نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

أيام الله: ليلة القدر وليالٍ عشر


مقابلة مع فضيلة الشيخ محمود كرنيب

حوار: الشيخ موسى منصور


قال البَحّار: "لا تعطني البحر فقد ضاق بي رغم اتّساع مداه، وأتعبتني لُججه العاتية ورياحه القاسية، أريد شاطئ القَدْر أرسو على ضفّته، ألقي بتعبي على رماله، وأستريح عند أطراف جماله، قالوا إنّها جزيرة العمر، يأوي إليها المسافر وقد أضناه المسير، فيزداد نوراً يقارع به ظلمة الطريق، وينال وقوداً يطوي به طول السفر".

لقد تجلّت رحمة الله في الزمن فكان شهر رمضان، وذروته ليلة القَدْر: دمعة كأنّها الإكسير ترقرقت في عين السماء ليمطر غيثها -حتّى مطلع الفجر- برداً وسلاماً، على قلوب أيتمها الفقدُ وتيّمها الوجْدُ.

عن العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، كان موضوع لقائنا بسماحة الشيخ محمود كرنيب، وقد جرى معه الحوار الآتي:


•ليلة القَدْر خير من ألف شهر، ما هي الخصوصيّة التي جعلت هذه الليلة بهذه المنزلة والفضيلة؟
إنّ مسألة وجود ليلة تسمّى بِليلة القَدْر، هي من التخطيط الإلهيّ للبشريّة جمعاء، وناسب أن تكون في بداية تنزيل الكتاب المقدّس للنبوّة الخاتمة؛ لأنّ هذه الرسالة تشكّل نقطة الانطلاق السريع والنهائيّ نحو المشروع الكامل للإنسانيّة؛ وبالتالي فإنّها تشير إلى موضوع مهمّ، وهو إكرام البشريّة من خلال اختيار أشرف ليلة وأعظمها؛ لتكون محلّاً لتنزيل الكتاب الأكمل، على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأكمل، في الليلة الأجمل والأكمل، وهي ليلة القَدْر. وهنا يشترك كلّ من القرآن وليلة القَدْر في هذه المسألة: إكرام البشريّة في السعي لتحقيق كمالها المنشود.

•ثمّة فكرةٌ شائعة: أنّ كلّ شيءٍ يُقدَّر في هذه الليلة ولا مجال لتغييره، هل هذا صحيح؟
قد يظنّ الإنسان في أمور حياته أنّه مُكرَه على ما يقوم به، ولكن عندما أنبأنا الله تعالى عن ليلة القَدْر أنّها: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، وانتدبنا في الوقت نفسه إلى الدعاء، وتحدّث عن قربه من عباده عندما قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (البقرة: 186)، فإنّ أحد الأمور التي لا بدّ من الإشارة إليها، هي أنّ المولى عزّ وجلّ يريد أن يلفت الإنسان إلى أنّه يمكنه أن يصنع قَدَره، وليست الأمور هنا محتومة ومحسومة، وإلّا لما كان ثمّة معنى لوجود ليلة قدر واستحباب الدعاء فيها، وأن يغتنم الإنسان هذه الفرصة لتحقيق أمله، ودفع السوء عنه، وكأنّ الله أعطانا قدرة على أن نمسك بقلم التقدير الإلهيّ بجهة من الجهات لنساهم في كتابة ما نأمله، وبالتالي يريد الله من خلال فتح باب الدعاء للإنسان، أن يكون رشيداً؛ بمعنى أن يُحسن اختيار ما يصلح أمره وأمر من يدعو له في ليلة القَدْر، بل في كلّ دعاء. هذا دليل على أنّ الله يريد لهذه البشريّة أن تتكامل بالاختيار، من خلال تدخّل عقل الإنسان وتجربته وحكمته في تقدير مستقبله. وبالنتيجة، إنّ الله يتدخّل بألطافه في بعض الأحيان لتوجيه مستقبل الإنسان باستجابة بعض دعائه، أو بتأخير استجابة بعضه الآخر.

•ورد التأكيد على قراءة دعاء الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف في هذه الليلة وتكراره، لماذا هذا التأكيد؟
من جملة الأمور التي ينبغي مراعاتها في هذه الليلة هي مستقبل الإنسان كفرد؛ وذلك بأن أدعو مثلاً لنفسي أو لعائلتي، سواء فيما يتعلّق بدنياي أو بآخرتي. أمّا الأمر الآخر، فأن يكون لي نظرة تتجاوزني كفرد إلى الإنسانيّة ومستقبلها بشكل عامّ، بما له علاقة بوصول البشريّة إلى كمالها كجماعة، والذي يتجلّى بإقامة دولة العدل الإلهيّ على الأرض. هذا الملكوت الأرضيّ، تحدّث عنه الله عندما أراد خلق الخليقة ابتداءً، فقال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)؛ فإنّ محقّق حلم الأنبياء، ومحقّق الهدف الإلهيّ من خلق الإنسان، هو صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف. وهكذا، يريد أهل البيت عليهم السلام أن يقولوا لكلّ مسلم من خلال هذا الدعاء والحثّ عليه: أنت كفرد، سواء كنت صغيراً أو كبيراً، ومهما كان دورك في الحياة، عليك أن تحمل في قلبك وعقلك مستقبل البشريّة، والانتماء إلى محقّق أملٍ البشريّة وكمالها. وهذا الموضوع له علاقة أيضاً بعلاج حالة اليأس عند الإنسان؛ فالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف هو الأمل الموعود؛ إذ علينا أن نقدّمه على أنفسنا في الدعاء، وأن نركّز على النظرة الإيجابيّة إلى مستقبلنا كبشريّة، فهو منوط بهذا القائد، والدعاء له يعزز هذه النظرة، وهذا الشعور.

•لماذا التأكيد على العشرة الأواخر من شهر رمضان المبارك؟
بيّن لنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام عمليّاً كيف نتعاطى مع هذه الأيّام والليالي، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوي فراشه، ويشدّ مئزره، ويتفرّغ لعبادة ربّه فيها. ويُفترض أنّه قد سُبقت هذه الأيّام بالصوم والعبادة عشرين يوماً، فتكون نفس الإنسان قد أصبحت أكثر شفافيّة وقرباً من الله تعالى؛ ولذلك عليه أن يجدّ ويجتهد؛ لأنّه أصبح أكثر استعداداً للعبادة، وأصبحت عبادته أكثر مقبوليّةً من الله عزّ وجلّ. فعلى الإنسان أن يستغلّ هذه العشرة الأواخر؛ أوّلاً لأنّها أيّام ذُكر أنّ فيها فضلاً أكثر من الأيّام الأوائل ولياليها، ولها أدعية خاصّة، وفيها ليالي القدر. مضافاً إلى أنّه يُستحبّ الاعتكاف فيها أكثر من غيرها. وأيضاً يُفترض للإنسان أن يلتفت إلى أمرَين مهمَّين:

الأوّل: إنّنا في هذه الأيّام نتّجه نحو توديع شهر رمضان، وبذلك يكون الإنسان مترددَ الشعور بين شعورَين؛ الشعور الأوّل: هو الشعور بالفرح بانتظار انتهاء الشهر الشريف والنجاح في العبادة والطاعة فيه، والشعور الثاني: هو شعور القلق والحزن على فراق هذه الأيّام المباركة. وهذا ربّما يُستشفّ من أدعية وداع شهر رمضان، خاصةً ما ورد في الصحيفة السجّاديّة. لذلك على الإنسان أن يكون متردّداً بين هذَين الشعورَين، بين شعور الشوق إلى النجاح في إنهاء هذه المهمّة الإلهيّة والتكليف الإلهيّ بنجاح وحيازة الجوائز المعنويّة والمادّيّة الموعود فيها في الدنيا والآخرة إن شاء الله، وبين شعور الحزن على فراق هذا الشهر، والخوف أيضاً على خسارة ما حصّله في هذا الشهر من تغيير في نفسه، وفي نشاطه في العبادة، وفي علاقته ومشاعره الإنسانيّة. وهنا، يُفترض أن يكون ما بعد شهر رمضان نقطة انطلاق جديدة، يكون رأسمالها ما حصّله في هذا الشهر من عبادات وطاعات وأخلاق ومزايا نفسيّة، وأن يعزم الإنسان على عدم التراجع عمّا حصّله في هذا الشهر الشريف. لذلك، إنّ أهمّ ما يعين الإنسان في هذه الأيّام العشرة الأواخر، مضافاً إلى الامتثال للطاعات والمستحبّات وغير ذلك، هو توطيد علاقته بالشهر الشريف، ليظلّ مشتاقاً إلى شهر رمضان القادم، وأن يحافظ على ما حصّل من أرباح في هذا الشهر، فلا يفرّط فيه ولا يعود إلى السوء، فيفقد بين شهر رمضان وشهر رمضان القادم ما حصّله في كلّ عام، ويبدأ في كلّ عام من نقطة الانطلاق من العام الذي قبله، بل عليه أن يكون جادّاً في تثمير كلّ ما حصّله وتنميته.

الثاني: وهو مرتبط بالمشاعر، وله علاقة بالطاعة وبربّ العالمين، وهو أن لا يتّكل الإنسان على عباداته وطاعته، حتّى لو وُفّق للطاعة ولمواساة الإخوان وللصدقة ولصلة الرحم ولقراءة القرآن ولصلاة الليل وللأدعية ولإحياء ليالي القدر، فعليه أن لا توصله البهجة في ذلك إلى أن يتّكل على عمله، بل عليه دائماً أن يظلّ خائفاً وجلاً من نفسه، وشاعراً بالتقصير أمام حضرة المولى عزّ وجلّ. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما نُقل عنه في خطابه له عزّ وجلّ: "ما عبدناك حقّ عبادتك، وما عرفناك حقّ معرفتك"(1)، وهو الرسول الأكمل، فما بالك بنا نحن الضعفاء المساكين، الذين لا نكاد نخرج من سوء إلّا ونقع في آخر، على أنّنا يُفترض في هذه الأيّام العشرة الأواخر أن نركّز على التوبة ثمّ التوبة ثمّ التوبة.

•أعلن الإمام الخمينيّ قدس سره يوم الجمعة الأخير من هذا الشهر يوماً عالميّاً للقدس. لماذا هذا الشهر الفضيل بالتحديد؟
الإمام الخمينيّ قدس سره الذي ربّما حباه الله بنظرٍ ثاقب، وكما يعبّر بعض الإخوان "أنّ في بصيرته شيئاً من استشراف مستقبل هذه الأمّة"، كأنّ بينه وبين الغيب جداراً شفّافاً؛ كان يرى أنّ الحرب الرئيسة في المنطقة ستتمحور حول قضيّة أساس، وهي قضيّة فلسطين. وقد عبّر القرآن بأنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا هم هؤلاء، الذين خطّطوا ليسيطروا على بيت المقدس. وليس من العجيب أن يكون المولى جلّ وعلا قد ذكر في سورة الإسراء قيام "دولة" لهذا الكيان الغاصب. وتكلّم عن مسألة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وفي السورة نفسها تحدّث عن الإفسادَين العظيمَين لهذه الأمّة الظالمة. من هنا، كان الإمام قدس سره يرى أنّ أحد الأمور التي يُراد تكريسها هي إزالة القداسة عن القدس، من خلال تخلّي المسلمين عنها. لذلك، أراد قدس سره أن تُحفر هذه القضيّة في ذاكرة الأمّة حتّى لا تُترك أو تُنسى.

•كيف يمكن إحياء هذه المناسبة، في ظلّ ما نعيشه من جائحة كورونا؟
هذه المناسبة قريبة من ليالي القَدْر، وبعد صيام لا يقلّ عن نحو واحد وعشرين يوماً، فإنّ الصوم قد غفر لنا ذنوبنا وطهّر قلوبنا، فيكون الإقبال على إحياء هذه المناسبة العظيمة بوعي وبصيرة وخلفيّة إيمانيّة صادقة.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام فيما يُروى عنه: "أَلا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ(2) ومِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلا وإِنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ..."(3). ما أريد أن أتوقّف عنده هو كلمة "الاجتهاد"، التي تتضمّن الإبداع؛ يطلب الأمير عليه السلام من الأمّة أن لا تكون جامدة وتقليديّة في الأساليب التي اعتادتها في إحياء المناسبات. المهمّ أن تخرج من البدعة إلى الإبداع. علينا أن نُبدع أساليب تتلاءم مع هذا الزمان ومحذوراته، ونجعل التهديد فرصة لنؤدّي هذه الرسالة، سواء بالرسم أو الشعر أو الأفلام القصيرة... ونستطيع أن نحتفل عبر وسائل التواصل، كأن نجري مسابقة أفضل شعار ليوم القدس في زمن الكورونا مثلاً. بذلك يخرج إحياء يوم القدس عن دائرة المختصّين فقط، لتتّسع وتشمل الجمهور، فنبدع في تقديم الأفكار أوّلاً في كيفيّة الإحياء، وثانياً في أساليبه.

•كيف يجب أن نخرج من هذا الشهر؟ وما هو المطلوب منّا قبل أن نودّعه؟
عندما أتاح لنا المولى عزّ وجلّ فرصة أن نخطّ بأقلامنا وألسنتا ما نرغب فيه لمستقبلنا، فإنّه أراد أن يُنشئ فينا نوعاً من التربية والتدريب على التخطيط لمستقبلنا. وهذا يُرجعنا إلى (لعلّهم يرشدون)؛ فأنت إذا أردت أن تدعو في ليلة القَدْر، لا بدّ أن تكون قد خطّطت لمستقبلك في هذا العام؛ حتّى تعلم ما الذي تطلبه، ولكي تخطّط، لا بدّ من تحديد الأولويّات. ليس المطلوب من الإنسان أن يدعو فقط، بل أن يستشرف المستقبل والدور المنوط به. والأمر الأهمّ أن يعزم على عدم العودة بعد هذا الشهر إلى التقصير -إن لم أقل الذنب- الذي كان مبتلىً به في السابق، وأن يحافظ على البركات التي حصّلها في هذا الشهر المبارك.

•هل من كلمة أخيرة أو توصية توجّهونها، خصوصاً للشباب والشابات؟
بعد أن بلغ بنا العمر عِتِيّاً، ولم يبقَ في الرأس من سواد، لا بدّ من القول للشباب، إنّ أئمّتنا عليهم السلام أوصونا أن نغتنم خمساً قبل خمس، منها الشباب قبل الهرم. والإمام الخمينيّ قدس سره أيضاً يوصي الشباب أنْ يسعَوا في فترة القوّة والشباب في اكتساب المعارف وتهذيب النفس؛ لأنّهم في عمر طريّ، وقد عبّرت بعض الأشعار عن مضمون بعض الروايات:

"إن الغُصُونَ إِذا قَوَّمْتَها اعتدلْت

ولا يلينُ إِذا قَوَّمْتَهُ الخَشَبُ"(4).

هذه الحكمة تنفع لنقول: عليكم أنْ تغتنموا سنيّ طراوة عودكم، ونقاوة قلوبكم، وتوهّج القَدْرة عندكم، لتستفيدوا منها في بناء مستقبلكم ومستقبل أمّتكم.

1.الزهد، الكوفيّ، ص120.
2.الطِمْرُ: الثوب الخَلِق البالي.
3.نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 417.
4.هذا البيت للشاعر صالح عبد القدوس، حيث يقول:
قد يبلغُ الأدبَ الأطفالُ في صغرٍ
وليس ينفعهُم من بعدِه أدبُ

إن الغُصُونَ إِذا قَوَّمْتَها اعتدلْت
ولا يلينُ إِذا قَوَّمْتَهُ الخَشَبُ

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع