مع الإمام الخامنئي | كلّنا مَدينون للنبيّ الأعظم* نور روح الله| هكذا كانت حياة الرسول* مع إمام زماننا | حين تزفّ السماء نبأ الظهور (2): في مكّة السيّد محسن شهيداً على طريق القدس مقاومتُنا بعينِ الله صُنعت حاجّ محسن! إلى اللقاء عند كلّ انتصار* أبو طالب: قائدٌ في الميدان والأخلاق المقاومة الإسلاميّة: ثقافتنا عين قوّتنا الشهيد على طريق القدس بلال عبد الله أيّوب تسابيح جراح | جراحاتي لا تثنيني عن العمل

جيش الإمام الحسن عليه السلام والحقائق المؤلمة


الشيخ فادي سعد


إنَّ من الأمور الهامة التي ينبغي تسليط الضوء عليها ودفع كثير من الشبهات التي دارت حول معرفة حقيقة الجيش الذي ابتُلي به إمامنا الحسن صلوات اللَّه عليه، وهو محور من محاور حياته عليه السلام، إذ أن هناك محاور أخرى، كمعرفة الظروف الاجتماعية والأمنية وتقسيم الأحزاب وتأسيس الإمام عليه السلام للأهداف التي اختلفت في سبيل بلوغها الأدوار المتكاملة مع وحدة المنطلق واجتماع الغاية في مضمون سمائي لا يمكن التنازل عنه ولا الزهد فيه، "وهو صيانة المعنويات الإسلامية من الانقراض والعقائد الدينية عن الانتقاض" وهو العنصر الأهم من العناصر الرئيسة التي أكَّدت عليها تصريحاته عليه السلام وقد لا يتمّ هذا الأمر إلاَّ بالقعود في مفصل من مفاصل التاريخ، كما كان من صلحه عليه السلام، وقد يكون العكس فلا يتم إلاَّ بالقيام كما في ثورة أخيه الحسين عليه السلام وهو القائل في جواب أحد السائلين: "ألستُ الذي قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قال: بلى، قال: فأنا إذاً إمامٌ لو قمت وأنا إمامٌ إذا قعدت..".

وسنتعرض لكشف هوية ذلك الجيش من خلال الكلام في مقامين: الأول في القيادة والثاني في العناصر؛ ولكن بعد تبيان عاملين من عوامل الضعف التي سادت تلك المرحلة غير أنها لم تكن مختصة بالجيش بل شكَّلت موانع كبرى أمام النهوض وبيَّنت عمق المشكلة وقدر المعاناة والصبر الذي عاشه الإمام عليه السلام.


* عامل الشك:

إن الفارق التاريخي بين شخصية الإمام وأبيه عليهما السلام ولَّد شكاً كبيراً يمكن اعتباره من الأمراض المزمنة التي عاشتها الأمة فترةً غير قليلة، ونعني بالفارق رصيد كل واحدٍ منهما عليه السلام في أذهان الناس، ومقامه في نفوسهم إذ ليس هناك فارق بينهما في الموازين الإلهية، فكلاهما إمام معصوم مفترض الطاعة؛ ولكن المقصود هو أن المسلمين آنذاك إمّا أنهم كانوا يؤمنون بإمامته ولكن الظروف التي مرت في زمن أبيه والحروب التي خاضها وموقف المسلمين منها وضعف الشيعة الذي قرَّح قلب أبيه أدى إلى قبوله بالصلح. أو أنهم لم يكونوا يؤمنون بفكرة النص على الإمامة ولذلك لم يعاملوه عليه السلام معاملة إمام مفترض الطاعة منصوص عليه وإنما عاملوه على أن إمامته امتداد لخط السقيفة ومفهومها للخلافة، ومن ثم كان تسلّمه للحكم بعد أبيه عليه السلام مباشرةً مما ساعد على توطين هذا الوهم فترك هذا العامل أثره السلبي في الحياة العامة كما في صفوف الجيش، كذلك حيث سرى الشك إلى رسالية المعركة التي يخوضها وكانت حسب نظرهم معركةَ "بيتٍ مع بيت" أي معركة الأمويين مع الهاشميين وبالتالي ليست معركةً شعارها الرّسالة بحيث يبذل الإنسان فيها المُهَج، ومن الواضح أنّ من لا يؤمن بمقامه السماوي ورساليته الصادقة لن تكون نتيجة أمره التفاني والإخلاص والطاعة ولعلَّ هذا من أشدِّ عوامل الضعف المؤدي إلى التخاذل والتنازل مع ملاحظة الدسائس التي كانت تعمل دائماً في سبيل الإحباط من خلال الأحزاب الأربعة: الحزب الأموي الخوارج الشكَّاكين الدَّاخلين الجدد في الدين. وكذلك مع معرفة الأهداف الأربعة التي تكمن وراء حملة معاوية وهي:

1 - شلُّ الكتلة الشيعية وهي الكتلة الحرَّة والقضاء تدريجياً عليها وتمزيق جامعة التشيّع.
2 - خلق الاضطرابات المقصودة في المناطق المنتمية لأهل البيت عليهم السلام ثم التنكيل بالآمنين.
3 - عزل أهل البيت عليهم السلام عن العالَم الإسلامي وفرض نسيانهم على المسلمين إلاَّ بالذِّكر السيّ‏ء والحؤول بكل الوسائل دون تيسُّر النفوذ لهم، ثم العمل على إبادتهم عن طريق الغيلة.
4 - تشديد حرب الأعصاب، ولمعاوية في ذلك جولات طال حسابها في التاريخ وسيطول عنده سبحانه.

* عامل الخيانة:
وهو كسابقه نال حظّه من الشريحة العامة كما هي الحال في صفوف الجيش، بل هو وليد عامل الشك ذاك. لقد وصل الأمر في جمهور الإمام عليه السلام إلى حد الخيانة والانحياز إلى جانب معاوية طمعاً بما يغدقه من المال والجاه وبما يهيئه من الاستقرار وعدم الملاحقة من قِبَل شرطته وجلاوزته حتى أن زعماء الكوفة كانوا يراسلونه بتسليم الإمام عليه السلام مكتوفاً إليه متى ما شاء ثمَّ يأتون إلى الإمام عليه السلام فيظهرون له الطاعة والولاء قائلين: (أنت خليفة أبيك ووصيُّه ونحن السامعون المطيعون لك فمرنا بأمرك) فيجيبهم وهو العارف بهم: "كذبتم واللَّه وما وفيتم لمن كان خيراً مني فكيف تفون لي وكيف أطمِئنُّ إليكم ولا ثقة بكم، فإن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن فوافوا هناك..."

وخرج الإمام عليه السلام إلى المدائن فتخلَّف عنه أكثر الجيش. ومن هنا يستحيل الانتصار في معركة يحكم نفوس المقاتلين فيها الشك والخيانة وحب المال والسلطة والراحة وهذا مما لا تقوم عليه سياسة إدارة الأمور عنده عليه السلام، وأضف إلى هذين العاملين عوامل أخرى كالجاسوسية وهي من أبرز مصاديق الخيانة. يذكر الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد: "إنه لما بلغ معاوية وفاة أمير المؤمنين عليه السلام وبيعة ابنه الحسن عليه السلام دسَّ رجلاً من حِمْيَر إلى الكوفة، ورجلاً من بني القَيْنِ إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن عليه السلام الأمور.

والآن بعد أن تعرّفنا على هذين العاملين الخطيرين ووضوح صلتهما فيما نحن بصدد بيانه نشرع بالمقام الأول:
* قيادة الجيش:

بعد أن وضع الإمام عليه السلام الخطَّة للوضع الحربي الراهن نظر عن يمينه وشماله وتصفّح الوجوه التي كانت تدور حوله من زعماء شيعته وسراة أهل بيته ليختار منهم قائد مقدمته فلم يرَ أكثر اندفاعاً للنُّصرة ولا أشدّ تظاهراً بالإخلاص من ابن عمّه عبيد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب وقيس بن سعد الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني فعَهد إلى هؤلاء الثلاثة بالقيادة على نحو الترتيب، ولما كان عبيد اللَّه أمير الحج في سنتي 36 و39 والي البحرين وعامل اليمن وتوابعها على عهد أمير المؤمنين عليه السلام وأسبق الناس دعوة إلى بيعة الإمام الحسن عليه السلام، كان حريّاً بهذه الثقة التي وضعها فيه الإمام عليه السلام ودعاه فعهد إليه عهده لكن الأمور بخواتيمها، فهل بقي على ما كان عليه في البداية أم انقطعت حماسته وسقط في النهاية؟!

لقد تشاءم منذ الساعة الأولى التي يمَّم بها معسكره تشاؤماً كان له أثره في المراحل القريبة مع الأخذ بعين الاعتبار الموازنة بين قواته وقوات عدوه التي لا تقل عن ستين ألفاً من أجناد الشام المعروفين بالطاعة العمياء لأمرائهم، وضرورة الحرص على روحيَّة جيشه التي هي كل ما يدَّخره للقاء عدوه، واشتراك الأخلاط، والخوف من تسرّب الشائعات والأكاذيب من جنوده أنفسهم ممن بثهم معاوية ليقلّب الأمور، وهكذا كان فقد وجدت الشائعات الخادعة محالَّها كقولهم: (إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح، فلمَ تقتلون أنفسكم..) وارتفعت أصوات المخلصين من الأنصار تدعو الناس إلى الرجوع ولكنها صيحات في وادٍ واجتاح الموقف ارتباك مؤسف وتخاذل القائد الأول للخدعة الخبيثة ووقع في الفخ وندم على قبوله بالقيادة، وكانت رسالة معاوية إليه تضرب على وتر حبه للتعاظم فيقول له فيها: (إن الحسن سيضّطر إلى الصلح وخيرٌ لك أن تكون متبوعاً ولا تكون تابعاً..) وجعل له فيها ألف ألف درهم، فدخل حِمى معاوية ليلاً دخول المنهزم الذي يعلم في نفسه أي إثم عظيم أتاه، فلم يذكره التاريخ إلاَّ في قائمته السوداء في سجلّ الخائنين، فهكذا كانت نهاية القائد الأول مع إيجاز شديد.

وهنا جاء دور القائد الثاني قيس بن سعد صاحب العقيدة الراسخة ليعالج هذه الرجَّة العنيفة في معنويات جيشه التي أحدثها فرار الأول، غير أن القائد الثاني لم يفلح مع بذله كل ما بإمكانه أن يمسك بالأمر دون انهيار هذا الجيش، وعمل معاوية في المقابل لإثارة التمرد حتى نجح في استذلال شموخ الكثيرين منهم عن طريق المطامع المادية التي سبقهم إليها قائدهم الأول، حتى وصل عدد الفارين من الزحف عن طريق خيانة اللَّه ورسوله وابن رسوله صلى الله عليه وآله إلى ثمانية آلاف كما يحدِّثنا التاريخ.

غير أن هذا لم يكن كافياً في نظر معاوية، حيث أنه لا يزال في معسكرات الحسن عليه السلام رجال، فصمَّم على استعمال الطريقة ذاتها مع القائد الثاني في إثارة الشائعات الكاذبة إذ لا أمل له مع شخصية كقيس بن سعد، فكان يدسّ إلى عسكر المدائن من يتحدَّث أن قيساً وهو قائد عسكر "مسكن" قد صالح معاوية وصار معه، ويوجّه إلى عسكر قيس في "مسكن" من يتحدث أن الحسن عليه السلام قد صالح معاوية وأجابه، ثم ينشر في إشاعة أخرى على معسكر المدائن: "ألا إن قيس بن سعد قد قُتل فانفروا". وما ظنك بجيش شهدت عناصره خيانة قائدها الأول ولماذا لا تُصدِّق خيانة الثاني أو خبر قتله؟! وهكذا بلغ معاوية بفتنته ما أراد مبتدئاً بالقيادة ومنتهياً بالعناصر.

* عناصر الجيش:
قبل التعرّف على الانتماءات والأهداف التي سادت هذا الجيش لا بد من الوقوف أولاً عند عدده وهو محل نقاش بين العلماء، وإن كان المهم النوع وليس الكمّ غير أن كثيراً من المعادلات تحكمها الأرقام.

1 - عدد الجيش:
لقد اختلف المؤرّخون والرواة في ذلك فذكر بعضهم أنه كان أربعين ألفاً بينما ذكر آخرون أنه كان ثمانين ألفاً وذهب ثالث إلى أنه مائة ألف وهناك من قال بأقل من ذلك، فإذا عددنا جيش المقدم وهو اثنا عشر ألفاً وعدد المتطوعين في الكوفة وهو أربعة آلاف، ثم الفصائل التي تواردت على الإمام عليه السلام في دير عبد الرحمن حين أقام بإزائه ثلاثاً، فهذه قرابة عشرين ألفاً وهي جيش الإمام الحسن عليه السلام عند زحفه إلى المعسكرين: مسكن والمدائن.

2 - تأليف الجيش:
إن الذي يظهر أن الطريقة التي اتخذت لتأليف هذا الجيش كانت بسيطة بحيث لم تدخلها التحسينات المكتسبة بعد ذلك وهو الأسلوب الذي كان متبعاً في التجمعات الإسلامية مع القرون الأولى في الإسلام، بحيث لا يشترط لقبول الجندي أيّة قابليات شخصيَّة ولا عمراً معيناً، بل كان للمسلم وازعه الديني حين يسمع داعي اللَّه تعالى إلى الجهاد، ويكون قادراً على حمل السلاح.

3 - هوية الجيش:
إن هذا الجيش بعناصره الكثيرة التي اختلفت دوافعها وحوافزها لم يكن واحد الهوية كما ذكر الشيخ المفيد رضي الله عنه حيث قال: (... وخفَّ معه أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيه وبعضهم محكِّمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم، وبعضهم شُكَّاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين...). ومن هنا كان التطوع وسيلة لبلوغ الأهداف التي رسمتها كل ذمة من ذممهم بحسب ثقافتها التي لا تنسجم مع المبادى‏ء والمثل الإسلامية التي ينطوي عليها الجهاد المقدس.

والنتيجة: أن هذا الجيش كان كما عبَّر الإمام صلوات اللَّه عليه قائلاً:
"وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، وأنتم بين قتيلين، قتيل بصفين تبكون عليه وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره، فأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر.." كما جاء في خطابه لجيش المدائن الذي تعرَّض فيه إلى تقسيم عناصر الجيش من ناحية نزعاته وأهوائه في الحرب. وبهذا العرض تتبين حقيقة هذا الجيش: قيادته الأولى وعناصره وهويته ودوافعه، وعوامل سقوطه وعدم ثقة الإمام عليه السلام به سواء في وجهته الداخلية أو الخارجية، بعد كونه مصاباً بتلك الأمراض المزمنة التي هدَّدت الإسلام ولم يكن الدواء إلاَّ دماء كربلاء التي جاء بها أخوه الحسين عليه السلام بعده.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع