آية الله مشكيني
"وهل الإيمان إلاّ الحب والبغض" الإمام الصادق عليه السلام
إحدى الحالات القلبية للإنسان الحب، هذه الصفة وإن كانت غالباً من الحالات الإنسانية بمعنى أنها تعرض بسرعة وبدون مقدمات على نفس الإنسان وتزول بسرعة أيضاً، لكنها أحياناً تكون من الملكات الراسخة والصفات الثابتة. توجد هذه الصفة في الغالب في جميع الحيوانات أيضاً وقد تكون في بعضها قوية جداً ولكنها قد تصل في الإنسان إلى درجة تشغل معها جميع القوى الفكرية والبدنية، وتجعل جميع اختياراته في قبضتها. غاية الأمر أن لهذه الصفة أقساماً وأنواعاً مختلفة ودرجات متعددة، ونحن هنا نقوم بالإشارة إلى بعض هذه الأقسام والمراتب ساعين أن لا نخرج بحديثنا وتحليلاتنا عن حدود البحث الأخلاقي.
* أنواع الحب
التقسيمات والأنواع المختلفة للحب ترتبط بمتعلقها، بمعنى أن بعض أقسام الحب جيدة وجميلة وتعتبر من الصفات الكمالية، وبعضها قبيح وسيء ويكون من الصفات الرذيلة. وهذا التفاوت راجع إلى متعلق ذلك الحب أو ما يحبه الإنسان ويتعلق به إن كان بموجود شريف ومقدس وجميل، أو بموجود حقير وسافل. من هنا تتضح أقسام المحبة ومراتبها.
من أفضل الأقسام وأجمل الأنواع حب الله. وفي الأصل إن ميزان الكمال والفضيلة والسمو الروحي للإنسان من هذا القسم. وقد كان الهدف الأصلي والأصيل لجميع الأنبياء والأولياء تحصيل هذا الكمال وتعليمه. ومحبو الحق في هذه الصفة مقامات متعددة ودرجات مختلفة، وعلى رأس هذه القافلة البشرية الأنبياء العظام الذين كانوا دوماً عشّاقاً لله وهائمين ومتيّمين بذاته الأقدسية.
ولعل جميع العقائد الدينية والأصول العقائدية تلخّص في مضمون هذه الجملة التي نقلناها في البداية: "هل الإيمان إلاّ الحب والبغض"، أي حب الله وأحبائه وبغض الشيطان وأتباعه. وقد جاء في أحاديث المعصومين: "من أحب الله وأبغض عدوه لم يبغضه لوترٍ وتره في الدنيا ثم جاء يوم القيامة بمثل زبد البحر ذنوباً كفّرها الله".
هناك مثالٌ يجري على لسان العظماء حيث يقولون: "من أحب شيئاً أحب آثاره"، فمن الطبيعي أن تؤدي المحبة والعلاقة بشخصٍ أو شيء إلى محبة متعلّقاته ولوازم وجوده وآثاره وأعماله، وعلى هذا الأساس يتعلق محبو الإله بأنبيائه ورسله وأيضاً يتعلقون بما يصدر عنه وباسمه وآثاره وشعائره، ولهذا يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في إحدى مناجاته: "اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصلني إلى قربك". في هذه الجمل الثلاث يطلب الإمام ثلاثة أمور مهمة من الله. محبة ذات الحق المقدسة التي هي أعظم النعم الإلهية وأعلى الفضائل الإنسانية، ومحبة أحباب الحق التي هي من آثار وشؤون محبة الحق وشعاع من أنوارها.
والأمر الأخير، محبة الأعمال التي هي طريق الوصول إلى الحق والصراط المستقيم للنزول في ساحة المحبوب القدسية. وطبق هذا الميزان حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمننّ عبدٌ حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين". وبالتأكيد فبنفس المقدار الذي يكون في قلب الإنسان محبة لغير الرسول يكون هناك نقص في الإيمان والمحبة الحقيقية، ويكون حب وعشق الرسول ظلاً من عشق الله ومن أغصان تلك الشجرة الطيّبة التي: ﴿أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها﴾.
أجل فإن التعلق بالمعبود ومحبته شجرة قوية وراسخة في مملكة قلب المحبين، قد غُرست من اليوم الأزل واشتدت وقويت ونمت أغصانها في فلك الإنسانية والإيمان، تؤتي في كل لحظة وساعة ثمراً طيّباً، تلك الشجرة المباركة هي حب الله وأغصانها حب أحبّائه وثمارها المختلفة والمتجددة الأعمال الصالحة التي تضيء على العالم الظلماني وتمنح المجتمع غذاءً عذباً وحياةً جديدةً. وإلى هذا الغصن يشير الإمام الصادق عليه السلام في كلماته النورانية بشأن شيعته: "يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا". فمحبّونا وأتباعنا قد امتزجوا معنا واتحدوا كأن الجميع صار من منبع واحد ومعدن واحد وكأن الجميع قد خُمِّروا وعجنوا من عجينة واحدة، بحيث أن تعلقهم بنا صار ينقل غمومنا وغصّاتنا إلى قلوبهم، وفرحنا وسرورنا أيضاً.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله". وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك". أجل، فمن أحب شيئاً أحب آثاره.
* علامات حب الله
طبق البيان السابق، فإن حب الحق ومريديه وحب الأعمال الحسنة من أفضل الصفات، فما هي علامات وجود مثل هذه الفضيلة في الإنسان؟
ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "علامة حب الله حب ذكر الله". والطبيعي أن الإنسان إذا تعلّق بأي شخص أو مكان أو عمل يحب أن يتحدث عنه حيث أن فكره وقلبه يلهج بذكره دائماً. فحب الله يؤدي بالإنسان إلى أن يصبح قلبه وروحه متيّمةً بذكره مشتاقةً إليه، كما قال علي عليه السلام: "ولولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين أبداً شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب". أجل! فمن علامات حب الإنسان لربه أن يلتذ بسماع كلامه، ويتمتع بصلاته ويهتز لرؤية بيته والوقوف في مشعر منى والسعي بين الصفا والمروة والدخول في حرم لقائه، وتجري دموعه بدون إرادة في مواقفه.
فمحبو الحق درجات في مشاهدة آثار جماله وجلاله، وقد يؤدي هذا الحب بالمحب إلى درجة لا يعود فيها قادراً على الوقوف والقيام: ﴿... وخر موسى صعقاً﴾.
* تحصيل هذه الفضيلة
إن الوصول إلى هذه الصفة وتحصيل هذه الفضيلة أمر بالغ المشقة. فالإنسان الطالب للكمال والعاشق للجمال ينبغي أن يبقى لفترات مراقباً لنفسه ويضع أعماله كلها تحت الفحص والمراقبة ويحاسب نفسه دائماً ويوبّخها ويلومها منذ الوقوع في الخطأ ويهددها أحياناً بالتعذيب في أنها لو ارتكبت الخطأ ثانية لأدانها وأودعها السجن ومنعها من ملاقاة أحد ولكنها بالأعمال الشاقة من قبيل الصيام لعدة أيام وبذل المال وغير ذلك. وبالجملة ينبغي أن يروض النفس المتمردة ويجعلها خاضعة لسلطان العقل وسيطرة العشق، كما قال الصادق عليه السلام: "حاسب نفسك أشد من محاسبة الشريك شريكه"
ولأجل طي هذه المراحل ينبغي التوسل بذات الحق المقدسة والاستمداد من مقام كرمه: "ولا حول ولا قوة إلا بالله".
وهنا يقول زين العابدين وسيد الساجدين عليه السلام: "إلهي اجعلني ممن أهّلته لعبادتك وهيّمت قلبه لإرادتك واجتبيته لمشاهدتك وأخليت وجهه لك وفرّغت فؤادَه لحبك ورغّبته فيما عندك".