نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الإمام الصادق عليه السلام أستاذ الكل


في أجواء الذكرى السنوية لميلاد صادق أهل البيت في 17 ربيع الأول والتي تتزامن مع ذكرى ولادة جده نبي الرحمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ارتأينا طبع هذا الموضوع مع شيء من التصرّف للعلامة الشهيد مرتضى المطهري تعميماً للفائدة.

ولد الإمام الصادق عليه السلام في ربيع الأول من سنة 83 هجرية، في خلافة عبد الملك بن مروان الأموي، ورحل عن الدنيا في شهر شوال أو رجب سنة 148 هـ في خلافة أبي جعفر المنصور العباسي. ولد في زمان خليفة ذكي سفاك أموي، وتوفي في زمان خليفة مقتدر ذكي وسفاك عباسي. وشهد خلال ذلك فترة الخلافة وانتقالها من أسرة إلى أخرى.

ورد في الكافي وبحار الأنوار وسائر الكتب الأخرى أنّ أمّه كانت فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر لذلك يصل نسبه من جهة أمه إلى أبي بكر. وبما أنّ القاسم بن محمد بن أبي بكر قد تزوج ابنة عمه أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فإنّ أمّه من جهة أبيها كانت تنتسب إلى أبي بكر أيضاً. ولهذا كان الإمام الصادق عليه السلام يقول: "ولدني أبو بكر مرتين".

* الفرصة الذهبية:
الإمام الصادق عليه السلام شيخ الأئمة، فقد عمّر أطول من باقي الأئمة، إذ توفي وهو في الخامسة والستين وكان هذا الطول النسبي في عمره، وانشغال الأمويين والعباسيين بالصراع فيما بينهم فرصة ذهبية للإمام لكي يمد بساط العلم والتعليم ويشتغل بتربية حوزة علمية عظيمة، بحيث تصبح عبارة "قال الصادق؛ شعار علم الحديث" ويوفقه الله لنشر حقائق الإسلام وعلومه. ومنذ ذلك اليوم حتّى زماننا هذا لا يرد ذكر الإمام الصادق في كتب العلماء الشيعة وغيرهم إلاّ وهو مقرون بذكر المدرسة التي أسّسها، والتلامذة الكثر الذين ربّاهم في تلك المدرسة، والبهاء الذي أضفاه على سوق العلم والثقافة الإسلامية، بمثل ما هم جميعاً يعترفون بتقواه وروحه المعنوية وعبادته.

يقول الشيخ المفيد، وهو من علماء الشيعة، إنّ ما نقل عن الإمام من الآثار من الكثرة بحيث انّه انتشر في كلّ البلاد. إنّ ما نقل عنه لم ينقل عن أيّ من علماء أهل البيت. وقد أثبت رجال الحديث أسماء تلامذته والذين أخذوا العلم عنه، وقالوا أنّهم كانوا أربعة آلاف تلميذ يضمون مختلف الطبقات والعقائد والآراء.

يشير محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، أحد كبار علماء أهل السنة وصاحب الكتاب المشهور "الملل والنحل" إلى الإمام فيقول: "هو ذو علم غزير، وأدب كامل في الحكمة وزهد في الدنيا وورع عن الشهوات" ثمّ يقول أنّه بقي زماناً في المدينة يدرّس تلامذته وشيعته، ثمّ أقام زماناً في العراق، ولم يتجه طوال حياته نحو الرئاسة وطلب الجاه بل انشغل بالعلم والتدريس. ثمّ يعلّل ذلك بقوله: "من غرق في بحر المعرفة لم يقع في شط، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط".

كثيرة تلك الأقوال التي يصف بها كبار علماء الإسلام من جميع الفرق الإمام وفضله وعلو مقامه. ولست الآن بصدد تعدادها، وإنّما القصد التذكير بأنّ من عرف الإمام الصادق عليه السلام عرف معه تلك المدرسة العظيمة المثمرة التي ما زالت آثارها باقية حتّى الآن، إذ أنّ الحوزات العلمية الشيعية اليوم امتداد لتلك الحوزات العظيمة.

إنّ الكلام على الإمام الصادق عليه السلام ميدان واسع ذو تشعبات كثيرة، وكلمات الإمام نفسه في شتّى الفروع، كالحكمة العملية والوعظ كثيرة وتستحق البحث. أمّا تاريخ حياته فيشمل قضايا كثيرة معبّرة. ثمّ هناك مجادلاته ومحاوراته مع الدهريين وأرباب الأديان والمتكلمين من الفِرق الإسلامية الأخرى وأصحاب العقائد والآراء المختلفة. وهذا كثير وجدير بالدرس، بالإضافة إلى أنّ الفترة التاريخية التي عاصرها الإمام أو تلامذته، مما يتصل به، فترة حافلة خليقة بالمطالعة.

* الثورة أم السكوت
أقصر كلامي على المقارنة بين السيرة التي اختارها الإمام في أيامه وسيرة أحد أجداده العظام مما قد يبدو في الظاهر أنّهما كانا متناقضين، فمن المعلوم أنّ الصادق عليه السلام آثر السكوت وعدم الثورة على النظام الفاسد والظالم بخلاف سيرة جدّه الإمام الحسين عليه السلام، ولكني سأكشف عن السر في ذلك، إذ أنّ فيه فائدة عميمة لنا في يومنا هذا وفي أيامنا المقبلات.

على الرغم من أنّ القرائن، وحتى أقوال الحسين عليه السلام نفسه، كانت توحي بأنّه مقتول لا محالة، فإنّه مع ذلك ثار بغير خوف ولا وجل، بينما نجد أن الإمام الصادق عليه السلام لم يثر على الرغم من أنّ الناس قد جاءته في ذلك، بل فضّل القعود ساكناً في داره، والانصراف إلى التعليم والتدريس والإرشاد.

فهنا تعارض وتناقض في الظاهر، لأنّه إذا كان على المرء أن ينهض ثائراً في وجه الظلم والجور بغير أن يأخذ أي خطر بنظر الاعتبار، فلماذا إذن لم يثر الإمام الصادق عليه السلام وإنما سار على مبدأ التقية طيلة حياته؟ فإذا كان الواجب هو السير على هذا المبدأ، وإن كان على الإمام أن ينصرف إلى التعليم والإرشاد وهداية الناس، فلماذا إذن ثار الإمام الحسين عليه السلام ولم يفعل ما فعله الإمام الصادق عليه السلام؟ لا بدّ هنا من الإشارة إلى الظروف السياسية على عهد الإمام الصادق عليه السلام ومن ثمّ أباشر بالإجابة على هذا التساؤل.

* الحالة السياسية أيام الإمام الصادق عليه السلام
انتقلت الخلافة على عهد الإمام الصادق من الأمويين إلى العباسيين. والعباسيون من بني هاشم ومن أبناء عمومة العلويين. في أواخر عهد الأمويين على أيام مروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين، ضعف أمر الخلافة، فقام جماعة من العباسيين والعباسيين والعلويين بالدعوة لقضيتهم. وكان العلويون جماعتين: بني الحسن، وهم من أبناء الإمام الحسن عليه السلام، وبني الحسين، وهم من أبناء سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، وقد رفض هؤلاء، وكان على رأسهم الإمام الصادق عليه السلام، الدخول في تلك النشاطات، فقد دعي الإمام الصادق إلى ذلك مرات عديدة ولكنه رفض. كانت الدعوة في أول الأمر تدور حول العلويين وكان العباسيون يدعون للعلويين على الظاهر. فقد قام السفاح والمنصور وأخوهما الأكبر إبراهيم الإمام بمبايعة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن المعروف بذي النفس الزكية.

وحتّى المنصور، الذي قتل فيما بعد عمداً ذا النفس الزكية هذا، كان في بادئ الأمر يسير في ركاب محمد بن عبد الله ممسكاً بزمام مطيته، أو يشدّ له السرج كأحد الخدم، وذلك لأنّ العباسيين كانوا يعلمون أنّ الشعبية للعلويين، وإلاّ فإنّ العباسيين لم يكن يهمهم أمر الدين في شيء، فكان كل هدفهم الوصول إلى مركز الرئاسة ومقام الخلافة. لذلك فقد امتنع الإمام الصادق عليه السلام منذ البداية عن التعاون معهم.

كان بنو العباس يرسلون الدعاة دون ذكر اسم معين، بل كانوا يقولون أنّهم يدعون باسم "الرضا من آل محمد أو الرضي من آل محمد" ولكنهم كانوا في الخفاء يمهدون الطريق لأنفسهم. وكان من أشهر الداعين لهم اثنان: أحدهما من العرب اسمه أبو سلمة الخلال الذي كان يعيش متخفياً في الكوفة، يدير شؤون سائر الدعاة والمبلغين، وقد منحوه لقب "وزير آل محمد"، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تستعمل فيها كلمة وزير في الإسلام. وكان الآخر فارسياً وهو المعروف باسم أبي مسلم الخراساني الذي لقبوه باسم "أمير آل محمد".

يقول المسعودي في "مروج الذهب" أنّه بعد مقتل إبراهيم الإمام "الأخ الكبير للسفاح والمنصور وقد أوصى للسفاح من بعده" ارتأى أبو سلمة تحويل الدعاة من العباسيين إلى العلويين، فكتب رسالتين بمضمون واحد إلى المدينة وبعث بهما مع أحد الرسل. كانت الأولى موجهة إلى الإمام الصادق عليه السلام رئيس بني الحسين، والأخرى لعبد الله بن الحسن بن الحسن الذي كان كبير بني الحسن. لم يهتم الإمام الصادق عليه السلام بالرسالة، وعندما أصرّ حاملها على لزوم الحصول على جواب، أخذ الإمام الرسالة وأحرقها على شعلة المصباح أمام الرسول، وقال له، هذا هو جواب رسالتك.

غير أنّ عبد الله خدع بالرسالة وفرح بها، وعلى الرغم من أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال له أن لا فائدة في الأمر. وان بين العباس لن يتركوا الأمر له ولأبنائه، فإنّ عبد الله لم يقتنع، وقبل أنّ يصل جوابه إلى أبي سلمة، كان هذا قد اغتيل على يد السفاح الذي كان قد أساء الظن به، فاغتاله بموافقة أبي مسلم، وأشاعوا أنّ الخوارج قد قتلوه. بعد ذلك أُلقي القبض على عبدا لله وعلى أبنائه وقتلوا.
هذه هي وقائع رفض الإمام الصادق عليه السلام قبول الخلافة.

* علة رفض الإمام
لم يقتصر سبب امتناع الإمام الصادق معرفته أن بني العباس سيحولون دونه وسوف يقتلونه. بل لو كان يعلم أن استشهاده خير للإسلام والمسلمين لاختار الشهادة، بمثل ما اختارها جده الحسين عليه السلام للسبب ذاته. إنّ ما كان خيراً للإسلام والمسلمين في ذلك الزمان – الذي سوف نبين خصوصياته- هو القيام على رأس نهضة علمية وفكرية وتربوية مما ظلت آثارها إلى يومنا هذا، بمثل ما إنّ ثورة الحسين في أيامه كان لازمة بحث ظلت آثارها إلى يومنا هذا أيضاً.

إنّ روح القضية يكمن هنا. ففي كلّ هذه الأعمال، في الثورة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتقية والتزام الصمت، ينبغي الالتفات إلى آثار ذلك ونتائجه في واقعه. إنّ هذه ليست من الأمور التعبدية كالوضوء والغسل والصلاة والصوم. إنّ نتائجها تختلف باختلاف الأزمان والظروف والواقع. فمرة يكون أثر الثورة والجهاد خيراً للإسلام. ومرة يكون للتقية والتزام الصمت ذلك الأثر نفسه والفائدة ذاتها. ومرة تكون صورة الثورة مختلفة. كلّ ذلك يرتبط بخصوصيات العصر والزمان والظروف والأحوال السائدة في فترة ما. فلا بدّ من تشخيص دقيق وعميق لكلّ ظرف من الظروف، لأنّ أي خطأ في هذا التشخيص يصيب الإسلام بأضرار فادحة.

* الحالة الاجتماعية على عهد الإمام
تميز عهد الإمام الصادق عليه السلام فضلاً عن حوادثه السياسية، بكثير من الحوادث الاجتماعية والتعقيدات الفكرية والروحية الغامضة، فكان من اللازم أن يبدأ الإمام الصادق جهاده في هذه الجبهة. إنّ مقتضيات عصر الإمام الصادق، الذي عاش في النصف الأول من القرن الثاني، كانت تختلف كثيراً عن مقتضيات عصر سيد الشهداء الذي عاش في حدود منتصف القرن الأول.

في حدود منتصف القرن الأول، لم يكن أمام الذين يريدون خدمة الإسلام في الدول الإسلامية سوى جبهة واحدة، تلك هي جبهة الوقوف بوجه جهاز الخلافة الفاسد. لم تكن ثمة جبهات أخرى قد ظهرت، بعد، أو أنّ الذي ظهر منها لم يكن كبير الأهمية، فقد كانت حوادث العالم الإسلامي ترتبط جميعاً بدست الخلافة، إذ كان الناس ما يزالون يعيشون ببساطة صدر الإسلام. ولكن الأمر أخذ يتغير بعد ذلك بالتدريج ولأسباب شتى، فظهرت جبهات أخرى للجهاد، كالجبهات العلمية والفكرية، بعد أن بزغت بين المسلمين نهضة علمية وفكرية عظيمة، وظهرت نحل ومذاهب في أصول الدين وفروعه، حتّى أنّ أحد المؤرخين يقول أنّ المسلمين يومئذٍ عافوا ميادين الحرب واتجهوا إلى فتح أبواب العلم والمعرفة، وبدأوا بتدوين العلوم الإسلامية. في ذاك العصر عصر الإمام الصادق عليه السلام أدّت الاشتباكات بين الأمويين والعباسيين إلى إيجاد فترة من الانفتاح زالت فيها الموانع التي كانت تحول دون تبيان الحقائق. هذا من جهة. ومن جهة أخرى ظهرت بين المسلمين موجة من التشوق إلى فهم الحقائق، فكان لا بدّ لشخص مثل الإمام الصادق عليه السلام أن يتزعم هذه الجبهة ويمدّ بساط التعليم والإرشاد ويحلّ المشاكل العلمية في المعارف والأحكام والأخلاق. إنّ ظروفاً كتلك لم تمر بالعهود السابقة، ولا مرّ الناس بفترة مماثلة في الاندفاع نحو العلم والمعرفة.

نقرأ في تاريخ حياة الإمام الصادق عليه السلام أنّه يضطر مرّة إلى مجادلة الزنادقة والدهريين من أمثال ابن أبي العرجاء، وأبي شاكر الديصاني، وحتّى ابن المقفع، فيردّ على أسئلتهم بما يسكتهم. إنّ تلك المجادلات الطويلة المسهبة المعجبة حقاّ ما زالت باقية. ومنها كتاب توحيد المفضل، وهو رسالة مطوّلة في هذا الباب، كتبه المفضل، وهو أحد أصحاب الإمام، على أثر دخوله في جدل مع أحد الدهريين، وتحت إشراف الإمام.
وفي مكان آخر نقرأ أنّ كبار المعتزلة، من أمثال عمر بن عبيد وواصل بن عطاء، وهم من مفكري زمانهم، كانوا يفدون على الإمام الصادق عليه السلام يتباحثون معه في المسائل الإلهية والاجتماعية.

ثمّ إنّنا نلاحظ أن كبار فقهاء العصر كانوا من تلامذة الإمام أو أنّ بعضهم كان يحضر مجلس الإمام للحصول على إجابات لما كان يراودهم من تساؤلات. من هؤلاء كان أبو حنيفة ومالك بن أنس، اللذان عاصرا الإمام واستفادا من مجالس درسه. أمّا الشافعي وأحمد بن حنبل فقد كانا من تلامذة تلاميذ الإمام. كان مالك في المدينة وكثيراً ما حضر مجلس الإمام، وهو نفسه يقول: عندما كنت أحضر مجلسه وأراه يجلّني كنت أشعر بالفرح أشكر الله على ما أولاني من محبته.

ويصف مالك الإمام الصادق قائلاً: كان من عظماء العباد وأكابر الزهاد، والذي يخشون الله عزّ وجل وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد. ما رأت عن ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد" أما أبو حنيفة فكان يقول عنه: "ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد" ويقول: عندما جاء جعفر بن محمد إلى العراق بأمر من المنصور، قال لي المنصور أنّ أعدّ له من المسائل أصعبها أسأله فيها، فأعددت له أربعين سؤالاً وذهبت بها إلى مجلسه، فعرفه بين المنصور، فقال الإمام: أعرفه، فقد زارنا من قبل. ثمّ طرحت المسائل بأمر المنصور، فكان يجيب على كلّ مسألة بقوله: رأيكم أنتم يا علماء العراق في هذه المسألة كذا وكذا، ورأي علماء المدينة فيه كذا وكذا، وكان رأيه هو أحياناً مع علماء العراق وأحياناً مع علماء المدينة، وكان له أحياناً رأيه الخاص.

وفي مكانٍ آخر نرى المتصوفة يختلفون إلى مجلس الإمام ويطرحون أسئلتهم ويتلقون إجاباته عليها. وقد أوردنا نموذجاً صغيراً من ذلك فيما سبق.
لقد كان زمان الإمام الصادق عليه السلام زمان الصراع بين الأفكار وبدء حرب العقائد. فكانت الضرورة توجب على الإمام أن يبذل جهده في هذه الجبهة. في أمثال هذه الحالات ينبغي دائماً الإلتفات إلى النتائج والآثار المترتبة على العمل. كان سيد الشهداء قد أدرك ما سيكون لاستشهاده من أثر في صالح الإسلام، فثار واستشهد وما زال أثر ذلك باقياً حتّى الآن.

أمّا الإمام الصادق عليه السلام فقد رأى الوقت أنسب ما يكون لتأسيس جامعة علمية، فسعى جهده في هذا السبيل، وكانت بغداد قد بنيت في أيام الإمام الصادق. وأصبحت حاضرة العلوم الإسلامية. ويبدو أنّه قد زار بغداد في أواخر أيامه. وكان من أثر مساعيه أنّنا نرى الشيعة على رأس الفرق الإسلامية الأخرى في التقدم في العلوم الإسلامية، أو كانت على الأقل، تسير حذو النعل بالنعل مع الفرق الأخرى في التقدم العلمي، فكتبوا في جميع الفروع من أدب وتفسير وفقه وكلام وفلسفة وتصوّف وفي الفلك والرياضيات والتاريخ والجغرافيا، وأخرجوا العلماء العظام وقدموا للعالم أرفع نتاجاتهم وأنفسها وإذا ما شاهدنا اليوم بعض طالبي الإصلاح يعترفون- بعد ألف عام – بالمذهب الشيعي. فإنّ ذلك يرجع إلى كون التشيع مدرسة إسلامية حقيقية، وإلى أنّ آثار الشيعة في مختلف الفروع تنفي عنهم كلّ اتهام سياسي. إنّها آثار وليدة العقيدة والإيمان، وليس بمقدور السياسة أن تخلق فقهاً أو أخلاقاً أو فلسفة أو تفسيراً أو حديثاً كهذه. إنّ الاعتراف بالشيعة اليوم نتيجة عمل الإمام الصادق عليه السلام ونشاطه في تلك الأيام.

القصد هو أنّ الأئمة الأطهار في كلّ زمان ومكان كانوا يأخذون مصلحة الإسلام والمسلمين بنظر الاعتبار. وكلّما تغيّرت الظروف وتبدّلت مقتضيات الزمان والمكان، كان لا بدّ لهم أن يسيروا على ما تقتضيه مصلحة الإسلام فقد كان لكلّ فترة جبهة للجهاد خاصّة، وكانوا هم أقدر الناس على معرفة تلك الجبهات وضرورة الجهاد فيها.
فهذا التعارض، بالرغم من أنّه ليس تعارضاً حقيقياً، فإنّه بالإضافة إلى ذلك أفضل درس تعليمي للذين يحملون عقلاً وفكراً مستقيمين، ويعرفون جبهات الحرب، ويدركون مقتضيات كلّ زمان وعصر بما يتفق مع مصالح المسلمين. فمرة تكون نهضتهم نهضة سيف، كثورة الحسين عليه السلام ومرّة أخرى، مثل زمن الإمام الصادق عليه السلام تكون نهضتهم نهضة تعليم وإرشاد وتعميم العلم وتقوية العقائد والأفكار، أو أيّ شكل آخر ﴿إنّ في ذَلكَ لذكرى لِمَنْ كان لهُ قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع

بعلبك

قاسم

2023-09-30 18:07:00

ما هي المصادر من اي كتاب كتبتم هذا الموضوع نرجوا كتابة المصادر كاملة