نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

وصايا العلماء: مناجاة الزاهدين (2): إليك نلتجئ من خُدع الدنيا


آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)


"إلَهِي أسْكَنْتَنَا دَاراً حَفَرَتْ لَنَا حُفَرَ مَكْرِهَا، وَعَلَّقَتْنَا بِأيْدِي الْمَنَايَا فِي حَبَائِلِ غَدْرِهَا، فَإلَيْكَ نَلْتَجِئُ مِنْ مَكَائِدِ خُدَعِهَا...".
يقدّم الإمام السجّاد عليه السلام في هذا المقطع من مناجاة الزاهدين حالة الخوف من الدنيا حيث ابتلينا بالمكر والخداع المصطنعَين. وبما أنّ النعم الدنيويّة أمثال المأكل والمشرب... إلخ، تمنعنا من الوصول إلى الرأسمال الأخرويّ الباقي، عند ذلك تحصل الخسارة والخداع.

لكن، وعلى الرغم ممّا في الدنيا من خداع، فإنّ الإنسان يمكنه بأعماله الاختياريّة وبإرادته الكاملة الحصول على سعادته الأخرويّة في هذه الدنيا، إذا لم تكن نظرته إلى الدنيا أصيلة ولأجل ذاتها، بل كانت مقدّمةً للكمال ولعبوديّة الله تعالى.

* لماذا نُسِب المكر والخداع إلى الدنيا؟
في بداية مناجاة الزاهدين؛ تحدّث الإمام عليه السلام شاكياً ومخوّفاً من الدنيا وأنها تبتلينا بمكرها وخداعها المصطنعَين وداعياً إلى الاعتصام بالله من مكر الدنيا وخداعها. عرضنا في العدد السابق عدداً من الأسئلة، من جملتها: لماذا نسب المكر والخداع إلى الدنيا والذي لأجله كانت مذمومة؟ وقلنا إنّ الله تعالى مسبّب الأسباب، وإنّ كافّة الأمور تجري بإذنه وإرادته. ولأنّ التعاليم القرآنيّة تُظهر وتبيّن الدور المحوريّ لله تعالى، فقد نسبت الأمور والظواهر إلى الله تعالى الذي هو العلّة الإيجاديّة. طبعاً، في بعض الحالات تجري نسبة الظواهر إلى عوالم أخرى؛ فقد نسب الإمام عليه السلام في مناجاته انحرافات الإنسان إلى الدنيا؛ لأنّ هناك عوامل ثلاثة تلعب دوراً في انحرافه، وهي: هوى النفس، والشيطان والدنيا. فلو لم تكن اللذائذ الدنيويّة موجودة، لما عصى الإنسان. ولأنّ الدنيا ولذائذها سبب في الانحراف والمعصية، فيمكن اعتبارها سبباً لانحراف الإنسان وعصيانه، وبالتالي يمكن الحديث عنها باعتبارها خدّاعة مكّارة.

* الزينة مظهر خداع الدنيا
السؤال الآخر: ما هو مصداق وحقيقة مكر الدنيا وخداعها؟ وبما أنّ الأرضية لعبادة الله موجودة في هذه الدنيا، فيمكننا الاستفادة من أطعمة الدنيا، لنمتلك القدرة الكافية للعبادة والإتيان بتكاليفنا، فلماذا الحديث عن الدنيا الموجودة على أنها مكّارة خدّاعة؟

للإجابة عن السؤال، يجب أن نلقي نظرة على خصائص العامل الذي يخدعنا والموقع الذي يُخدع فيه الإنسان. ممّا لا شكّ فيه أنّ ما يُخدع به الإنسان، لا يمكن أن يكون خالياً من الجواذب، ولا يكون منفّراً، بل يجب أن يكون مقبولاً جذّاباً. مثال ذلك: عندما يريدون خداع الطفل ليأخذوا منه شيئاً ذا قيمة، يقدّمون له حلوى قليلة القيمة، لا بل هي أقلّ قيمة بكثير من ذاك الشيء، إلّا أنّ الحلوى جذّابة للطفل. ولأنّ الطفل يجهل قيمة الشيء الموجود بين يديه، ولأنّه يرجح الحلوى، فهو جاهز لأن يترك الشيء القيّم مقابل الحلوى. عندما يريدون خداع شخص لينزعوا منه شيئاً قيّماً، أو ليمنعوه عن مقصده، يُحضرون له بضاعة فاقدة للقيمة ويزيّنون ظاهرها لتصبح خدّاعة.

* أبدية النِّعم الأخروية
افرضوا أنّنا نعتقد أنّ بإمكاننا من خلال عملنا وكلامنا أن نؤمّن رأسمالاً أبديّاً لأنفسنا يكون أعلى قيمةً من كلّ الدنيا. الآن، لو حقق شخص بواسطة عمله وكلامه ما يوصله إلى اللذّة الدنيويّة الزائلة، بدلاً من الرأسمال الأخرويّ الأبديّ، ألا يكون قد خُدع؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ ما حصل عليه ليس خالياً من اللذّة ومن الجاذبية، وهو كالحلوى التي يخدعون بها الطفل، والتي تمتلك مستوىً من اللذّة والنفع. لو لم يكن لهذا المحصول أيّ لذّة ومنفعة، فلن يُخْدع الإنسان به، ومع ذلك، فاللذّة المذكورة هي قليلة متدنّية مقابل الرأسمال الأبديّ واللذّة اللامحدودة التي يمكننا الحصول عليها بعملنا وكلامنا. من هذه الجهة نكون قد خُدعنا، حيث حصلنا على بضاعة بخسة قليلة الثمن، بدلاً من النِعَم والرأسمال الأبديّ ذات القيمة اللامحدودة.

* ترجيح النِّعم الزائلة على الباقية
إنّ كل ما في الدنيا من المأكل والمشرب والولد والزوجة إلى المنزل والسيارة جميعها حَسَن، وهي نعم إلهيّة، ولكن إذا كان صرف الوقت والطاقة للوصول إلى هذه الأمور سيمنع الإنسان من العمل للوصول إلى الرأسمال الأخرويّ الأبديّ، فقد خسر الإنسان، ووقع في خداع مظاهر الدنيا. كلّ هذه النعم الأبديّة واللامحدودة مَنَّ الله تعالى بها علينا مقابل عمل صالح واحد. وإذا خرجت منّا كلمة واحدة فيها الهداية للآخرين، أثابنا الله مقابلها ما هو أعلى من الدنيا وما فيها؛ وذلك كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: "لأن يهدي الله على يديك عبداً من عباد الله خير لك ممّا طلعت عليه الشمس من مشارقها إلى مغاربها"(1).

إذاً، لو كان بإمكان الإنسان العمل لتحصيل النعم الأخرويّة اللامحدودة، واستبدل ذلك بمقدار من فاكهة الدنيا، فقد خُدع وخسر. فإذا قيل إنّ الدنيا خدّاعة فليس لأنّ الدنيا هي سمّ وفاقدة لأيّ خير ونعمة، بل لأنّ الدنيا قد تخدع الإنسان بمظاهرها وجمالها، فتجعله يصرف وقته لأجلها فيَغفل عن الآخرة. المهمّ أن يعرف الإنسان كيف يستخدم نِعم الدنيا وفي أيّ طريق.

* التجارة الرابحة
إذا كان الإنسان يقول بأصالة الدنيا ويطلب الدنيا لذاتها ولذائذها، فهذا الاستخدام للدنيا سيّئ وغير مطلوب. وهنا يُخدع الإنسان بالدنيا؛ لأنّ الدنيا هنا قد أخذت مكان الآخرة. وفي المقابل، إذا كان الإنسان لا يقول بأصالة الدنيا، وكان يستفيد منها لأجل العمل الصالح وكسب رضى الله تعالى، وإذا جعل الدنيا أداةً للوصول إلى سعادة الآخرة الأبدية، فقد وصل إلى كماله المطلوب، وكانت تجارته رابحة. تكون الدنيا قبيحة، خدّاعة ومهلكة للإنسان إذا كانت تؤدّي إلى حرمانه من رأسمال الآخرة الأبديّ، بل تضع أمامه إمكانيات تؤدّي إلى العذاب الأخرويّ الأبديّ.

يتعلّق الإنسان الغافل باللذائذ السريعة الزوال ولا يحاول الاستفادة من الدنيا للوصول إلى النعم الأبدية. إنّ بعض الناس يتعب لسنوات طويلة في سبيل بناء منزل، إلا أنّ الأجل يعاجله قبل أن يسكنه. وأمّا لو صرف هؤلاء الأشخاص جزءاً من أعمارهم لأجل الآخرة، لحصلوا على اللذائذ والنعم اللامتناهية.


1. بحار الأنوار، المجلسي، ج1، ص216.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع