مع الإمام الخامنئي | كلّنا مَدينون للنبيّ الأعظم* نور روح الله| هكذا كانت حياة الرسول* مع إمام زماننا | حين تزفّ السماء نبأ الظهور (2): في مكّة السيّد محسن شهيداً على طريق القدس مقاومتُنا بعينِ الله صُنعت حاجّ محسن! إلى اللقاء عند كلّ انتصار* أبو طالب: قائدٌ في الميدان والأخلاق المقاومة الإسلاميّة: ثقافتنا عين قوّتنا الشهيد على طريق القدس بلال عبد الله أيّوب تسابيح جراح | جراحاتي لا تثنيني عن العمل

التنبؤات: تجارة الكذب

تحقيق: لنا العزير

مطلع كلّ سنة، يُتحفنا تجّار الكذب بسلّة من التوقّعات والمتناقضات الاجتماعية والسياسة، وحتى الشخصية. ورغم أنّ الناس باتوا يعلمون أنها خليطٌ من تحليل للواقع وكذب، إلا أنّ ذلك لم يمنع أن تكون حديثاً في الصالونات وأداة للتعارف بين جارتين تسأل كلّ منهما الأخرى عن برجها لتتوقّع مدى الانسجام المستقبلي بينهما. ليت الأمر يقف عند الأبراج فحسب، بل تطوّرت المهنة لتشمل معرفة المصير من خلال ذبذبات الصوت، والإيحاء النفسي والإلهام الخاص الذي يشعر به المتنبئون الجدد! فكيف يكذبون ويبيعون كذبهم؟ ولمَ لا يزال هناك مصدّقون لهم؟!

*البداية: جاذبية خاصة لعلم الفلك
يُرجع كثيرٌ من المحلّلين الاجتماعيين والمختصّين في علم النفس، مسألة متابعة الأبراج والتوقعات لحاجة قديمة عند الإنسان في إشباع فضوله، وحبّه لمعرفة الغيب، أياً كان نوعه. وقد تتزايد هذه الرغبة أو تتضاءل في الفرد، تبعاً لمشاربه المعرفية، ولعامل الاستقرار والأمان في مسيرته الحياتيّة. لذا، نجد أن الشعوب الأكثر تدافعاً على مضارب العرّافين، هي الشعوب التي تعاني نقصاً في الثقافة، وكذلك الشعوب المتعرّضة للأزمات الأمنية والاجتماعية.

ولذا، تنقسم ظاهرة التكهّن المستقبلي اليوم إلى قسمين: الأول: يُنسب للعرّافين الذين تنبذهم المجتمعات المتحضّرة، ويُعتبر نوعاً من العشوائيّة الاجتماعية. الثاني: يُنسب لعلم الفلك والتوقّعات، وهو ما تتبنّاه المجتمعات المتحضّرة، بل وتفرّغ له مساحات من فضائها الإعلامي بدرجة أولويّة حدثيّة، لا سيما في فترة رأس السنة الميلادية. وتنقسم التوقعات في هذه الليلة إلى قسمين منها الأبراج ومنها التوقّعات الحسّية، والتي يعرّف عنها أصحابها بأنها رؤىً لصورٍ تتعلّق بالوضع العام، وبعضهم ينتقل من البرج إلى مرحلة التنبؤ لمستقبل الشخص من خلال حسابات وغيرها.

*بين علم الفلك والتنجيم
ويفصل الأستاذ إبراهيم عواضة، رئيس مركز حمورابي للدراسات والأبحاث القانونية، بين علمي الفلك والتنجيم مبيّناً أن "الفصل بين العلمين تكرّس في العصور الوسطى انسجاماً مع سيرورة العلم ككل، أي محاولة الفصل بين العلوم الميتافيزيائية والعلوم الموضوعية" معتبراً أن التنجيم هو "محاولة إخراج علم النفس من المجهول إلى دائرة الضوء وتسهيل تصنيف النفس ودراستها تبعاً لأنماط محددة، بالاستناد إلى فكرة حدسية تشبّه العالم بالإنسان الكبير أو الإنسان بكونٍ صغير. وفي ذلك يقول الطبيب كلود برنار: لا يشكل الكائن الحي استثناءً من التناغم الكوني... بل على العكس يساهم في السيمفونية الكونية للأشياء".
"في حين أن هذا التماثل لا يعني إمكانية التنبؤ بمصير كل ما يتحرك في هذا العالم" يضيف الأستاذ عواضة.

في هذا المجال يمكن التعرّض لبحث طويل في علم الأرقام والفلك مما لا يتعارض مع السياق الفكري الكوني أو العلم الديني، ولكن الإشكالية العلمية تقع مع التنبؤات أو التوقعات.

*كيف يحصلون على توقّعاتهم؟
وإن كان ردّ هؤلاء عن مصدر توقعاتهم، لا زال حتى اليوم مبهماً، إذ يجيب أحدهم: "إن مصدر توقّعاتي ليس جهة إعلاميّة أو أمنيّة أو سياسيّة، وأنا مثل كل الناس لا أعرف المصدر لتوقعاتي". بينما يركّز معظمهم على مسألة الرؤيا كمصدر لهذه التوقعات، وهي التي يمكنها أن تتبرّأ من الحجج العلمية والقانونية فيما لو وقعت المساءلة؛ في حين تصرّح أخرى بأن توقعاتها "تعتمد على الإلهام الذي خصّها به الله". ويستند آخر في تفسيره لتوقعاته بحسب تعبيره: "إلى ذبذبات صوت المتكلم ولو عبر الهاتف؛ لمعرفة مصيره حتى موته".

وقد يشطح متنبّئ آخر بأن يصف توقّعاته بــ "الرسالة"، فيقول: "أنا أحلِّل شيفرة النبوءات والنصوص القديمة بكل سهولة، ولأنّ هذا الأمر ميسّر لي فأنا مذكور في النبوءات القديمة بأني أستطيع كشف أسرار نهاية الزمان. وأنذر الناس بما هو آتٍ من خلال علوم وأسرار أحملها. إنّ مهنتي رسالة". ويتّهم هذا المتنبّئ المنجمين الآخرين بأنهم "يعتمدون بغالبيتهم على استراق السمع من الجن والمعروف أن الجن يكذب في أكثر ما يقول"، يضيف: "أما غالبية قارئي الطالع فأنا لا أؤكد مصداقيتهم لأنهم يقرأون الأفكار ويتحايلون على الناس، والمصداقيّة الوحيدة هي عند علماء الفلك".

*العقل والدّين: تصديق المتنبّئين سذاجة
"هذه الأمور ليست علمية ونتائجها ليست موثّقة مئة بالمئة أو ما يدانيها بحيث تتحول إلى حقيقة حتمية، مثل توقع الخسوف والكسوف، وليست إخباراً إلهياً على لسان نبي أو ولي"، هكذا بدأ الشيخ نجيب صالح تفسير موقف الدين من هذه الظاهرة والتحذير من خطرها، كونها "تعمل عكس الدين الذي يحرّض الإنسان على عمل الخير والتقدّم بالمعاملة تجاه الآخرين على قاعدة تحصيل الأجر والجزاء الحسن وحسن هذه الأعمال في قيمتها مهما كانت الظروف المحيطة. فيما تقوم هذه التنبؤات بحسم بعض الأمور لدى من يتتبعونها فتثبطهم عن الفعل مهما كان حسناً ومجدياً وتحوّلهم إلى متلقين سلبيين لحركة الكون، وبذلك تدخل في مسار الجبرية التي تبيح للشخص فعل أي شيء وإلقاء تبعاته على التسيير الكوني. وهو أمر مرفوض شرعاً وعقلاً، والدين الإسلامي ينهى بشكل قاطع عن الانخراط في مثل هذه المتابعات، ويرفض قتل العقل وتسليمه لهذه المسارات".

يرى الشيخ صالح أن مصادر هؤلاء وغاياتهم مشبوهة، فهي لا تملك المصداقيّة العلميّة ولا القانونيّة ولها فعل خطير في استغلال المجتمعات الموتورة، وتعمل بشكل متردد فيما بينها على نغمات متّسقة يتبين كذبها فيما بعد، إذ لا يمكن أن يلتقي هؤلاء جميعاً في نقطة توقّع واحدة لا تتحقق، إلّا إن كان الغرض بثّ هذه المعلومة بين الناس لغاية غير معروفة!".

*دائرة تأثيرها على الناس
وهذا ما يفسّر الوقع المدوّي الذي تتركه هذه التوقّعات على المجتمع، ما يجعلنا نقرأ ردّاً من شخصية بمستوى رئيس الجمهورية، على تحذير أحد المنجمين له خوفاً على حياته، "آمل أن لا يخاف زوّاري من التوقّعات المتعلّقة بعدم أمان المتنقلين ذهاباً وإياباً إلى منزلي، الموجود في محيط قيادة الجيش". هذا الرد يعكس مدى إمكانية تأثير هذه التوقعات على مختلف الفئات الاجتماعية.

وقد لا يكون كافياً أن تستعرض النسب المئوية التي لا تتجاوز الـ27 % من صحّة هذه التنبؤات والتي بغالبها تتمركز في سياق الاستدلال والتحليل، بمعنى أنها توقّعات تحليلية لا معلوماتية، كأن يتوقّع فلان، أن الساحة الفنية مثلاً ستودّع فناناً عملاقاً، دون تحديد صفة خاصة به، في وقت يكون فيه أكثر من واحد في دائرة الاحتمال، لمرض أو ما شابه. أو أن يُقال إنّ الوضع الأمني غير مستقرّ والاغتيالات السياسيّة مستمرة، وهذا في خضم وضع أمني متأزّم.

*إنّها شعوذة لا رؤيا
الغريب، أنّ الرغبـة البشرية في خلق مصداقيّة للتمسّك بها، تتعرّض لنسبة 70 أو 80 بالمئة من التوقعات الكاذبة والتي لم يحالفها الحظ أن تتحقّق، إلا أنهم يصرّون على تمجيد ما حصل بفعل الصدفة أو التمرير المعلوماتي، أو ربما التنجيم وهو باب آخر يدخلنا إلى ممرّات الشعوذة التي لطّفها المجتمع المتحضّر باسم الرؤيا.

وهنا يقول الباحث النفسي شارل ريخت إنه لكي يتحقق وصف إحساس ما بالتوقع أو التنبؤ بخطر أو بحدث ما لا بدّ أن تتوفر فيه خاصيّتان:
أولاً: أن تكون الحقيقة التي يعلنها الشخص الذي يتمتع بهذه القدرة مستقلة تماماً عنه.

ثانياً: أن تكون الحقيقة التي يعلنها الشخص الذي يتمتع بهذه القدرة لا يمكن حدوثها كصدفة أو فَهمها كاستنتاج منطقي لأحداث متتالية.

يضيف الشيخ نجيب صالح في السياق نفسه: "إنّ ما يحصل عبارة عن شعوذة منمّقة، تفعل في المجتمعات فعل ساحر يجرّ خلفه رؤية مستقبليّة لها، وتؤثّر في تشكيل رأي عام عن مرحلة مقبلة، كالقول إن الحالة الأمنيّة مضطربة، أو إنّ العالم قادم على حرب كبيرة وهي من الأمور التي لا بد أن يحاسب علـيها القـــانون بتهــمــة الترويع أو بـــثّ أفــــكــار معينة لهذا المجتمع. وحتى اليوم لا زالت مصادر هؤلاء مشبوهة أمنياً وعملياً".

*أين القانون؟
ما سبق يطرح استفهاماً كبيراً لشريحة كبيرة من المواطنين غير المنتمين لثقافة الاستهلاك السلبي: ما هو دور الجهات المعنيّة في التصدّي لهكذا ظاهرة؟ وما هو البعد القانوني الذي يطال مثل هؤلاء كما الوسائل الإعلامية ودور النشر التي تسهّل عملهم المشبوه؟ أمام وجود مكاتب علنية ورسوم مراجعين وزبائن وأجور...

أوضح المحامي الأستاذ عواضة: "لجهة ما يُتوقع منهم من كوارث طبيعية أو حروب أو اغتيال أشخاص، فهذه أمور لا يمكن إدراكها علمياً، وهؤلاء يُصنفون تحت عنوانين، الأول أنهم يعتمدون على دراسات وتحليلات، والثاني أنهم مرتبطون بجهات استخباريّة معينة تقوم بتسريب بعض المعلومات لهم ليصبحوا مصدر ثقة. فإن أيّ توقع يؤدي لخلق الذعر أو تحديد مصير شخصٍ وتهديد حياته بالخطر، هذا أمرٌ يُعاقب عليه قانون العقوبات اللبناني، إما لجهة التدخّل بالجرم وإما لجهة الاشتراك والتحريض عليه".

*وسائل الإعلام
أما عن دور وسائل الإعلام التي تقوم بترويج ونشر فكر هؤلاء ومساعدتهم في تحقيق أهدافهم، في حين أنّ المطلوب منها توعية المجتمع من الانزلاق في مسارب هذه الأكاذيب، "ولا سيّما إن حصل الأذى على الشخص المذكور"، فيقول الأستاذ عواضة: "تعتبر هذه الوسائل موضع مطالبة قانونياً لجهة جُرم التدخّل لبث هذه الشائعات وتسبّب أضراراً جسديّة أو معنويّة للشخص المجني عليه".

واللطيف ذكره، أنّه في جلسات المثقفين أو غير المثقفين على السواء، تكون التعليقات مُكذّبة ومُدينة، بل ومُشكّكة بغايات هذه التوقعات، إلّا أن ذلك لا يمنع بعضهم إن لم نقل كثيراً منهم، من متابعة هذه التوقّعات بحجج مختلفة، ليس أقلّها استسلام ولو بقدر يسير للخوف من المجهول.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع