عن تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي
لعلّ المسألة الأبرز والأساس التي نحتاجها في دراستنا هذه حول المرأة والنظرة الإسلامية إليها- كما في دراسة أي قانون أو تشريع إسلامي- هي التأمل والنظر في الأحكام والقوانين والرسوم الدائرة بين الأمم الحاضرة، والقرون الخالية لنستبين منها مكانة المأة عندها، والنظرة إليها فيها، ومن ثم مقارنتها مع النظرة الإسلامية ذات الروح الحية الشاعرة التي قدمت للإنسانية الأنموذج الأفضل في التقنين والتشريع.
ومن هنا فإننا نحتاج في البحث عمّا يراه الإسلام ويعتقده في:
1- هوية المرأة والمقايسة بينها وبين هوية الرجل.
2- وزنها ومدى مؤثريتها في الاجتماع الإنساني.
3- حقوقها والأحكام التي شرعت لها.
4- الأساس الذي بنيت عليها الأحكام المربوطة بها.
إلى استحضار المراحل التي مرت بها في حياتها، قبل طلوع الإسلام، وما كانت الأمم غير المسلمة تعاملها عليه، إلى مكانتها والنظرة إليها في عالمنا هذا المتمدّن منه وغيره.
فماذا عن هذه المراحل والأدوار؟ وما الذي أبدعه الإسلام في أمرها؟ هذا ما سنتطرق إليه في بحثنا إن شاء الله تعالى.
* حياة المرأة في الأمم الوحشية
كانت حياة المرأة في هذه الأمم والقبائل كأولئك القاطنين في أفريقيا واستراليا والجزر المسكونة بالأوقيانوسية، وأمريكا القديمة وغيرها، بالنسبة إلى حياة الرجال، كحياة الحيوانات الأليفة والأنعام، بالنسبة إلى حياة الإنسان.
فكما يستفيد الإنسان من هذه الحيوانات، ويسخرها لخدمته وراحته ويتصرف بها كيفما يشاء: فيستفيد من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودمها وجلودها وحليبها وسفادها ونتاجها ونمائها، ويستفد منها في حمل الأثقال والحرث والصيد... الخ، كذلك المرأة بالنسبة له. فوجودها لا يتعدى كونها حيواناً عجماوياً مدَّخراً لتوفير الخدمة، بجميع أشكالها للرجل القوّام عليها، أباً كان أو زوجاً، فهي موجود تابع الوجود والحياة للرجل الولي عليها ولا من حقوق لها إلا ما رآه الإنسان المالك لها حقاً لنفسه.
ومن هنا فإن المتعدي عليها لا يؤاخذ إلا لكونه تعدّى على مالكها في ملكه، لا عليها بالذات.
وكان للرجل في هذه الأمم أن يبيع المرأة ممن شاء، وكان له أن يهبها لغيره ويقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك. وكان له أن يسوسها حتى بالقتل. وكان له أن يخلي عنها، ماتت أو عاشت. كما كان له أن يقتلها ويرتزق بلحمها كالبهيمة، وخاصة في أيام المجاعة وفي المآدب. وكان له ما لها من مال وحق وخاصة في إيقاع المعاملات من بيع وشراء وأخد وردّ.
وفي مقابل ذلك كله، كان على المرأة أن تطيع الرجل، أباً كان أو زوجاً، فيما يأمر به طوعاً أو كرهاً. وكان عليها عدم الاستقلال في أمر يرجع إليه أو إليها. وكان عليها أن تلبي أمور البيت والأولاد وجميع ما تحتاج إليه حياة الرجل فيه. كما كان عليها أن تتحمل من الأعمال أشقها كحمل الأثقال وعمل الطين وما يجري مجراها، ومن الحرف أرداها وسفاسفها.
ومن العجب ما بلغ به الأمر عند بعض القبائل، حيث أن المرأة كانت إذا وضعت حملها، قامت من فورها إلى حوائج بيتها، ونام الرجل مكانها أياماً يتمرض ويداوي نفسه.
هذا مجمل القول في حياة المرأة في هذه الأمم. ومن أراد الاطلاع على تفاصيل أوفى فليراجع الكتب المؤلفة في ذلك.
* حياة المرأة في الأمم المتمدنة قبل الإسلام
تتمثل هذه الأمم بتلك التي كانت تعتمد أدباً ورسوماً موروثة غير مستندة إلى كتاب أو قانون، كالصين والهند ومصر القديمة وإيران وغيرها.
وتشترك هذه الأمم فيما بينها في أن المرأة عندهم لم تكن ذات استقلال وحرية في الإرادة، أو في الأعمال، بل كانت تحت الولاية والقيمومة، ليس لها حق في إنجاز شيء على نحو الاستقلال، ولا حتى المداخلة في الشؤون البينية، وإطاعة الرجل في جميع أوامره وإرادته. زد علي ذلك مشاركتها له في جميع أعمال الحياة من كسب وغيره.
وقد كانت المرأة في هذه الأمم أرفه حالاً بالنسبة إليها في الأمم غير المتمدنة حيث لم تكن تقتل ليقدم لحمها طبقاً للأكل، ولم تحرم من الملكية بالكلية، بل كانت تتملك من إرث أو زواج أو غير ذلك، إلا أنها لم تكن لها حرية التصرف فيما تملك بالاستقلال.
هذا وكان للرجل في هذه الأمم أن يتخذ زوجات عديدات من غير تحديد، وله تطليق من شاء منهن، وله الحق في الزواج بعد موت زوجته دون العكس غالباً.
إلى جانب ذلك، فقد اختصت كل أمة من هذه الأمم بمختصات حسبما اقتضته الظروف والأوضاع والأماكن. وعلى سبيل المثال: أوجد نظام الطبقات في إيران تمييزاً لنساء الطبقات العليا، فسمح لهن بالتدخل في شؤون الملك والحكومة وبالسعي لنيل السلطة ونحو طلك، كما سمح بالزواج من المحارم من أم أو بنت أو أخت أو غيرها.
أما في الصين فكان الزواج من المرأة نوعاً من الشراء والمملوكية لها. وكانت المرأة ممنوعة من الإرث ومن مشاركة الرجال- حتى أبناءها في التغذي. في حين يستطيع رجال متعددون أن يتشاركوا في الزواج من امرأة واحدة والتمتع بها، والانتفاع من أعمالها وخدماتها. ويلحق الأولاد في مثل هذه الحالات غالباً بأقوى الأزواج.
وفي الهند كانت المرأة تابعة لزوجها على الإطلاق فلا يحق لها الزواج بعد وفاته، بل هي بين خياريين: إما حرقها بالنار إلى جانب جسد زوجها، وإما أن تعيش ذليلة مدى الحياة.
وبعبارة موجزة، يمكن وصفها في هذه الأمم كالبرزخ بين الحيوان والإنسان، يستفاد منها استفادة الإنسان المتوسط في أمور واجباته، كالولد الصغير بالنسبة إلى وليه. غير أنها تحت الولاية والقيمومة دائماً.
وهي في أمم أخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب كالكلدان والروم واليونان.
فالكلدة والآشور قد حكم فيهم شرع "حمورابي" الذي قضى بتبعية المرأة لزوجها، وعدم استقلالها إرادة وعملاً. كما قضى هذا الشرع للزوج أن يطلق زوجته أو يخرجها من منزله، في حال قصرت في واجباتها تجاهه، أو استقل شيء فيها. وله في هذه الحالة أيضاً أن يتزوج عليها ويعاملها بعد ذلك معاملة ملك اليمين، وفي حال أخطأت الزوجة في تدبير شؤون البيت بإسراف أو تبذير، فللزوج رفع أمرها إلى القاضي ليغرقها في الماء بعد إثبات الجرم.
والروم الذين كانوا يعيشون تحت حكم القوانين المدنية الوضعية، التي أول ما بدأ وضعها في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ليستكمل تدريجياً فيما بعد، كانوا يعطون للبيت نوعاً من الاستقلال في تدبير شؤونه الخاصة. ولرب البيت، وهو زوج المرأة وأبو أولادها، نوع ربوبية. لذا كان أهل البيت يعبدونه، كما كان هو يعبد من تقدمه من آبائه. وقد كانت إرادته ماضية ومشيئته نافذة في جميع ما يريده ويأمر به- في أهل بيته من زوجه وأولاد. وتعدى ذلك إلى إعطائه صلاحية القتل لأحدهم، دون أدنى معارضة، في حال رؤيته صالح ذلك. والمرأة (زوجة أو بنتاً) في هذا المجتمع أردأ حالاً من الأبناء الصغار التابعين محضاً لرب الأسرة. حيث لم تكن عد من أجزاء المجتمع، فلا تسمع لها شكاية، ولا تنفذ مها معاملة، ولا تصح منها مداخلة في ألأمور الاجتماعية. في حين كان للرجال من أعضاء الأسرة أعني الأبناء والأدعياء (الأولاد الملحقين بغير آبائهم، وكانت هذه مسألة شائعة معمولاً بها عندهم، وكذا عند اليونان والفرس وعند العرب) حق الاستقلال في حياتهم الخاصة، في حال سمح رب البيت لهم به.
ولم يقتصر الأمر على عدم عد النساء أجزاء أصيلة للاجتماع الإنساني، بل تعداه إلى عدم جعلهن أجزاء أصيلة في البيت أيضاً. حيث كان الأعضاء الرئيسيون للبيت الرجال والذكور فقط. ومن هنا فإن للقرابة الرسمية المؤثرة في التوارث عندهم كانت مختصة بالرجال فيما بينهم. أما النساء فلا قرابة بينهن بين الرجال كالزوجين، أو الأم مع الأبناء أو الأخت مع الأخ، أو البنت مع الأب، ولا بينهن أنفسهن كالأم مع البنت أو الأخت مع الأخت. لذا فإن النساء لا يرثن ولا يتوارثن. نعم القرابة الطبيعية (وهي التي يوجبها الاتصال في الولادة) وبالجملة، كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود، تابعة الحياة في المجتمع (المجتمع المدني والبيتي)، إرادتها وزمام حياتها بيد رب البيت أباً أو زوجاً أو غيرهما، يفعل بها ما يشاء، ويحكم فيها ما يريد، فربما رباعها، وربما وهبها، وربما أقرضها للتمتع، وربما أعطاها مقابل حق يراد استيفاؤه منه كدين وخراج ونحوهما، وربما ساسها بقتل أو ضرب غيرهما. وبيده تدبير مالها إن ملكت شيئاً بالزواج أو الكسب- مع إذن وليها- لا بالإرث لأنها محرومة منه.
أما زواجها فبيد أبيها أو واحد من سراة قومها. وطلاقها بيد زوجها.
أما اليونان فالأمر عندهم في نشوء البيوت وأربابها فيها كان قريب الوضع من وضع اليوم.
فقد كان الاجتماع المدني وكذا الاجتماع البيتي عندهم متقوماً بالرجال، والنساء لهم تبع. ولذا لم يكن لهنَّ استقلال في إرادة ولا فعل، إلا تحت ولاية الرجال. إلا أنهم في هذا ناقضوا أنفسهم، حيث أن قوانينهم الموضوعة كانت تحكم للنساء بالاستقلال لا بالتبع، إلا في حال موافقة ذلك مع نفع الرجال فكانت المرأة تعاقب عندهم بجميع جرائمها بالاستقلال، ولا تثاب لحسناتها، ولا يراعى جانبها إلا بالتبع وتحت ولاية الرجل.
وهذا هو الشاهد الدّال على عدم اعتبار هذه القوانين للمرأة جزءاً ضعيفاً تابعاً في المجتمع فحسب، بل جراثيم مضرّة مفسدة لمزاج الاجتماع، مضرّة بصحته، إلا أن للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث بقاء النسل، فيجب لذلك أن يعتني بشأنها. ومن هنا فإنها تذاق وبال أمرها إن جنت أو أجرمت، ويحتلب الرجال درها إن أحسنت أو نفعت. ولا تترك لحريتها صوناً من شرها. فهي كالعدو الذي يهزم فيؤخذ أسيراً مسترقاً طوال حياته تحت القهر، إن جاء بالسيئة يؤاخذ بها، وإن جاء بالحسنة لم يشكر لها.
هذا الأمر هو الذي جعلهم يعتقدون بأن الاجتماع، إنما يتقوم بالرجال، وألزمهم على الاعتقاد، بأن الأولاد بالحقيقة هم الذكور، وإن بقاء النسل متوقف على بقائهم، وهو بالتالي الذي مهّد لظهور عمل التنبي والإلحاق بينهم. حيث أن البيت الذي ليس لربه ولد ذكر كان محكوماً بالخراب، والنسل مكتوباً عليه بالفناء والانقراض، مما اضطر أمثال هؤلاء إلى اتخاذ أبناء لأنفسهم خوف الانقراض وموت الذكر. فدعوا غير أبنائهم لأصلابهم أبناءً لأنفسهم، وجعلوهم أبناءً رسميين يرثون ويورثون، ورتبوا عليهم آثار الأبناء الصُلبيين.
وكان الرجل العاقر فيهم، يعمد إلى بعض أقاربه كأخيه أو ابن أخيه فيورده فراش أهله لتعلق منه، وتلد ولداً يدعوه لنفسه، يقوم به بقاء بيته.
أما الأمر في التزويج والتطليق في اليونان، فقد كان قريباً منها في الروم وكان من الجائز عندهم تعدد الزوجات إلا أن من الجائز عندهم تعدد الزوجات إلا أن الرسمية منهن واحدة وتعتبر الباقيات غير رسميات.
* حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم
* محيط نزول القرآن
كان العرب يقطنون شبه الجزيرة العربية، وهي منطقة حارة، جدبة الأرض وكانوا يعيشون كقبائل بدوية بعيدة عن الحضارة والمدنية، تعتمد غالباً على شن الغارات والسلب والنهب.
تتصل منطقتهم بإيران من جانب وبالروم من جانب، وببلاد الحبشة والسودان من جانب آخر.
وقد كانت عاداتهم ورسومهم عادات ورسوماً متوحشة. وربما وجد بينها شيء من عادات الروم وفارس، ومن عادات الهند ومصر القديمة أحياناً.
وكانت العرب لا ترى للمرأة استقلالاً في الحياة ولا حرمة ولا شرافة إلا حرمة البيت وشرافته. وكانت تحرمها من الميراث. وتجيز للرجل تعدد الزوجات من غير تحديد، كاليهود، وكذا في الطلاق. وكانت تئد البنات وتتشاءم من ولادتهن لاعتبارهن مجلبة للعار. وكان الرجل يتوارى من القوم، إذا ولدت له بنت، من سوء ما بشر به، إلا أنه كان يسرُّ بالأبناء مهما كثروا ولو بالإلحاق أو التنبي. وقد كانوا يتبنون الولد لزنى ارتكبوه بمحصنة. وربما تنازع رجال من صناديدهم وأولو الطول منهم ف يولد ادّعاه كل لنفسه.
وربما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم، وخاصة للفتيات في أمر الزواج، حيث كان يراعى فيه رضا المأة واختيارها وهذا الأمر عندهم يشبه دأب الأشراف في إيران الجاري على تمايز الطبقات.
وكيف ما كان، فقد كانت معاملتهم للنساء مركبة من معاملة أهل المدينة من الروح وإيران كتحريم الاستقلال في الحقوق، والشركة في الأمور العامة الاجتماعية كالحكم والحرب، وأمور الزواج إلا استثناءً ومن معاملة أهل التوحش ولابربرية. ولم يكن حرمانهن هذا من باب تقديس أرباب البيوت وعبادتهم، بل من باب غلبة القوي للضعيف، واستخدامه له.
أما في شأن عبادتهم، فكانوا جيمعاً (رجالاً ونساءً( يعبدون أصنافاً تتميز من قبيلة إلى أخرى حسبما تصورها لهم أوهامهم. وقد تصنع هذه الأصنام من الحجارة أو الخشب أو التمر وقد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نقل عن بني حنيفة أنهم اتخذوا لهم صنماً من الجيش (تمر مجبول بالسمن) فعبدون دهراً طويلاً، ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم:
زمن التقحم والمجاعة |
أكلت حنيفة ربها |
سوء العواقب والتباعة |
لم يحذروا من ربهم |
ووصل الأمر بهم إلى عبادة حجر، حتى إذا وجودا حجراً أحسن منه طرحوا الأول جانباً وعبدوا لاثاني. وإذا صادف ولم يجدوا شيئاً يعبدونه أخذوا حفنة من التراب ثم جاءوا بغنم فحلبوه عليها ثم طافوا بها يعبدونها.
هذه عينات من أحوال المرأة في المجتمع الإنساني بأدواره المختلفة، قبل الإسلام وزمن ظهوره آثرنا فيها الاختصار ويستنتج من جميع ذلك:
أولاً: أنهم كانوا يرونها إنساناً في مستوى الحيوان العجم، أو إنساناً ضعيف الإنسانية منحطاً لا يؤمن شره وفساده ولو أطلق من قيد التبعية، واكتسب الحرية في حياته، والنظر الأول أنسب لسيرة الأمم الوحشية والثاني لغيرهم. وثانياً: أنهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي أنها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه، وإنما هي من شرائطه التي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه، أو أنها كالأسير المسترق الذي هي من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين، وثالثاً أنهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيمين بأمرها، رابعاً: أن أساس معاملتهم معها فيما عاملوها به هو غلبة القوي على الضعيف وبعبارة أخرى هو قريحة الاستخدام، هذا في الأمم غير المتمدنة، وأما الأمم المتمدنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرها، وربما اختلط الأمر اختلاطاً باختلاف الأمم والأجيال.
لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحسبها في سجن الذلة والهوان حتى صار الضعف والصغار طبيعة لها، عليها نبت لحمها واشتد عظمها وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المترادفة بعدما وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء- ومن العجب ذلك- ولا ترى أمة من الأمم وحشيها ومدنيها إلا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهو أن أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتشبيه مربوطة بهذه اللفظة (المرأة) يقرّع بها الجبان، ويؤنب بها الضعيف، ويلام بها المخذول المستهان والمستذل المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:
أقوم آل حصن أم نساء |
وما أدري وليت إخال أدري |
مئات وألوف من النظم والنثر في كل لغة.
وهذا في نفسه كاف في أن يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانية في أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السيرة والتواريخ من مذاهب الأمم والملل في أمرها، فإن الخصائل الروحية والجهات الوجودية في أمة تتجلى في لغتها وآدابها.
ولم يورث من السابقين ما يعتني بشأنها ويهتم بأمرها سوى بعض ما في التوراة وما وصى به عيسى بن مريم عليهما السلام من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها.
*
(ماذا أبدعه الإسلام في أمرها)
وأما الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، وخالفهم جميعاً في بناء فطرية عليها كانت الدنيا هدمتها من أول يوم وأعفت آثارها، وألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويتها اعتقاداً وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً.
أما هويتها: فإنه بين أن المرأة كالرجل إنسان وأن كل إنسان ذكر أو أنثى يشترك في مادته وعنصره ولا فضل لأحد على أحد بالتقوى، قال تعالى:
﴿يا أيها الناس إ نا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات: 13)، فجعل تعالى الإنسان مؤلفاً من زوجين ذكر وأنثى هما معاً وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده، وهو سواء كان ذكراً أو أنثى مجموع المادة المأخوذة منهما، لذا لم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل: وإنما أمهات الناس أوعية
ولا قال مثل ما قاله الآخر:
بنوهن أبناء الرجال الأباعد |
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا |
بل جعل تعالى كلاً مخلوقاً مؤلفاً من كل. فعاد الكل أمثالاً، ولا بيان أتم ولا أبلغ من هذا البيان، ثم جعل الفضل في التقوى.
وقال تعالى: ﴿إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض﴾ (آل عمران) 95)،
فصرح أن السعي غير خائب والعمل غير مضيع عند الله وعلل ذلك بقوله:
﴿بعضكم من بعض﴾
فعبر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى"، وهو أن الرجل والمرأة كليهما من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسنخ.
ثم بيّن بذلك أن عمل كل واحد من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيه،
﴿كل نفس بما كسبت رهينة﴾، لا كما كان يقوله الناس: إن عليهن سيئاتهن، وللرجال حسناتهن من منافع وجودهن.
وإذا كان لكل منهما ما عمل، ولا كرامة إلا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة والإيمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلا للتقوى والفضيلة.
وفي معنى الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى: ﴿من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ النحل: 97، وقوله تعالى:﴿ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب﴾ المؤمن: 40، وقوله تعالى:
﴿ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا﴾ النساء: 124. وقد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات أبلغ الذم وذلك صريح قوله تعالى:
﴿وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون﴾ النحل: 59، ولم يكن تواريهم إلا لعدهم ولادتها عاراً على المولود له، وعمدة ذلك أنهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد بالغ الله سبحانه عليه حيث قال:
﴿وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت﴾ التكوير: 9.
وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المريونة فتراهم يعدون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصر، مع أن الإسلام قد جمع العار والقبح كله في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها.
وأما وزنها الاجتماعي: فإن الإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شؤون الحياة بالإرادة والعمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانية في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى:﴿بعضكم من بعض﴾ آل عمران: 195، فلها أن تستقل بالإرادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك نتاجهما كما للرجل من غير فرق، ﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾.
فهما سواء فيما يراه الإسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الإلهي: أحدهما: أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختص من الأحكام بمثل ما يختص به الحرث، وتمتاز بذلك من الرجل. والثانية أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها والوظائف الاجتماعية المحولة إليها.
فهذا وزنها الاجتماعي، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما وما يختص به أحدهما في الإسلام، قال تعالى:
﴿ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً﴾ النساء: 32، يريد أن الأعمال التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل، وأن من هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمناه متمن، ومنه ما لم يعين إلا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الإيمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل التي يستحسنها الدين،
﴿وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء﴾، ﴿واسئلوا الله من فضله﴾.
وأما الأحكام المشتركة والمختصة: فهي تشاك الرجل في جميع الأحكام العبادية والحقوقية والاجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إلا في موارد يقتضي طباعها ذلك.
وعمدة هذه الموارد: أنها لا تتولى الحكومة والقضاء، ولا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً، ولها نصف سهم الرجل في الإرث، وعليها: الحجاب وستر مواضع الزينة، وعليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها، وتدرك ما فاتها بأن نفقتها في الحياة على الرجل: الأب أو الزوج، وأن عليه أن يحامي عنها منتهى ما يستطيعه، وأن لها حق تربية الولد وحضانته.
وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر، وأن العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها، وأنها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال.
والمتحصل من جميع ذلك: أنها في جانب العلم لا يجب عليها إلا العلم بأصول المعارف والعلم بالفروع الدينية (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، وأما في جانب العمل فعليها القيام بأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها، وأما تنظيم الحياة- الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة والورود فيما يقوم به نظام البيت والمداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة للعامة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها، فلا يجب عليها شيء من ذلك ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ونحو ذلك كله فضلاً لها تتفاضل به، وفخراً لها تتفاخر به، وقد جوّز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهن، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب. والسنة النبوية تؤيد ما ذكرناه.
وأما الأساس الذي بنيت عليه هذه الأحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعي كيفية هذا البناء ونزيده ههنا إيضاحاً فنقول:
لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهاؤها آخر الأمر إلى الطبيعة، فخصوصية البنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الإنسان إلى هذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يخلو النوع منه في أي زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة، ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد. كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة، أو عن صحته الطبيعية إلى السقم والعاهة.
فالاجتماع بجميع شؤونه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي نهاية الأمر إلى الطبيعة وأن اختلف القسمان من حيث أن الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.
فهذه حقيقة، وقد أشار إليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبينه بأبدع البيان، قال تعالى:
﴿الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ طه: 50، وقال تعالى:
﴿الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾ الأعلى: 3، وقال تعالى:
﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها﴾ الشمس: 8، إلى غير ذلك من آيات القدر.
فالأشياء ومن جملتها الإنسان إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيمة والكفيلة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقاً تاماً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءاً صحيحاً، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى:﴿فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم﴾ الروم: 30.
والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الأفراد- على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية- أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يحيا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعي ليس ببذل كل مقام اجتماعي لأي فرد من أفراد المجتمع، فيتقلد الصبي مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلده الإنسان العاقل المجرب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المقتدر من الشؤون والدرجات، فإن في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لحالهما معاً.
بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي ويفسر به معنى التسوية: أن يعطى كل ذي حق حقه وينزل منزلته، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقاً، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكماً ونحو ذلك، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة" الآية، كما مر بيانه، فإن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال.
ثم إن اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في أصول المواهب الوجودية أعني، الفكر والإرادة المولّدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكرة والإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية عدا ما منع عنه مانع، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرية على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى:
﴿فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف﴾ (البقرة: 234).
لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة أخرى، فإن المتوسطة من النساء تتأخر عن التوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب ولاشرايين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك أن جسمها ألطف وأنعم كما أن جسم الرجل أخشن وأصلب، وأن الإحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال، والزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية.
ولذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين أعني التعقل، والإحساس، فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل والحياة التعقلية فجعلها للرجل دون المرأة، وخص مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن). ثم تمم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة مرت الإشارة إليها.
فإن قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطافها في العمل فإن ارتفاع الحاجة الضرورية إلى لوزام الحياة بتخديرها، وكفاية مؤنتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها على تحمل مشاق الأعمال والأشغال فتنمو على ذلك نماءاً ردياً وتنبت نباتاً سيئاً غير صالح لتكامل الاجتماع، وقد أيدت التجربة ذلك.
قلت: وضع القوانين لمصلحة لحال البشر أمر، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتاً حسناً أمر آخر، والذي أُصيب به الإسلام في مدة سيرة الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الأحكام، وتوقفت التربية ثم رجعت القهقري، ومن أوضح ما أفادته التجارب القطعية أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بأمورهم وتربيتهم الصالحة التي يجتمع فيها العلم والعمل. فهذا معاوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك إليكم وإنما كنت أقاتلكم لأتآمر عليكم وقد فعلت، وهذا شأن من الأمويين والعباسيين فمن دونهم. ولولا استضاءة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره الكافرون لقضي عليه منذ عهد قديم.
* حرية المرأة في المدنية الغربية
لا شك أن الإسلام له التقدم الباهرة في إطلاقها عن قيد الأسر، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأن أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الإسلام- وإن أساؤوا التقلد والمحاذاة- فإن سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية وهي متوسطة متخللة، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.
وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.
والرأي العام عندهم تقريباً: أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قروناً لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل.
ويتوجه عليه: أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الأحيان ولتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.
ويؤيد ذلك أن المدينة الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة، ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، ولم تزل الإحصاءات في جميع ما قدم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدم الرجال وتؤخر النساء، وأما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في بحوث لاحقة إن شاء الله تعالى.