ وجوده مضاجع طغاة زمانه، فسدّوا عليه نوافذ الحياة وصبّوا غضبهم وطغيانهم عليه اضطهاداً وظلماً وسجناً، فكان في سجنه قدوةً لكلّ مظلومٍ؛ إذ لم يكتفِ بالتفرّغ للعبادة تفرّغاً حيّر الألباب، بل كان في ذلك من الشاكرين: «اللّهم إنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهم وقد فعلت فلك الحمد»(1).
فكيف حوّل الإمام عليه السلام السجن إلى منبر لتبليغ رسالة الله عزّ وجلّ، ومجلسٍ للنظر في شؤون الناس ورعاية حاجاتهم، وميدانٍ لمحاربة الطغاة والجبابرة وكسر شوكتهم؟
• سجن الإمام عليه السلام
كان الإمام موسى الكاظم عليه السلام إمام المسلمين ووصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمانه، وقد أجمع المسلمون على تقديره، نظراً إلى تقواه وعلمه ومكارم أخلاقه، فكان إمام حقٍّ؛ ممّا أثار حقد الخلفاء عليه، هؤلاء الذين كانوا حريصين على المُلك، متفانين في الدفاع عن سلطانهم، ولو بذلوا في سبيله قيمهم ودينهم، ممّا حدا بهم إلى توارث بغض العلويّين والتنكيل بهم، وسوقهم إلى السجون، وتشريدهم، بل ودفنهم وهم أحياء. وقد كان الإمام عليه السلام صلباً في مواقفه تجاه السلطة الحاكمة؛ فحرّم على شيعته التعاون معها، وأفتى بحرمة الولاية من قِبل الخلفاء الجائرين، وكان يبيّن في كلّ مناسبةٍ أحقّيّته في الخلافة وقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ممّا خلّف الاستياء لدى الحكّام، وأجّج الحقد والغلّ في صدورهم عليه؛ فدفعهم حقدهم الموروث إلى التنكيل به عليه السلام وومراقبته وفرض الإقامة الجبريّة عليه، وصولاً إلى سجنه مراراً(2).
سُجن الإمام عليه السلام خمس مرّاتٍ: واحدةٌ منها في زمن خلافة المهديّ العبّاسيّ، وأربعةٌ منها في عصر هارون العبّاسيّ، الذي سجنه أوّل مرّةٍ في سجن عيسى بن جعفر بن المنصور العباسيّ في البصرة؛ ثمّ أُرسل عليه السلام إلى سجن الفضل بن الربيع في بغداد، وبعدها أُطلق سراحه مع التحفّظ عليه في الإقامة الجبريّة. وسُجن عليه السلام مرّةً ثالثةً عند يحيى بن خالد البرمكيّ، وكان سجنه الأخير عند واحدٍ من أسوأ خلق الله وأكثرهم كرهاً لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحقداً عليهم، وهو السندي بن شاهك الذي تفنّن في إيذاء الإمام عليه السلام؛ بحيث قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد في سجنٍ مظلمٍ وسيّئ التهوئة، حيث كان استشهاده عليه السلام(3).
• نشاط الإمام عليه السلام في السجن
على الرغم من التنكيل بالإمام عليه السلام وما عاناه داخل السجون، إلّا أنّ صوته لم يخبُ، ولم يكلّ عن بذل الوسع والطاقة في سبيل إظهار الحقّ، ومراعاة شؤون شيعته. فالإمام عليه السلام كان يحمل همّ رعاية الدين ورعاية أهله، وكان يضطلع بهذا الواجب حتّى في أحلك الظروف؛ بحيث تمثّلت حركته داخل السجن في مجموعةٍ من الأفعال التي كان لها عميق الأثر؛ فاستطاع أن يجعل من السجن المظلم أداةً للتبليغ والهداية، ومن نشاطه عليه السلام داخل السجن:
أ - قيادة الأمّة: استمرّ عمل الإمام عليه السلام بصفته إمام الأمّة في أثناء سجنه؛ فكانت تصل إليه الرسائل من شيعته في كلّ أقطار العالم الإسلاميّ عبر مبعوثين خاصّين، وكان عليه السلام يجيبهم عن تساؤلاتهم واستفتاءاتهم. وكذا عيّن عليه السلام وكلاء له من تلامذته وأصحابه في البلاد الإسلاميّة، وأرجع إليهم شيعته موكلاً إليهم مهمّة قبض الحقوق الشرعيّة وتوزيعها على مستحقّيها، وهذه من أولى إرهاصات ظاهرة الوكالة التي سوف تكون وسيلة الأئمّة عليهم السلام في إدارة الجماعة الصالحة. ثمّ إنّه عليه السلام نصّب الإمام عليّ الرضا عليه السلام إماماً من بعده؛ فقد حدّث الحسين بن مختار أنّه لمّا كان الإمام عليه السلام في السجن، خرجت لنا ألواحٌ من عنده وقد كتب فيها: «عهدي إلى أكبر ولدي»(4).
وكان عليه السلام صلباً، شامخاً أمام ضغوطات الخليفة المختلفة، وقد كلّمه جماعةٌ من خواصّ شيعته في التوسّط له عند مع بعض الشخصيّات المقرّبة من الخليفة لإطلاق سراحه وإخراجه من السجن، إلّا أنّه عليه السلام ترفّع عن ذلك قائلاً: «حدّثني أبي عن آبائه أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى داوود: يا داوود، إنّه ما اعتصم عبدٌ من عبادي بأحدٍ من خلقي دوني، وعرفت ذلك منه، إلّا قطعت عنه أسباب السماء، وأسخت الأرض من تحته»(5).
ب - الهداية الإصلاح: مارس الإمام الكاظم عليه السلام دوراً مهمّاً في الهداية وفق ما اقتضته ظروف أسره والتحفّظ عليه بعيداً عن شيعته، فلم يمنعه ذلك من أن يكون مشعل هدايةٍ في طريق سجّانيه من خلال عبادته؛ فكان بحقّ داعياً لله بورعه واجتهاده وصلاته.
وممّا يُنقل في هذا المجال أنّ عيسى بن جعفر كتب إلى الخليفة في إخلاء سبيله عليه السلام؛ لأنّه في حرجٍ من حبسه(6)، وكذا الفضل بن ربيع كان يحدّث شيعته عن عبادته عليه السلام، وأكّد على أنّه «قد أرسلوا إِليّ في غير مَرّةٍ يأمرونني بقتله فلم أُجِبهِم إلى ذلك، وأعلمتهم أنّي لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني»(7).
أمّا الفضل بن يحيى البرمكيّ فكان يرصد الإمام عليه السلام باستمرار حينما كان في عهدته، فلمّا رأى انشغاله بالعبادة أكبره ووسّع عليه، وحينما وصل الخبر إلى الخليفة أنكر عليه ذلك وطلب منه أن يقتله فرفض؛ فغضب عليه وعاقبه بشدّة (8).
وعندما سُجن الإمام عليه السلام في طامورة السنديّ، تأثّرت أخت هذا الأخير بصلاح الإمام وعبادته عليه السلام، فيما نُقل: «كان إذا صلّى العتمة حمد الله ومجَّده ودعاه، فلم يزل كذلك حتّى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلّي حتّى يصلّي الصبح، ثمّ يذكر قليلاً حتّى تطلع الشمس، ثمّ يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثمّ يتهيَّأ ويستاك ويأكل، ثمّ يرقد إلى قبل الزوال، ثمّ يتوضّأ ويصلّي حتّى يصلّي العصر، ثمّ يذكر في القبلة حتّى يصلّى المغرب، ثمّ يصلّي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه. وكانت أخت السنديّ إذا نظرت إليه قالت: خاب قومٌ تعرَّضوا لهذا الرجل، كان عبداً صالحاً»(9).
وقد أرسل الخليفة للإمام عليه السلام جاريةً فائقة الحسن والجمال؛ ظنّاً منه أنّه عليه السلام سيُفتتن بها، وأنفذ لاحقاً من يستطلع ما آل إليه الحال؛ فهاله أن يراها ساجدةً لربّها، وهي تردّد في سجودها: قُدّوسٌ، قُدّوس. ومنذ ذلك الحين لم تُرَ إلّا مقبلةً على العبادة والصلاة، فإذا سُئلت عن ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح، تعني بذلك إمامنا موسى بن جعفر عليه السلام(10).
ج - نشر العلم: لمّا شاع خبر اعتقال الإمام عليه السلام في البصرة، هبّ إليه العلماء والرواة لينهلوا من غزير علمه، وقد اتّصل به ياسين الزيّات الضرير البصريّ وروى عنه. ويؤكّد المؤرّخون أنّ العلماء كانوا يتّصلون بالإمام عليه السلام من طريقٍ خفيّ. وتذكر بعض الروايات أنّهم كانوا يدخلون عليه في سجن الربيع؛ بل كان الربيع نفسه يستدعيهم لرؤية الإمام عليه السلام. وممّن اتّصل به عليه السلام موسى بن إبراهيم المروزيّ الذي ألّف كتاباً ممّا سمعه منه عليه السلام، ويُذكر أنّ السنديّ هو الذي سمح له بذلك لأنّه كان معلّماً لولده.
د - التفرّغ للعبادة: كان الإمام عليه السلام في السجن صائماً نهاره، قائماً ليله، يستغلّ أوقاته في الصلاة والسجود والدعاء، وقد عدّ عليه السلام هذا التفرّغ للعبادة من أعظم النعم الإلهيّة. وكانت عبادته عليه السلام دعوةً إلى الله بغير لسانه؛ وكان نقلُ هذا المنهج العمليّ لشيعته ولسواهم يثير فيهم نوعاً من الصحوة، بل كان له كبير الأثر في سجّانيه وأزلام الخليفة، حتّى أنّ عيسى بن جعفر كتب إلى الخليفة محاولاً التملّص من سجنه، وموضّحاً أنّه متحرّجٌ من حبسه. كما أنّ التواريخ تذكر غلاماً للسنديّ بن شاهك يُدعى بشّار، كان شديد البغض لآل أبي طالب، إلّا أنّه لم يلبث أن تغيّر حاله وآب إلى طريق الحقّ، كما أخت السنديّ التي مرّ ذكرها سابقاً.
وكان آخر مسار الإمام عليه السلام حينما دُسّ له السمّ في التمر؛ فمضى إلى رحمة ربّه مظلوماً شهيداً، لم يتخلَّ في أيّ حالٍ من الأحوال القاسية عن قاعدة أئمّة أهل البيت عليهم السلام: «إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم»(11).
*أستاذة في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالميّة.
1. مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج 3، ص 433.
2. يُراجع: حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، باقر شريف القرشيّ، ج 2، ص 443.
3. يُراجع: المصدر نفسه، ج 2، ص 487.
4. يُراجع: أعلام الهداية في حياة المعصومين عليهم السلام، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، ج 9، ص 166.
5. تاريخ اليعقوبيّ، اليعقوبيّ، ج 2، ص 361.
6. يُراجع: أعلام الهداية، مصدر سابق، ص163.
7. الأمالي، الشيخ الصدوق، ص211.
8. يُراجع: أعلام الهداية، (م.س)، ص165.
9. تاريخ بغداد، الخطيب البغداديّ، ج15، ص14.
10. يُراجع: أعلام الهداية، مصدر سابق، ص169.
11. الاحتجاج، الشيخ الطبرسيّ، ج 2، ص 323.