الإمام الخامنئي دام ظله
عندما نسأل الله سبحانه أن يبارك لنا عاماً جديداً نستقبله فإننا نرجو بذلك عاماً مليئاً بالخير والبهجة والسرور. وإنّ جزءاً من ذلك طبعاً، يقع على عاتقنا. فنحن بسلوكنا واختيارنا نحدّد مصير حياتنا لتكون مباركة أم غير مباركة. بمعنى أنّ الإنسان باختياره يحدّد مصيره النهائي.
*وهديناه النجدين
لقد أودع الله سبحانه فينا القابليّة والاستعداد لاختيار أحد الطريقين:
﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن﴾ (البلد: 10). وتكون الظروف مساعدة ويكون الاختيار سهلاً، لكن في أحيان أخرى تكون الظروف معقّدة فيكون الاختيار صعباً. لكن في النهاية لا بدّ من الاختيار في سائر الأمور.
وعندما نكرّر ذكر ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم﴾ (الفاتحة: 6) في سورة الحمد المباركة يومياً مرات عديدة، فهذا يعني أنّ الصراط المستقيم الذي نسير فيه، على فرض أنّنا عرفنا الصراط والتزمنا به، يصل في كل لحظة إلى مفترق طرق. فالصراط ليس نفقاً أو سكة حديد يدخله المرء ويضمن خروجه من الناحية الأخرى.
كلا، ففي المسير مفترق طرق وتقاطعات عديدة لا بدّ من اختيار الصواب منها. وهذا المراد من كلمة (اهدنا) التي نكرّرها يومياً، فاليوم (اهدنا)، وغداً (اهدنا) وبعد غدٍ (اهدنا)، وفي هذا الموقف (اهدنا)، وفي ذلك الموقف (اهدنا)...
ولا نريد هنا أن نعقّد الأمر أو نجعله مستحيلاً، فالله سبحانه وتعالى قد وضع البيّنات بين يدي الجميع ﴿ ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُون﴾ (الأنعام: 131)، فليس الأمر أنّنا لو افتقدنا وسيلة الهداية وانحرفت مسيرتنا، سيؤاخذنا الباري تعالى أو يعذبنا، كلا، فهو تعالى قد آتى كل نفس هداها. هذا مقتضى قاعدة الهدايا الإلهيّة. وطبعاً، هناك موارد تستثنى من هذه القاعدة الكلية.
* عام جديد يعني دافعاً جديداً
أمّا (النوروز)(1) فالمراد به: العام الجديد. وأيّاً كانت التسمية فالمعنى واحد، لأنّ المفاصل أو المراحل الزمنية الجديدة في الحياة أمر مفيد ونافع. فالحياة لو استمرّت بشكل نمطي دون أن يمرّ الإنسان بمراحل جديدة، فمن الطبيعي أنّه لن يفكر بالتجديد، أو التطوير.
لذلك فمن فوائد المفاصل الزمنية أن يراجع الإنسان حساباته ويتأمّل في الآتي. كأن يشعر أن العام السابق قد انتهى، وبدأ عامٌ جديدٌ، ما يعني عملاً جديداً، وفكراً جديداً، ودوافع ومحفزات جديدة. كما نجد ذلك سائداً لدى مجتمعنا ومجتمعات العالم أجمع، فعندما يحلّ العام الجديد، يرتدي الناس ملابس جديدة، ويجددون منازلهم..
والفائدة المرجوّة من هذه المرحلة الجديدة، ومن وجود مقطع زمني جديد توفُّر فرصة للإنسان للتفكير في أفعاله السابقة وأفعاله المستقبلية، كأن يقول على سبيل المثال: لقد انتهت السنة الماضية ومشاكلها، فلنبدأ في هذا العام بتلافي هذه المشاكل وإصلاح ما فسد منها. وهذا الأمر يمكن تعميمه على كافة مجالات الحياة.
* قضيّة تستحقّ الاهتمام
وبرأيي فإنّ أولى القضايا التي تستحق أن يقف المرء عندها ويتأمل فيها، هي علاقته بالله سبحانه. ففي بدء العام الجديد لا بدّ أنْ يدرك الإنسان أنّ العام الماضي وما سبقه من أعوام، قد انقضت وهو الآن في مرحلة زمنية جديدة.
علينا أن نعيد التفكير في علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، سواء سلباً أم إيجاباً، والمراد بالجانب السلبي:
الإثم. فقد اعتاد الإنسان ارتكاب بعض الذنوب، لدرجة أنّه أصبح لا يعي خطورتها أو غافلاً عنها. لكنّه ما إن يقف ويتأمّل قليلاً حتى يدرك انعكاساتها على سلوكه. طبعاً، لا يخفى أنّ الإنسان، في الغالب، يحسن الظن بنفسه،
ونادراً ما يسيء الظن بها. وهذه مشكلة؛ لأنّه اعتاد أن يبرّر كل سلوك أو كل فعل من أفعاله، لكن مع ذلك ليس الأمر مستعصياً أو مستحيلاً، فالله سبحانه وتعالى سيحتج علينا، كما أنّه سبق وأتمّ حجته. لذلك علينا التأمّل بدقة وبإمعان، وسنكتشف ذلك.
إنّ لقلب الإنسان وروحه ووجدانه باطناً صادقاً معه، فإذا كان ظاهر القلب مخادعاً، فباطنه دون شك يكون صادقاً معه. ففي أحد المواقف كان إمامنا الخميني قدس سره يقول:
"إنّ باطن قلبي أيضاً لا يحزن من هذا الموضوع" "أي: إن باطن قلبه وظاهره متّحدان في الحالة نفسها". بحسب الواقع، فللقلب باطن نادراً ما نلتفت إليه ولو التفت الإنسان إليه، لانكشفت نفسه.
*محاسبة يومية
وكما تقدّم، يعتاد الإنسان أحياناً ارتكاب بعض الآثام مستصغراً ومحتقراً لها. وبالتالي، فإنّ من الأمور التي يمكن فعلها في العام الجديد، هو أن يتأمّل الإنسان في كيفية وضع حد للموبقات التي مرّت، فيبدأ بإحصائها وكتابتها.
في العام الماضي أو العام الذي سبقه، وبينما كنت أطالع سيرة الشهيد أفشردي (باقري)، لفت انتباهي أنّ ذلك الشهيد كان يدوّن ذنوبه التي صدرت عنه مساء كل يوم. وقد ورد أيضاً في وصايا علماء الأخلاق وفي بعض الأخبار محاولة الإنسان تدوين ذنوبه التي ارتكبها ومحاسبة نفسه كل ليلة، وهو ما كان الشهيد يقوم به. ألا نستطيع نحن أن نكتب رواية عن أنفسنا ومن ثمّ نعلن عنها، على الأقل بيننا وبين أنفسنا؟
إنّ محاسبة النفس أمر مفيد جداً. وعلى الإنسان أن يحاسب نفسه، ويبدأ بالتخفيف من ذنوبه واحداً بعد واحد. نحن اعتدنا على ارتكاب بعض الموبقات -وأحياناً يعتاد المرء على خمسة أو ستة أو عشرة ذنوب– لذا، لا بدّ من العزم على تركها واحداً تلو الآخر وإلى الأبد، ولا بدّ من تجنّب نقاط الضعف تلك.
*قربان كل تقيّ
والأمر أيضاً كذلك بالنسبة للجانب الإيجابي من الموضوع، ولنبدأ بالصلاة، لخطورتها وأهميتها. فالاهتمام بها يساهم في تذليل الكثير من العقبات وحلحلة المشاكل والأزمات. ولا بدّ للإنسان أن يأتي بالصلاة تامّة على أحسن وجه ويكون ملتفتاً خاشعاً فيها. والمراد من الخشوع:
عدم الغفلة عمّا يقول وعمّا يدور في خاطره، بمعنى أن لا يكون كالذي لا يعي ما يقول. فعلى سبيل المثال: أنا جالس أتحدّث إليكم وأنتم تصغون إلي فأنتم مخاطبون، والإنسان عندما يتحدّث لا بدّ أن يعي أنّ هناك مخاطباً يستمع إليه. وهكذا بالنسبة للصلاة، فلا بدّ أن ندرك أنّ هناك من نتحدّث إليه ويستمع إلينا.
بل يسعني القول: إنّ من لم يدرك مفهوم الصلاة أو لم يعِ المراد من هذه الكلمة، لكنّه يدرك أنّه واقف أمام الله سبحانه ويتحدّث إليه، فهو حسبه في القربة إلى الله. ""الصلاة" قربان كلّ تقيّ"(2). إنّه لا شك أفضل من حالنا، نحن الذين ندرك معنى الصلاة، وندرك تفسيرها،
وطالعنا حولها كتباً عديدة، لكن عندما نقف للصلاة نغفل عمّا نقوم به، كما يقول الشاعر (صائب) ، بما معناه: أنت تتذكر في الصلاة كل شيء إلّا الله سبحانه، بل لو أضعت شيئاً لعثرت عليه في الصلاة.
فالصلاة أمر حسن. والخشوع، أي الالتفات إلى أننّا نتحدّث إلى مخاطب، بداية حسنة. والصلاة في وقتها كذلك، وصلاة الجماعة كذلك، والنوافل كذلك، وهكذا يمكن للمرء أن يوسع قائمة برنامجه اليومية شيئاً فشيئاً. والأمر يتطلّب قليلاً من الهمّة والعزم وسيكون العام الجديد حافلاً بهذه الخيرات والبركات إن شاء الله.
طبعاً، لا يخفى أنّ لكلٍ منّا التزامات أخرى، أعمال، مناسك خاصة في حياتنا فلنحاول جاهدين الارتقاء بها وإتيانها على أكمل وجه وجعلها إلهية أكثر ممّا مضى، وبطبيعة الحال فالآثار التي ستنعكس ستكون مضاعفةً كماً وكيفاً.
نسأل الله أن يمنّ عليكم بالخير والسؤدد، ويبارك لكم جميعاً العام الجديد بالمعني الذي أسلفنا ذكره.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(*) كلمة للإمام الخامنئي قدس سره ألقاها في طهران في 12/4/2011م الموافق 23/1/1399 هـ.ش.
1.يوم النوروز، اليوم الذي يؤرّخ لهجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بحسب التقويم الهجري الشمسي.
2.نهج البلاغة، الحكمة 134.