نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

نظام القضاء في الإسلام

آية الله جوادي آملي


* الفصل الثالث: أدب القاضي
قد تبيّن أن القضاء ضروري لحفظ المجتمع الإنساني وأن ميزانه هو الوحي لا غير، وفي هذا الفصل نريد أن نتحدث عن تحقّقه الخارجي وكيف يمكن أن يوجد بالشكل المطلوب الذي يتمكّن أن يطبق العدل الإلهي المستمد من الوحي السماوي.

يمكن نشر العدل في المجتمع الإنساني بقاض عالم بالميزان الإلهي للقضاء ومؤمن به عامل بمقتضاه، ولو لم يكن العلم والإيمان والعمل لم يبق للميزان وحده أثر هام، لأنه يكون كالسراج في يد الأعمى لا ينتفع هو به ولا ينفع غيره، وهو غير مأمون من العثرة وعندها ينكسر السراج أو ينطفئ، فلا محيص من كون القاضي المباشر للقضاء عالماً عادلاً.

والإنسان تحكم عليه ثلاث قوى هامة تنبع منها سعادته أو شقاوته، هذه الثلاث هي:
عقله الذي به يدرك الأمور. وشهوته التي بها يجذب الأشياء ويريدها لنفسه. وغضبه الذي به يدفع عنه ما يكرهه.
ولا بد من العلم والعدل في هذه القوى الثلاث، حتّى لا يجور القاضي في الحكم ولا يتعدّى عن طريق الحق، وذلك:
بأن يكون عقله متوجّهاً إلى نيل ما جا به الأنبياء وتعليمه، لكي لا يتطرّقه الهوى، إذ لا طريق للرأي في الدين، ومن نظر برأيه هلك، ومن ترك كتاب الله تعالى وقول نبيه كفر، ومن كان مفزعه في المعضلات نفسه لا يغرها ضلّ، ومن اتّكأ في المبهمات على رأيه فكأنّما جعله أمام نفسه.

وأن تكون شهوته عادلة، لا يحكم حبّاً لأمر خاص أو شخص معيّن، أو طمعاً في مال أو جاه أو مقام، وغير ذلك مما يرجع إلى مشتهيات النفس الباطلة.
وأن يكون غضبه معتدلاً لا يحكم بغضاً لأمر، ولا اعتداءً على شخص، أو خوفاً من تهديد، أو إرعاباً من تخويف، وغير ذلك مما يعود إلى شعب الغضب والبغض وأمثالهما.
فمن اعتدل في عقله بتعليم الوحي الإلهي والإيمان به، واعتدل في شهوته وغضبه بأن كان حبّه وبغضه لله تعالى، فهو الصالح للقضاء بين الناس بالحق.

ولقد اعتنى القرآن الكريم في تهذيب النفس. ولاسيّما حال القضاء. بتعديل القوى الثلاث المذكورة، نستعرض ما جاء فيه في ما يلي:
الأول: ما يدل على تعديل العقل، بلزوم تعلّم الوحي والتعمق في ما جاء به الأنبياء عليهم السلام، وإن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وقد سبق تفصيل ذلك في الفصل الثاني فلا نعيده."

الثاني: ما يدل على تعديل الحب، كما في قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾  (النساء/ 135).
فقد أمر تعالى المؤمن أن يكون قوّاماً بالقسط وهو أعظم من القيام بالقسط جدّاً، وأمر أن تكون شهادته لله ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين حتّى لا يكون حبه لنفسه أو لأقاربه مانعاً عن إقامة القسط أو الشهادة لله، فلو لزم الإقرار على نفسه، أقر عليها، ولو كان إقامة الحق يستدعى الشهادة على أقاربه الأدنين لم يمتنع من الشهادة. وعند ذلك تكون شهوته عادلة وحبّه في الله وهو مجذوب إلى الله، فلا يَطْمع في شيء لا يرضاه الله ولايطمعه شيء يكرهه الله ولايرغب في باطل ولا يميل إلى زائف، فلا يمكن السيطرة عليه من قبل شهوته ولا السلطة عليه من جهتها ولا الاستيلاء عليه من طريقها.

الثالث: ما يدل على تعديل الغضب، كما في قوله تعالى:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة/8).
أمر تعالى في هذه الآية المؤمن أن يكون قوّاماً لله شاهداً بالقسط وهي كالآية السابقة مشحونة بالعناية بالقسط والعدل، ونهى تعالى أيضاً المؤمن أن يحمله شنآن قوم وعداوتهم على الاعتداء وترك العدل وسيطرة البغض على القضاء.

وعليه فلا بد على القاضي أن يتأدّب بآداب الله تعالى، بأن يكون غضبه لله وحده ولا يوجب بغضه لقوم الحكم الجائر، وإذا كان كذلك اعتدلت قوته الغضبية فلا خوف له من غير الله ولا رهبة له من مخلوق، فلا يمكن السلطة عليه من ناحية الغضب ولا إثارة غيظه.

فإذا بلغ الإنسان هذا المبلغ من السيطرة على النفس واتصف بالعلم والعدل واعتدلت قواه العقلية والعملية، صح له حينذاك أن يتصدى للقضاء والجلوس في مجلس لا يجلسه إلا النبي أو الوصيّ، لأنَّه وإن لم يكن نبياً ولا وصياً بالوصاية الخاصة. كما في الأئمة المعصومين عليهم السلام. إلا أنه وصي بالوصاية العامة بمقتضى نصوص النصب.

وصح أيضاً لهذا القاضي أن يحكم بعلمه، لأن سائر الإمارات حجة بالعلم وهو ـ أي العلم حجة بذاته ـ فإذا علم القاضي العادل الحق فله أن يحكم بما علم، لشمول الآيات الآمرة بالحكم بالعدل ونحوه له، بل لو قامت البينة على خلاف ما علم أو حلف المنكر كذلك، فله أن يعرض عن الحكم ويرجعه إلى قاضٍ آخر مثلاف، ولا يجوز له الحكم على خلاف علمه وإن وافق البيّنة أو اليمين.

ولا يصحّ نقض حكمه والرد عليه، لأنه كالرد على الإمام المعصوم الذي يكون الرد عليه كالرد على الله تعالى، وهو على حدّ الكفر الفعلي والشرك العملي بالله، لا الكفر الاعتقادي، لأن الكفر الاعتقادي يختص بما يرجع إلى إنكار أحد الأصول الدينية بلا واسطة أو معها عند الالتفات إلى الرجوع إليه.

ثم إن من أهم آداب القاضي هو اتقاؤه عن الرشا في الحكم، لأنَّه سحت وغلول وتعدّ.
قد نهى القرآن الكريم عنه بقوله:   ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ  (البقرة/ 188).
نهى عن الإدلاء بالأموال إلى الحكّام طمعاً في قضائهم بالجور.
و"الأدلاء" هو إرسال الدلو إلى باطن البئر لاستخراج ما في غورها من الماء، والنكتة في استعمال هذه اللفظة هنا أن الرشوة بمنزلة الدلو المرسل إلى باطن القاضي لاستخراج ما في سريرته الخبيثة من الحيف والجور.
فلا بد من طهارة الباطن ونزاهة الضمير حتى لا ينعطف نحو المال ولا ينقبض بالقهر، وقد نهى القرآن عن هاتين الخصلتين بقوله: ﴿فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً (المائدة/44).
فإن الأول ناظر إلى النهي عن الخوف الباطل تعديلاً للقوة الغضبية، والثاني نظار إلى النّهي عن الجذب الكاذب تعديلاً للقوة الشهوية، مع الالتفات إلى أن الدنيا بأسرها متاع قليل، والقاضي الجائر لو أوتي الدنيا بحذافيرها تجاه ما يجور في الحكم، لكان قد اشترى بحكم الله ثمناً قليلاً، لأن الزائل قليل مهما كان كثيراً في ظاهر الأمر.

ولا اختصاص للرشوة المنهيّ عنها بالعين بل تشمل المنفعة والانتفاع أيضاً كما أنها قد تكون عملاً خاصّاً ينجزه الراشي، أو قولاً يمدحه به ويثني عليه، أو فعلاً، كإظهار تعظيمه وتبجيله مثلاً، فهذه كلّها محرّمة، لصدق الرشوة عليها موضوعاً، أو للإلحاق بها حكماً. (الطباطبائي، العروة الوثقى 3).
وسنذكر في (أدب المتخاصمين) أن البذل والأخذ كلاهما حرام.

ومما مضى ظهر: لزوم تحفظ القاضي عن أن يصير خصيماً للخائن، وهو إما بالجذب الباطل أو الدفع الكاذب، ويدل عليه قوله تعالى:  ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا  (النساء/105).
فقد نهى القاضي أن يكون خصيماً للخائن مدافعاً عنه، إذ الخائن إنما يخون نفسه ولذلك لا يحبه الله تعالى، فعلى الحاكم أن يتحرّز عن الميل إليه والذب عنه وطرد المظلوم والوقوف إلى جانب الظالم.

* ونتيجة الكلام:
إن المتجه في نظام القضاء هو اتصاف القاضي بالعدالة الكبرى الحاصلة في القوة العقلية بالحكمة، وفي الشهويَّة بالسخاء والعفة، وفي الغضبية بالشجاعة؛ فيصبح القضاء طاهراً عن لوث الجور وقذارة الباطل ورجس الزور، وبذلك ينال من الخير لا يُعادِله من الحسنات الأخرى.
ومن سنن القضاء أن لا يبادر القاضي بالحكم قبل تمام التحقيق وسؤال الخصمين وإليه يشير قوله تعالى: ﴿إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وأن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعضٍ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب (ص/ 23 ـ 24).
في هذه الآية إشارة إلى أن الأولى ترك البدار إلى وصف الخصم بالظلم وإن كان مع حفظ الفرض والاشتراط، أي على فرض صحة ذاك السؤال.

وليس في الآية ما يدل على الحزازة بالقياس إلى مقام النبوة، حيث ذكرت هذه القضية في سورة صلى الله عليه وآله وسلم بين مدحين لداود عليه السلام، فإنَّ قبلها قوله تعالى: ﴿وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب. وبعدها قوله:  ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ .

ومن المعلوم: أن النبي الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب وجعله خليفة في الأرض وأمره أن يحكم بين الناس بالحق، لا يبادر إلى الحكم قبل تمام نصاب التحقيق البتَّة، فلا بد وأن يكون ما صدر منه عليه السلام إنما صدر بلسان التعليق والاشتراط، أي لو فرض صحة ذلك السؤال لكان ظلماً.
فعليه يلزم أن يتأدّب القاضي بترك التسرُّع لما كان مثل هذا الحكم أيضاً، كما أن عليه أن يساوي بين الخصمين في النظر والقول، وأن يعلم أن لسانه بين جمرتين منن النار وأن لسانه وراء قلبه فإن كان له قال وإن كان عليه أمسك.

ولو لم يتأدب القاضي بالأدب الإلهي لما كان لقضائه مغزى وإن كان حقّاً إذ المعتبر في نفوذ القضاء أمران:
الحسن الفعلي: بأن يكون القضاء مطابقاً للحق، والحسن الفاعلي: بأن يكون صادراً عن نفس زكية وقلب مطمئن بالإيمان لا يخاف في الله لومة لائم، إذ القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة (الوسائل، باب 4 من أبواب صفات القاضي) وهو الذي قضى بالحقّ وهو يعلم أنَّه حقّ.

* الفصل الرابع: أدب المتخاصمين
قد تبيّن أن ميزان القضاء هو الوحي الإلهي لا غير، وأن المرجع الوحيد لفصل الخصومة هو العالم بالوحي والمؤمن به والمتصف بما جعله ملاكاً للقضاء فيتعين الرجوع إليه عند التخاصم ويكون الأعراض عنه بالرجوع إلى غيره أعراضاً عن الحقّ واتجاهاً نحو الباطل، وهو ضلال بعيد كما قال تعالى:  ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا  (النساء/60).

فليس للمؤمن أن يتحاكم إلى من أمر أن يكفر به، كما أنه ليس للطاغوت أيضاً أن ينصِّب نفسه للقضاء، ولا يبلغ الإنسان درجة الإيمان حتى يحكّم رسول الله ويختاره حكماً كما اختاره الله تعالى كذلك ويرجع في خلافاته مع الآخرين إليه، ثم لا يجد في نفسه حرجاً ولا ضيقاً مما حكم به الرسول، سواء كان له أو عليه، إذ المؤمن هو الذي يُسلِم أمره إلى الله تعالى:  ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا  (النساء/65)..
جو الآية الكريمة يبين بوضوح وظيفة المتخاصمين عند الاختلاف والنزاع، وإنها الرجوع إلى الرسول لا غير، وتحث على الانقياد المحض لحكمه عندما يصدره حين التحاكم إليه (صلى الله عليه وآله) إذ الإيمان هو طمأنينة النفس والسكون، وهو لا يحصل إلا بانقياد القلب وعمل الجوارح كليهما.

وقد وصف القرآن الكريم بالظلم من لا يتحاكم إلى الله ورسوله إلاَّ إذا كان الحق له، كما وصف بالفلاح من إذا دعي إلى الله ورسوله ليحكم بينه وبين خصمه أجاب وأطاع، فقال عز من قائل:   ﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ  *  وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ  * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ    (النور/48 ـ 50).
فقد أفاد بالتحليل أن الأعراض عن محكمة الرسول إنما هو ناشئ عن الظلم.

وقال تعالى:  ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  (النور/ 51).
فقد أفاد أنَّ الفلاح يقتضي الانقياد لله ورسوله، وسر ذلك أن المؤمن قد بايع الله ورسوله، ومقتضى البيعة أنه قد باع نفسه وجميع ما يملك من الأهل والمال لله ورسوله، فهو لا يملك نفسه ولا شيئاً مما يضاف إليه لأنَّه قد باعها لله والرسول، فليس له أن يتصرف في نفسه أو ما يعود إليه إلا برضى الله ورسوله، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا  (الأحزاب/36).

* الفصل الخامس: أدب الشاهد

للقضاء سند خاص يستند إليه القاضي في حكمه، فإن كام تيناً كان القضاء صحيحاً مطابقاً للواقع وإلا فلا.
وكما قلنا في القاضي أنه لا بد أن يكون عالماً عادلاً، كذلك لا بد أن يكون الشاهد عالماً عادلاً.

والفرق بينهما أنه يعتبر في القاضي علمه بالقانون الإلهي وفي الشاهد علمه بالموضوع مشاهدة، فيلزم عليه رعاية أمور:
منها الحضور في الحادثة لتحمل الشهادة عن معاين، والحضور في المحكمة لأدائها (من سورة البقرة/282) بلا تبديل ولا أعراض، أي ليس له أن يعرض عن الشهادة ويكتمها، لأن الكاتم آثم قلبه (من سروة البقرة/283) أو يبدلها لأن الله تعالى بما يعملون خبير، كما دل عليه قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا  (النساء/135).

قد تقدم تحقيق التمييز بين كون الإنسان قائماً بالقسط وكونه قوّاماً به، كما تقدم أيضاً البحث حول الشهادة على النفس والأقرباء. والمتحصل من الآية الكريمة: عدم دخالة شيء من العوامل النفسية أو القومية أو الاقتصادية في الشهادة، حتى لا يوجب حب النفس أو الوالدين أو الأقربين. وكذا يجب أن لا تؤثر العوامل الاقتصادية من الغنى والفقر في كيفية أداء الشهادة أو الأعراض عنها، والسر في ذلك كله أن الله تعالى خبير بما يعمله العبد كائناً ما كان شهيد عليه، فمن علم ذلك يحفظ نفسه عن الزلة والذلة.

ويستفاد من الآية أيضاً عدم منع القرابة عن قبول الشهادة لبعض الأقرباء أو عليه حتى الولد على الوالد، لتماميَّة دلالة الآية وعدم تماميّة ما استدل به للمنع عن ذلك، وتفصيله يطلب من كتب الفقه.

* الفصل السادس: أدب الحكم بين أهل الكتاب
المتحاكمان قد يكونان مسلمين وقد يكونان من اليهود أو النصارى مثلاً وقد يكونان مختلفي الدّين.
فإن كان المحاكمان مسلمين يحكم القاضي بينهما بمقتضى الدين الإسلامي لا غير. وإن كانا يهوديين أو نصرانيين مثلاً فالحاكم بالخيار بين أن يحكم بينهما بمقتضى الإسلام أو يرجعهما إلى المحاكم الخاصة بملّتهما لتحكم بينهما بمقتضى تلك الملَّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى:  ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ  (المائدة/42).

صريح هذه الآية الكريمة هو التخيير بين الأمرين، ولا ينافيه ما هو الظاهر في تعيين الحكم بينهم بمقتضى الإسلام، لأن النص مقدم على الظاهر أولاً، ولأنّ التخيير بين الأمرين هو أيضاً مما يقتضيه الإسلام، فلا مجال لتوهّم كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:  ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ  (المائدة/48).
إذ لا تنافي بين ما هو نص في التخيير وما هو ظاهر في التعيين، بالإضافة إلى أن التخيير أيضاً هو مما أنزله الله تعالى.

ثم إن تفصيل الكلام فيما إذا كان المتحاكمان مختلفين في الملة وفي جواز أن يحكم قاضي المسلمين بينهما بمقتضى شريعتهما، حسبما يترائى من قوله عليه السلام: "لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل الإنجيل بإنجيلهم..".
وفي غير ذلك من المباحث الفرعية موكول إلى محلّه من كتب الفقه.

ولقد قوى بعض أصحابنا الأمامية (السيورى، كنز العرفان: 2/378) تحتّم الحكم بينهما بمذهب الإسلام، لأن ردهما إلى إحدى الملّتين موجب لإثارة الفتنة، وقد احتاط سيدنا الأستاذ دام ظله فيما إذا زنى ذمّي بذمّية أو لاط ذميّ بذميّ بإجراء الحدّ عليه. (تحرير الوسيلة: 2/464 و470 و506 و507).

* الخاتمة:
من نوادر أحكام القضاء:

1. قد تقرر في الفقه: أن للقضاء ميزاناً لا يتعدّاه القاضي وهو البينة أو اليمين. ومنها القسامة عند اللّوث، أو علم الحاكم، أو الإقرار، حيث لا يمكن للقاضي الحكم الثبوتي أو السلبي بما عدا ذلك.
نعم قد يتوسَّل إلى القرعة عند تزاحم الحقوق فقط، لا لبيان الحكم وكشفه بل للتقسيم ونحوه مما يشتبه فيه الموضوع الخارجي، وتفصيله في الفقه.
وقد قيل: أن له أصلاً في القرآن الكريم لا يخلو التعرض له عن الفائدة، وذلك هو قوله تعالى:  ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (آل عمران/44).
وقوله تعالى أيضاً: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (الصافات/141).
أي المغلوبين بالقرعة حيث ظهر سهمه من الإلقاء في البحر ليلتقمه الحوت أو لغير ذلك.
ثم إن ذلك لا مساس له بالقضاء، لأعمية القرعة من بابه، إلا أنَّ لها مساساً به قد أوجب الإيماء إليه هنا بهذا القدر.

2. قد يتخيَّل الاختلاف بين حكمي داود وسليمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القومت.
فيحمل على اختلافهما في الاجتهاد تارة وأن الذي أوحي إلى سليمان كان ناسخاً لما حكم به داود تارة أخرى.

أقول:
أما الاجتهاد عن رأي وتفكر حصولي فلا مجال له للنبي بالنسبة إلى الحكم الإلهي، مضافاً إلى قوله تعالى:﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ .
المشعر بكون تفهيماً إلهياً، كما أن ما أوتي داود عليه السلام كان من قبل الله عز وجل، حيث آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب الذي قيل فيه أن منه كون البيّنة على المدعي واليمين على المنكر. وأما النسخ فلعله لم يثبت به، لاحتمال كون كلا الحكمين حقاً، إلا إن ما حكم به سليمان كان أنفع وأعود بلحاظ المتحاكمين. فتدبّر.

إذا كان المتحاكمان مسلمين وجب على القاضي أن يحنكم بينهما بمقتضى الدين الإسلامي. وإن كانا من ملة أخرى فهو بالخيار أن يحكم بالإسلام أو بمقتضى ملتهم، والتفصيل في كتب الفقه.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع