اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

صباح الخير يا جاري - تحقيق: يمنى المقداد

هل اندثرت مقولة "الجار قبل الدار" في مكانٍ ما، لتحلّ مكانها مقولة "صباح الخير يا جاري أنت بحالك وأنا بحالي"؟
فقد اعتدنا على مشاهدة فصول يومية من شجارات الجيران تتعلق بالمياه والكهرباء ومواقف السيارات وغيرها، باتت تتجاوز السباب والشتائم، لتصل إلى حدّ إراقة الدماء أحياناً، ما يدعو للتساؤل عن سرّ تدهور علاقات الجيرة إلى هذا الحدّ، وكيف نتعاطى مع جيرة السوء.

*بعض المواقف السيئة بين الجيران
يشكل عدم التزاور بين الجيران، بحجة الانشغال في هموم الحياة، أحد أبرز العوامل التي تضعف التواصل بينهم في أيامنا هذه، ما يزيد القلوب جفاءً وفرقةً بينهم، وفي الآتي صور عن بعض الجيران:

- يقلقون راحتها

هدى (طالبة، 19 عاماً) الآن في طور التحضير للامتحانات إلا أنّها لا تنعم بالهدوء بسبب جيرانها، فهم يجتمعون كلّ ليلةٍ على سطح المنزل المقابل لمنزلهم ويضجّون بأصواتهم المرتفعة مع تصاعد دُخان فَحْمِهم ونراجيلهم حتى ساعات متأخّرةٍ من الليل. تقول: "تطلب أمي دوماً بلطف من جيراننا الكف عن إزعاجنا، يهدأون لفترة وجيزة ثم يعودون لذلك خلال أيام قليلة".

في حين تقاطع عليا (صاحبة محل تجاري، 45 عاماً) جيرانها منذ سنوات بسبب سلوكياتهم المزعجة، حيث يستمرون في الصراخ ويرفعون صوت التلفزيون عالياً حتى ساعات متأخرة من الليل، عن ذلك تقول: "عندما أطلب منهم تخفيف ضجيجهم يصرخون في وجهي بغضب، ويطلبون مني أن أقفل النوافذ، كي لا أسمعهم".

- هدّدني جيراني بالسلاح

أما فاطمة (28 سنة، ربّة منزل)، فتعرضت لتهديد بالسلاح من قبل جيرانها بسبب موقف سيارة. تقول: "هددونا بالسلاح وتطور الأمر بيننا إلى الدعاوى القضائية والمحاكم، لم يتدخل أحد لمساعدتنا".

*(إذا خِلْيِت... خِرْبِتْ)

- الجيرة بخير

لم يشكُ الحاج عصام (صاحب محل تجاري، 50 سنة) أي سلوكيات مزعجة من جيرانه الذين يجاورهم منذ 15 عاماً، وذلك يعود إلى الاحترام المتبادل بينهم، وفي حال حصلت بعض الإزعاجات من هنا وهناك، يقول الحاج عصام: "أحلُّها بالتواصل مع جاري بهدوء ورويّة كي نبقى إخوة". ويرى أن الحل الوحيد للمشاكل هو تغليب الوعي والمنطق والاحترام.

- بروح رياضية

تتعرض ميرفت (37 سنة، ربّة منزل) أحياناً لمواقف معينة مع جيرانها، تتعلق بالأولاد أو نشر الغسيل أو المياه، لكنها تتجاهل ذلك، ولا تتدخل بتصرفاتهم ولا توصل الأمور إلى حدّ المشاكل، وتتلقاها بروح رياضية دائماً.

- علاقات جيدة ولكن!

من ناحيته لفت الحاج أبو علي (40 سنة، موظف) إلى أن الثقة المفقودة بين الناس والنفوس المتغيرة شكلت تباعداً بين الجيران، يضيف: "كان الجيران قديماً يتصرفون كعائلة واحدة، أما الآن فإن علاقاتهم مبنية على الغاية والمصلحة فقط". ورغم ما ذكره أبو علي عن تباعد الجيران، إلا أن علاقته بجيرانه جيدة كما وصفها، لأنها ناتجة عن احترامه لنفسه وعدم تدخله بشؤونهم، مضيفاً: "أتعاطى مع الجار الجيد بمحبة، أما المزعج فأكتفي بإلقاء التحية عليه من بعيد".

*ماذا يقول الإسلام عن الجيرة وأهميتها؟ ولِمَ؟

أولت الشريعة الإسلامية اهتماماً بالغاً بالجار وحق الجوار، وهذا ما نقرؤه في القرآن الكريم: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ (النساء: 36)، إضافة إلى توصيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.

يشير فضيلة الشيخ حسين عبد الله إلى أن مراعاة آداب الجيرة تؤدي إلى التلاقي بين أبناء المجتمع وإزالة حواجز الأنانية وضبط ردة الفعل وغسل قلوب الناس وتوسيع قدر المحبة والرحمة بينهم.

في السياق عينه، يرى د. غسان طه (متخصص في علم الاجتماع) أن الإسلام أعطى أهمية لعلاقات الجوار، لأنها تمثل الحاضنة الأخلاقية والدينية والقيمية التي تربي الإنسان على التعامل الجيد مع المجتمع وتكرس وحدته، فالإنسان يتربى في أحضان الأسرة لينتقل منها إلى الجوار ومنه إلى المجتمع.

* تغريب المجتمع الشرقي
يرى الإنسان جاره أكثر مما يرى أرحامه، وفي هذا الصدد يرى فضيلة الشيخ عبد الله أن رعاية حقوق الجيران تبدأ بالتواصل الحَسَن والإيجابي معهم، وملاقاتهم بالسلام وردّ التحية وبِشْر الوجه لا العبوس والإعراض عنهم. وقد ورد في حديث رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم عن الجار: "إن استغاثك أغثته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابته مصيبة عزّيته، وإن أصابه خيرٌ هنّأته، وإن مرض عدته، وإن مات اتّبعت جنازته، ولا تطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح، إلا بإذنه..."1، لافتاً إلى أن هذا يدلّ على عظمة ديننا الإسلامي في تنظيم العلاقات الاجتماعية.
وإن المشكلة هي في ما يعكسه تناحر الجيران من آثار سلبية على الصحة النفسية للمجتمع. حيث لفت الشيخ حسين عبد الله إلى أن مجتمعنا الشرقي يقترب من التغريب شيئاً فشيئاً، من ناحية تفكّك العلاقات الاجتماعية وعدم التواصل، حتى بين الأهل والإخوة وليس الجيران فقط.
ومن الجيد أن نسأل أنفسنا: أين مجتمعنا الآن مما أوصانا به الله تعالى من علاقات حسن التجاور؟

*سرّ تدهور علاقات الجيران

يرى الدكتور غسان طه أن دخول المجتمعات التقليدية عالم العصرنة، أدى إلى تغيّر ملحوظ في علاقات الجوار، ففي المجتمع التقليدي كانت العلاقات متماسكة ومترابطة ومتينة وتضامنية، وتظهر جلياً في المناسبات والأعياد والأفراح والأتراح، يتشاركون صناعة الخبز والحلوى وغيرهما، في حين تلاشت هذه الصور الآن، إضافة إلى:

1 - عالم الوظيفة

إن دخولنا إلى عالم الوظيفة التي تحدد الأوقات عاملٌ مساهمٌ، ففي السابق كان معظم الناس مزارعين وأصحاب مهن وكانوا يتحكمون بأوقاتهم ويتزاورون مع جيرانهم، أما الآن فلم يعد الأمر كذلك. ويشير د. غسان طه إلى "عدم وجود علاقات جوار حقيقية في المدن، فهي مصلحية والإنسان فيها أقرب لزميله في العمل من جاره في المبنى السكني نفسه".

2- ضعف الوازع الديني

يعتبر التدهور الأخلاقي سبباً يؤدي إلى نشوب الخلافات بين الجيران، ويعيد الشيخ حسين عبد الله السبب أيضاً إلى إهمال النصائح والآداب والتعاليم الإسلامية، وضعف الوازع الديني، وحبّ المال والنفس، مضيفاً: "لو اقتصر الأمر على عدم مراعاة حقوق الجيرة لكانت المصيبة أهون، إنما المصيبة أعظم لأن فيها أذيّة الجار".

3 - وسائل الاتصال

هل تغنينا وسائل الاتصال عن الجيران؟ يرى د. غسان طه أن هذه الوسائل تلعب دوراً سلبياً، ففي السابق كانت السهرة مشتركة في البيوت، وكان الجار الأنيس الوحيد، أما اليوم فإن وسائل الاتصال والتلفاز أضحت جاراً حميماً بديلاً، وفرضت عزلة كبيرة بين الجيران.

*الجيران المشاكسون: ما الحل؟

إن توجيه المياه المبتذلة أو دخان الفحم والنراجيل نحو بيوت الجيران، وإطلاق المفرقعات والأعيرة النارية في الأفراح والأتراح، والصراخ والموسيقى الصاخبة وأصوات مولدات الكهرباء... تصرفات خارج الشرع، فقد وضّح الشيخ حسين عبد الله حكمها بقوله: "لا يجوز قراءة الموالد الشرعية أو الأناشيد الإسلامية أو مجالس العزاء بصوت مرتفع مزعج للآخرين مهما كانت المناسبة"، وقد ورد عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الصدد: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره"2.

وللحدّ من أذى الجار المشاكس يجب:

1- الصبر على أذى الجار

درجت العادة في أعرافنا الاجتماعية على اعتماد مبدأ "العين بالعين والسن بالسن"، وهو أمرٌ مناف للإسلام. يقول الشيخ حسين عبد الله: "إذا وصلتنا أذية ما من جيراننا، فالإسلام يأمرنا أن لا نبادله بالمثل، وأن نصبر على سوء خلقه ونتواصل معه ولا نقاطعه". فقد ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام في هذا الصدد: "ليس حسن الجوار كفّ الأذى فحسب، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى"3.

2- امتصاص العدائية بالهدوء

وتنتج العدائية عن سوء معاملة الجار ونكتسبها من خلال ما نراه من تصرفاته، لذلك ينصح د. غسان طه الجيران بضرورة تكوين نموذج هادئ وإقامة علاقات حسنة مع جيرانهم كأرضية للعلاقة، وتغليب المنطق والرويّة على الانفعال عند الاحتكاك المزعج، انطلاقاً من معتقداتهم وقناعاتهم الدينية والقيمية.

وقد حذّر د. غسان طه من القطيعة بين الجيران، لأنها تكرّس الروح العدائية والتشفّي والانتقام والسلبية المطلقة، ولا سيما لدى الأبناء.

3- تفعيل حسن الجيرة والتواصل

يوضح الشيخ حسين عبد الله شروطها: "لا ينجح الإنسان في تحسين علاقاته مع جيرانه إلا إذا كان ملتزماً دينياً، يترفّع عن الصغائر ويهدي جاره ويصلح خطأه ولا يحاسبه عليه، وأن يكون طموحه نيل رضا الله عزَّ وجلّ".

من جهته يختم الدكتور غسان طه كلامه بتشديده على دور علماء الدين والمؤسسات الإعلامية، في العمل على التوجيه الديني والقيمي والأخلاقي، وإنشاء حاضنة تربوية للأطفال والشباب والأهل وتدريبهم على إقامة علاقات حسنة مع الجوار.


1- مسكّن الفؤاد، الشهيد الثاني، ص105.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص666.
3- م.ن، ص667.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع