صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

سيروا فانظروا

سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)

﴿
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ (يوسف: 111). توقفنا في العدد السابق عند الحديث عن الناس الذين هم مؤمنون بالحق، لكنهم نتيجة المحنة والبلاء والتحدّي يتفرّقون ويفرزون إلى أصناف، ويأتي السؤال: لماذا ثبت من ثبت؟ ولماذا تخلّف من تخلّف؟ ما هي الأسباب التي تدعو هذا الإنسان للتخلي عن طريق الحق؟

هذا ما سنجيب عنه ونعالجه في هذه المقالة.
إنّ الأسباب التي تدعو الإنسان إلى التخلي عن طريق الحق تتلخص بالآتي:

أولاً: خوف القتل والموت.
يبقى الإنسان مع الحق، يواجه معه ويثبت مع النبي طالما أن الأمر مقتصرٌ على رفض الحق والتشكيك به والتضييق على أتباعه. أما إذا وصل الأمر إلى حد أن الإنسان نَفْسَه أو أحد أفراد عائلته صار معرّضاً للقتل في هذا الطريق فإنه يضعف ويتردّد ويُعرض عن نصرة الحق.
وهذا ما حصل مع أهل الكوفة الذين بايعوا الإمام الحسين عليه السلام على النصرة والطاعة إلا أنّهم حينما هدّدهم عبيد الله بن زياد، وحذّرهم من نصرة سيد الشهداء عليه السلام، وأشاع أجواء الحرب النفسية في الكوفة انهارت صفوفهم وتبدّدت جموعهم فلم يبايعوا مسلماً بن عقيل، وتركوه وحيداً.

* حتى لا نخشى الموت
في علاج هذه المشكلة لا بدّ من الالتفات إلى أمرين:
الأول: إن الموت مصير حتمي للإنسان، حتى أن الله سبحانه خاطب أحبّ الخلق إليه، بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (الزمر: 30) فعلامَ الخوف؟!
الثاني: أنّ أجَل الإنسان بيد الله سبحانه وتعالى ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا (الزمر: 42) فلا الانسحاب ولا الاختباء من ميادين الجهاد يبعّد أجل الإنسان ويدرأ عنه الموت ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (الأعراف: 34). وكذلك القعود فإنه لا يحمي الإنسان ولا يدفع عنه أجله ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا (آل عمران: 168). هؤلاء الناس الذين يشمتون بأهالي الشهداء ويعاتبونهم على إرسالهم أبناءهم إلى الجهاد، هؤلاء الناس يجيبهم الله ﴿قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فهل تستطيعون ذلك؟ فالأجل حينما يأتي ليس له دافع ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ (آل عمران: 154)، بل يمكن القول أكثر من ذلك: إنّ الّذين يتزلزلون وينسحبون وقد ينصرون الباطل على الحق ليدفعوا عن أنفسهم الأجل يموتون في وقتٍ قريب كما حصل مع كثيرٍ ممّن خرجوا لقتل الإمام الحسين عليه السلام فإنهم قُتلوا بعد سنواتٍ قليلة. فهل يستحق أن يخسر الإنسان دينه ودنياه وآخرته من أجل أن يعيش بضع سنين؟!

ثانياً: الخوف على المال أو الدار
إنّ الجهاد لا يقطع رزقاً، بل إنّ التخاذل وعدم نصرة الحق والاصطفاف في جبهة الباطل هو الذي يقطع الأرزاق ويهدّم البيوت ويسلب البركات. وكمثال على ذلك، عندما تخلّت الأمّة عن نصرة فلسطين والقدس قام الكيان الصهيوني الغاصب بهتك المقدّسات والأعراض واستولى على الخيرات والبركات. كل ذلك كان نتيجة التخلّي عن الجهاد ونصرة الحق. وأما في لبنان فقد واجه الناس هذا العدو وجاهدوه، فكان الانتصار الّذي حفظ الأعراض والأموال والخيرات ورفع رؤوسنا عاليةً شامخة.

ثالثاً: التعلّق بالدنيا
إنّ ركون النّاس إلى الدّنيا والتعلق بها يبعّد عن الجهاد وإعزاز الحق.
وهذا الأمر يعالج بالنظر إلى هذه الدنيا وأنها فانية، وزائلة، ولا تستحق أن يضحي الإنسان بدينه وإيمانه وكرامته من أجلها، وأنها خدّاعة متقلّبة لا يستقر فيها الإنسان على حاله، فكم من غني انقلب فقيراً وكم من سليم أصبح مريضاً وكم من عزيزٍ أصبح ذليلاً... فعن الإمام الحسين عليه السلام أنه قال: "الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيّب طمع من طمع فيها"1.
وعندما نتحدّث عن عدم التعلُّق بالدنيا نعني بذلك تقديم الحقّ في المسائل كلها، ولو كلَّفنا ذلك التخلي عن أقرب الأشياء وأحبّها إلينا، والاستعداد للتضحية بكل ما في هذه الدنيا في سبيل الله ومن أجل نصرة الحق.

رابعاً: معرفة طريق الحق
لا شكّ أن العلم والمعرفة يجعلان الإنسان ثابتاً في طريق الحق، ملازماً له. فالإنسان الذي يعلم أن الله قد أعدّ له، إذا صبر وثبت مع الحق، ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ووعده بالمقامات الكريمة، فإنه لا يتخلّى عن ذلك من أجل أيام قليلة زائلة وفانية. وكذا العلم بأن الانسحاب والتخلُّف والتخاذل لن يفيد الإنسان شيئاً، بل سيزيده خذلاناً وخسارةً وضياعاً فهو لن يسلك هذا الطريق.

خامساً: الثواب الإلهي
من العوامل التي تساعد الإنسان على الثبات ومرافقة الحق هو أنه كلما ازدادت التهديدات والصعوبات كلما ازداد الأجر والثواب عند الله سبحانه. فالأجر الجزيل والدرجة الرفيعة التي وصل إليها إمامنا الحسين عليه السلام كانا بفضل تضحياته وصبره وجهاده في سبيل الله تعالى.
فعلى مستوى التحدِّي يأتي الثبات وعلى مستوى الثبات يكون الأجر والدرجة والمكانة من الله سبحانه وتعالى ﴿فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيماً (النساء: 95).

سادساً: الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى
فالالتجاء إلى الله يكون أمام التحدّيات والأخطار والتوكّل عليه والاعتصام به، فإنّه تعالى يثبّت عباده الصالحين في مثل تلك المواقف الصعبة ولا يخذلهم. ففي قصّة طالوت وجالوت، عندما برز طالوت ومعه داوود والمؤمنون - الذين هم قلّة بالنسبة لجالوت وجنوده - قالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(البقرة:250).
وهذا الالتجاء هو ديدن الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين معهم ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (آل عمران: 146).

سابعاً: التأسّي بالمؤمنين
فمن خلال مراجعة التاريخ وما جرى على الأنبياء السابقين عليهم السلام والمؤمنين بهم من حروب وغزوات وتحديات ومعرفة مدى صبرهم وثباتهم، واتباع ذلك وتطبيقه على الأحداث التي تواجهنا يحصل ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (الأحزاب: 21).
نحن إذا عرفنا ما جرى مع المؤمنين قبلنا ندرك أنّ كل ما يجري حولنا من التهويل والتهديد ليس بشيء أمام ما جرى عليهم. ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "قد كان قبلكم قوم يُقتلون ويُحرقون ويُنشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردُّهم عمَّا هم عليه شيء مما هم فيه من غير تِرَةٍ وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى، بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فاسألوا ربكم درجاتهم، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم"2.

فحينما نرى جهاد الآخرين وتضحياتهم وصبرهم تهون علينا مصائبنا ويقل خطرها عندنا، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته فيَّ فإنها أعظم المصائب"3. ومن أعظم مصائب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصيبته بالحسين عليه السلام، فالإمام الحسين عليه السلام صبر وتحمّل خذلان الناس وتخلفهم عنه حتى الذين بايعوه خذلوه ونصروا أعداءه وشاركوا في منعه وعياله من شرب الماء... كل ذلك حدث خلال ساعات قليلة والإمام عليه السلام يدعوهم ولا يسمعون له أو يستجيبون لندائه الشريف... فكم يُحدث ذلك ألماً ومرارةً لدى ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

هذا هو إمامنا الذي نتعلم منه دروس الثبات والصدق والبيعة الوفية. وها هي المدرسة التي نجلس فيها فنتعلم ونتعاطف ونبكي، لنقوم بمواجهة هذا العدو ونحن قلّة متهمة بالجنون وبإلقاء النفس بالتهلكة وننتصر عليه بفضلٍ من الله سبحانه وتعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


1.بحار الأنوار، المجلسي، ج 45، ص 6.
2.ميزان الحكمة، الريشهري، ج 1، ص 303.
3.م. ن.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع