نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

إلى كل القلوب: خديجة عليها السلام: السيّدة القدوة


سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)


للسيّدة خديجة مكانةٌ خاصّةٌ عند المسلمين؛ فهي زوج رسول البشريّة وخاتم الأنبياء، النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمّ سيّدة نساء العالمين، السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام. إلّا أنّ ثمّة بعض المغالطات التاريخيّة في سيرتها عليها السلام، منها ما يرتبط بسنّها، وبزواجها، نحاول أن نقف عند هذه المغالطات، ونبيّن ما هو الصحيح، ولِمَ مثّلت عليها السلام قدوة للمسلمات.

* قدوة وأسوة
قدّم لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السيّدة خديجة عليها السلام قدوةً وأسوة لكلّ النساء والرجال، ووصفها بخير النساء وأفضلهنّ، ؛ لذلك يجب الاستفادة من سيرتها العطرة، وخصوصاً في مسألة زواجها، من خلال ثلاث عبر:

1 - معيار الزواج: ما كان معيار خديجة عليها السلام للزواج؟ لم تكن السيّدة خديجة عليها السلام تبحث عن الزعامة أو الجاه أو السلطة التي كانت متوفّرة عند الزعماء الآخرين، ولا عن المال؛ لأنّها كانت تملكه. وفي العادة، الثريّات يبحثن عن الزوج الغنيّ لا الفقير، أمّا خديجة المرأة الطاهرة العفيفة العاقلة المتّزنة الحكيمة، فكانت معاييرها معايير الإسلام؛ أي التقوى والتديّن وحُسن الخُلُق؛ ولذلك أقدمت على هذا الزواج المبارك. فالعبرة الأولى إذاً، تذكير رجالنا ونسائنا وشبابنا وبناتنا بمعايير الزواج هذه.

2 - سنّ الزواج: العبرة الثانية من زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي موضوع العمر. فإذا افترضنا كما يقول أغلب المحقّقين -كما سيأتي- إنّ عمرها كان 28 سنة أو 30 سنة أو أكثر أو أقلّ، فهذا يعني أنّها كانت تكبره ببضع سنوات، لا تتجاوز الخمس. وهنا بيت القصيد؛ ففي مجتمعاتنا، إذا أراد شابّ الزواج من شابّة، يُقال له إنّه يجب أن يكون أكبر منها ببضع سنوات، وإنّه كلّما كان الفاصل الزمنيّ أكبر، كان ذلك أفضل. والأمر نفسه يسري على الفتاة؛ إذ يقول لها أهلها، إنّه يجب أن تتزوّج بشابّ أكبر منها سنّاً، وفي كلّ الحالات، كلٌّ له اعتباراته واستدلالاته. أمّا إذا أراد شابّ الزواج من فتاة من عمره أو أصغر منها بسنوات قليلة، فإنّه يواجَه بالاستهجان والاستنكار والرفض، وهذا هو الحال فعلاً في بعض البيئات، وعند بعض العائلات.

من هنا، أقول: ليس لهذا الكلام أيّ أساس شرعيّ أو منطقيّ أو دينيّ أو إنسانيّ، والاستدلالات التي يستدلّ بها هؤلاء غير واقعيّة وغير سليمة؛ لأنّ العِبرة ليست بالفاصل الزمنيّ، وإنّما بالأخلاق والدين والعفاف والطهارة والنقاء والحِلم والصدق والصبر، وهذا ما يخلق زواجاً موفّقاً، فالزواج الميمون لأعظم خلق الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كان هذا الزواج. يجب أن نقتلع هذه الثقافة من جذورها، وليكن قدوتنا في هذا الأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمّ المؤمنين خديجة عليها السلام.

3 - المهر: العبرة الثالثة من هذا الزواج هي المهر. كلّ الذين تقدّموا لخطبة السيّدة خديجة عليها السلام للزواج، قدّموا لها مهراً ثميناً، مثل ألف ناقة، أو ألفي ناقة، ونوع خاصّ من النوق والجِمال، وأموال، وذهب وفضّة، وقوافل، وغيرها، وهذا كان رائجاً في ذلك الوقت. أمّا مهر هذا الزواج، فكان بحسب بعض الروايات 400 أو 500 درهماً من الفضّة، كما كان مهر السيّدة الزهراء سيّدة نساء العالمين عليها السلام بنت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 400 درهم. التأكيد على تواضع المهر أيضاً من الأمور المحبّبة جدّاً لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّه يسهّل عمليّة الزواج وتكوين العائلة في مجتمعنا، ويسدّ الطريق على الكثير من أبواب الفساد والانهيار العائليّ والاجتماعيّ.

* معظم المؤرّخين: تزوّجت بـ28
فقد أجمع المؤرّخون أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان عمره 25 عاماً عندما تزوّج، أمّا الخلاف فكان حول عمرها عليها السلام عند زواجها من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كثرت الترجيحات في هذا الخصوص، فوصلت إلى ثمانية أرقام هي: 25 و28، و30، و35، و40، و44، و45، و46 عاماً. طبعاً، هذا الاختلاف الكبير حول عمر السيّدة خديجة عليها السلام يثير الريبة والشكّ؛ لأنّنا لا نتحدّث عن امرأةٍ مجهولة، ولا عن زواجٍ مجهول، بل نتحدّث عن زواجٍ يهتمّ به التاريخ، وله تأثيره في تاريخ البشريّة، وعن شخصيّتين معروفتين جدّاً، خصوصاً بعد البعثة النبويّة. وفي العادة، اختلافات كهذه تحصل بين قولين أو ثلاثة، أمّا أن يكون الاختلاف بين ثمانية أقوال، فهذا قد يكون مردّه إلى بعض الاعتبارات والحيثيّات السياسيّة والاجتماعيّة والمعنويّة والإعلاميّة، التي لا يتّسع المجال لذكرها هنا. لكنّ اللافت في الأمر، أنّ أكثريّة المؤرّخين والمحقّقين أجمعوا أنّ عمر السيّدة خديجة عليها السلام كان 28 سنة حين زواجها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع العلم أنّ الشائع اليوم والمتناقل بيننا جميعاً، شيعة وسنّة، وبين الشبّان والشابّات، وفي المدارس، أنّ عمرها كان 40 عاماً. من هنا، تكمن أهميّة إثارة هذا الموضوع، والتحقّق والتثبّت منه؛ لأنّه في ذاك الوقت، وبعد انتصار الإسلام ودخول الناس في الإسلام، بقي من كان يحاول أن يسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبما أنّهم لم ينجحوا في الإساءة إليه في أخلاقه أو سلوكه أو أقواله أو أعماله، فقد أطلقوا تلك المسألة المرتبطة بسنّ السيّدة خديجة عليها السلام وأشاعوها؛ لأنّه ليس مألوفاً أن يتزوّج رجل من امرأة تكبره بـ25 عاماً. حتّى في أيّامنا هذه، عندما يريد بعض الكتّاب الغربيّين إثارة الإشكالات على شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّهم يقولون إنّ محمداً ابن الـ25 سنة تزوّج امرأةً عمرها 40 سنة طمعاً بمالها! ليس من السهل حسم هذا الموضوع؛ لأنّه يحتاج إلى تأنٍ في الدراسة.

* الاختلاف حول زواجها السابق عليها السلام
ثمّة خلافٌ آخر بين المؤرّخين حول الحياة الشخصيّة للسيّدة خديجة عليها السلام؛ إذ يقول بعضهم إنّها كانت متزوّجة قبل زواجها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثمّة علماء ومحقّقون من السنّة والشيعة عبر التاريخ ينفون ذلك ويؤكدون أنّ زواجها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان زواجها الأوّل.

الانقسام هنا ليس عموديّاً؛ أي بين سنّة وشيعة؛ وإنّما هو انقسامٌ أفقيّ؛ أي أنّ هذا الاختلاف واقعٌ بين علماء من الشيعة والسنّة على حدّ سواء . وهذا الموضوع يحتاج إلى التأمّل والفحص الدقيق.

*الاختلاف حول أبنائها عليها السلام
المسألة الثانية التي تنسحب على الأولى هي الأولاد؛ إذا بنينا أنّها لم تكن متزوّجة قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا يعني أنّه لم يكن لديها أولاد. أمّا إذا كانت متزوّجة قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا يعني أنّه قد يكون لديها أولاد من زوجَيها السابقَين أو لا. وفي حال كان لديها أولاد، فمن هم؟ من المحسوم الذي لا خلاف فيه بين كلّ المؤرّخين، أنّ السيّدة خديجة عليها السلام أنجبت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القاسم، ولذلك يكنّى النبيّ بأبي القاسم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنّ القاسم مات طفلاً صغيراً. والمولود الآخر المبارك المُجمع عليه أيضاً هو السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام. أمّا الأقوال الأخرى، فثمّة من يقول إنّها أنجبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الذكور أولاداً، وهم: عبد الله، وعبد مناف، والطاهر، والطيّب -ويقال: إنّهم ماتوا وهم أطفال- وقول آخر يقول: إنّ عبد الله، وعبد مناف، والطاهر، والطيّب هم ولد واحد؛ فيصبح لدينا القاسم وعبد الله. ورأيٌ ثالثٌ يقول: إنّها لم تلد ذكراً إلّا القاسم فقط. هذا بالنسبة إلى الذكور، أمّا بالنسبة إلى الإناث، فالخلاف كبيرٌ حول هذه المسألة. ثمّة مؤرّخون يقولون: إنّ أمّ كلثوم ورقيّة وزينب، هنّ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خديجة. فيما يقول آخرون: إنّهُنّ لسنَ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل بنات السيّدة خديجة عليها السلام من زوجَيها السابقَين، فهنّ بذلك يكنّ ربائب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وفريقٌ ثالث يقول: إنّهنّ لسن بنات خديجة عليها السلام أبداً، بل بنات أختها؛ فعندما توفّي زوج أختها، جاءت بأختها وبناتها إلى بيتها لترعاهنّ، باعتبار أنّها ثريّة. وعندما توفّيت أختها، بقيت بناتها عندها. فأمّ كلثوم ورقيّة وزينب هنّ بنات أخت السيّدة خديجة عليها السلام وربيبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد حظي هذا الموضوع عبر التاريخ بالكثير من التحقيقات والنقاشات.

هذا المبحث يحتاج إلى نقاش مفصّل ومعمّق أيضاً. ولكن، ما يهمّنا في هذا الخصوص، أن نلتفت إلى أنّ ثمّة أشياء يظنّها الناس مُسلَّمات تاريخيّة، ولكنّها في الواقع ليست كذلك، وإنّما تحتاج إلى التأمّل، والتحقيق، والدراسة.


(*) من خطبة رمضانيّة لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، بتاريخ 8/5/2020م.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع