أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

خيانة الأصدقاء: الرأي التربوي‏

الشيخ مصطفى قصير(*)

 



مضامين القضايا التي ذُكرت هنا متنوعة وإن كان بينها بعض المشتركات، فمنها ما يتمحور حول الاحتيال والخديعة، ومنها ما يتضمن التنكر للصداقة والصحبة، ومنها ما يتضمن خيانة للأمانة، ومنها ما يدور حول الإستغلال والنصب. ومهما يكن، فالأمر الجامع بين الحكايات والوقائع التي تضمنها تحقيق الملف هو التنكر للأخوة والصداقة. إلا أنه ينبغي التوقف عند النقاط التالية:

* من هو الصديق؟
هل كل من نلتقيه ونتعرف عليه ونرافقه أو يرافقنا لفترة معينة يصبح صديقاً؟؟ هل تتحقق الصداقة بمجرد الرفقة والإصطحاب، أم أن لها مفهوماً لا ينطبق إلا على عدد محدود من الرفقاء والأصحاب؟ لقد لاحظت أن البعض خلط بين عنوان الصاحب وعنوان الصديق، مع وجود اختلاف بينهما وإن اجتمعا في بعض الأحيان في شخص واحد، حيث إن الصاحب من تجمعنا به الأيام والمناسبات في سفر أو عمل مشترك أو مقاعد الدراسة أو ما شابه ذلك، أما الصديق فله مواصفات خاصة، ولا يُطمأنّ لصداقته إلا بعد الاختبار والتمحيص. في الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "لا تسمِّ رجلاً صديقاً سمةً معروفةً، حتى تختبره بثلاث: فتنظر غضبه يخرجه من الحق إلى الباطل؟ وعند الدينار والدرهم، وحتى تسافر معه "(1). فلا مانع من مصاحبة كل الناس ومجاملتهم وبناء علاقات وثيقة معهم، إلا أننا عندما نريد أن نتخذ صديقاً فنأمنه على سرنا وخصوصياتنا وأموالنا، فلا بد أن نختبر أمانته ووفاءه وإخلاصه وصدقه.

* أهمية الوثائق والشهادات حتى مع أقرب الناس‏
لا ينبغي الاتكال على الوثاقة وحسن الظن لوحدهما على الرغم من أهمية ذلك، فمن أراد أن يحفظ الأخوّة والصداقة، فعليه أن يعمد في المعاملات المالية والاتفاقات إلى التدوين والتوثيق والإشهاد بحسب الأصول وكأن المعاملة بين غريبين. حقوق الأخوة والصداقة محصورة في التسامح بالمضمون دون الشكل، فليس من المعلوم ولا من الضروري أن يكون سوء النية موجوداً منذ البداية وبشكل مسبق عند من يقدم على الخيانة والتنكر للصداقة، بل في غالب الأحيان يدخل الشيطان لاحقاً ويغري صاحب النفس الضعيفة عندما يجد ثغرة يمكن من خلالها النفوذ، فالشيطان يكمن في التفاصيل كما قيل ، فينبغي سد الثغرات والمنافذ التي يمكن أن يأتي من خلالها الشيطان، حفاظاً على مالنا وحقوقنا من جهة، وحفاظاً على علاقاتنا الطيبة وصداقاتنا من جهة أخرى. لقد أمر الله تعالى بالكتابة والإشهاد حتى في صغير الدَين، فضلاً عن كبيره: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا... (البقرة: 282).

* التربية الاجتماعية
هذه الوقائع التي تمثل عيّنة محدودة جداً مما يعانيه المجتمع من مشكلات تسلط الضوء على خلل في الجانب التربوي والأخلاقي. فعندما تتفشى ظاهرة الخيانة وتتلاشى مظاهر الوفاء، فلا بد أن يعود ذلك إلى جذور تربوية تمتد إلى أيام الطفولة الأولى. كيف نربي أبناءنا على الوفاء والأمانة والصدق؟ كيف نربيهم على القيم الاجتماعية؟ كيف نجعلهم يتحسسون المسؤولية عن حفظ حقوق الآخرين كما يحفظون حقوقهم بل أشد؟ وكيف نجعلهم يحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم..؟ المشكلة في غياب البرامج التربوية التي تعنى بزرع القيم، أو عدم فعاليتها، خاصة في زماننا الحاضر الذي تسيطر على عالمه النزعة المادية والاهتمام بالثروة، حتى بات القارونيّون كثراً، واللاهثون وراء الغنى بأي وسيلة وبأي أسلوب أكثر، وهؤلاء ينظرون إلى القيم والعلاقات والصداقات والمعاملات بميزان النفع المادي فحسب، فأنت صديق عزيز عليه إذا كان ينتفع من صداقتك، ولا محل لك في اهتماماته إذا أصبحت صداقتك عبئاً عليه، أو ليست بذي نفع؛ فلا عجب عندئذ من تنامي ظاهرة التنكر للصداقة وانتشار الغدر والخيانة، ليس مع الأصدقاء فحسب، بل حتى بين أقرب المقربين، بين الأخ وأخيه. ولكي لا نصف المشكلة ونمضي، لا بد من إطلالة سريعة على وسائل التربية على القيم. فالوعظ والإرشاد قد ينجح في إكساب المعرفة، ولا أظن ان أحداً ممن يمارس الغدر والخيانة تنقصه المعرفة، فهو لا يمارس ذلك جهلاً بالمفهوم أو جهلاً بالقبح الذي يتصف به ذلك العمل. فنحن بحاجة إلى برامج للتربية على القيم الاجتماعية، هذه البرامج تكسب الإبن مواقف إيجابية بحسب مصطلح علماء التربية، وتكسبه ملكة أخلاقية بحسب اصطلاح علماء الأخلاق، بحيث يصبح حريصاً على الصديق عندما يكون الصديق بحاجة إليه، وحريصاً على الوفاء عندما يكون الوفاء مكلفاً، وحريصاً على الأمانة عندما يكون في أمس الحاجة لما في يده، يصبح ذلك جزءاً من شخصيته ومن قناعاته الراسخة وسجاياه الأصلية. هذه النقطة تدفعنا للعودة إلى واقعنا الأسري، لأن الأسرة هي البيئة التي تتشكل فيها النواة الأولى لشخصية الطفل وأخلاقياته ومواقفه، وتأتي العوامل المؤثرة الأخرى لتسقي تلك البذرة وتنميها وتثمّرها، أو بالعكس. عندما يتربى الطفل في الأسرة بين أبوين يمتلكان أصالة القيم والأخلاق الاجتماعية. يكتسب منهما دون حاجة إلى درس وتوجيه وإرشاد كل بذور الأصالة أو القيم التربوية. يكتسب منهما الصدق والوفاء والأمانة والحرص على حقوق الآخرين، والتضحية والعطاء والاهتمام بالمال العام.. إلخ. لا أريد أن ألغي دور العوامل التربوية الأخرى التي تترك آثارها أيضاً على تشكُّل شخصية الطفل، لكنني أريد أن أسلط الضوء فقط على أهمية سلوك الأبوين وممارساتهما وأخلاقهما، ودور ذلك التأسيسي. يكفي أن يرى الطفل أحد أبويه (اللذين يمثلان القدوة بالنسبة إليه) يخلف وعداً ليسقط هذه القيمة الفطرية، أو يتنكر لحقٍ، أو يتسامح في مال الغير، وأمثال ذلك. يكفي أن يكذب أحد الأبوين مرة على الطفل نفسه أو على مسمع منه، ليكتسب منهما هذه الآفة فيبدأ بممارستها معهما أو مع رفاقه. هذا يعني أن التربية بالقدوة من أكثر الوسائل تأثيراً. فعلى كل مربٍّ، سواء كان أماً أو أباً أو معلماً، أن يكون قدوةً وأسوة في سلوكه وتصرفاته وفي أخلاقه ومواقفه، قبل أن يكون واعظاً ومرشداً وموجهاً. المناهج التربوية المدرسية، عليها أن تعنى بتطوير وسائلها لكي تتمكن من زرع القيم وترسيخها ومعالجة البلاءات التي كرستها ثقافة المادة والاستغلال والأنانية.

* دور المقاومة والعمل الجهادي في تأصيل القيم الاجتماعية.
للوهلة الأولى، قد يثير هذا العنوان استغراب البعض، إلا ان الواقع أثبت أن العمل الجهادي المقاوم والنابع من الشعور بالتكليف والمسؤولية الشرعية، يربي المجتمع كل المجتمع على التضحية وبذل الغالي والنفيس، ابتداء من عطاء الدم وانتهاء بعطاء المال والموقف، وهذه من مظاهر الوفاء المكلِف. ومن يتدرّب على هذا المستوى من التضحية للأمة وللوطن وفي سبيل الله، تَزُلْ من نفسه آثار الأنانية، ومن يعِش الآخرة باستمرار والاستعداد للقاء الله في أي لحظة تصغر الدنيا في عينه، فلا يبقى لها قيمة ليغتر بها أو ينبهر بزخرفها، ومن يتعلق قلبه بالله عز وجل ويمتلئ بحبه لن يجد الشيطان منفذاً إليه، فهو في حصن حصين من سهامه. فالمقاومة عطاء، والعطاء ثقافة وأخلاق وقيم تاسيسية لكل ما عداها. هذا هو الذي جعل المقاومين نماذج متميّزة عن غيرهم من أبناء مجتمعهم، في عبادتهم وفي أخلاقهم وفي محبتهم للناس وحرصهم على الوطن، وفي تواضعهم وفي صدقهم ووفائهم.


(*) المدير العام للمؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم مدارس المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
(1) بحار الأنوار71 181.
(2) بحار الأنوار 71 163.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع