في تأبين الجواهري كتب الدكتور محمد علي آذرشب حول علاقة الشاعر محمد مهدي الجواهري الحميمة والوطيدة بالإمام الخامنئي وحب الإمام الخامنئي له ولشعره الحماسي الذي انعكس إيجاباً على عاقبة الشاعر وتوجهاته في أواخر عمره، وقد رأت إدارة المجلة تبيان هذه العلاقة الحميمة – مع التصرف بما كتبه الدكتور – تعميماً للفائدة.
غادر القافلة بعدما أقفرت من رواد البحر، في عمقه حيث يلتئم هناك ديوان أبي تمام، والسهم النابذ من جنباته المتنبي، والغريم الذي ينبلج في أساريره هدير امرئ القيس وزهير، وتهجع في جنباته أطالع الأندلس المنمنمة، في باقة العشق النجفي رحل من هذه القافلة بعدما رحلت بأمير الشعراء وسيدهم و.. بقي ممتشقاً حسام (لمثواك) من تلافيف الموروث أباً عن جد، وبعد انتظار، يشاقق الأيام عسى أن يخرج من جنبات القنوط شاعراً إذ بها أخرجت له من الشعر قانطاً ويشتم من اليأس، متأمل أفل من التأمل، يائس طاف في الآفاق مستجلياً ثورته الشعرية من دمشق إلى العراق إلى الغرب إلى طهران حيث وجد ترانيم لأمله الديني والثوري بل وجد (مولاه وسيده) على حدّ تعبيره كما كان مطمعه في (سيف لدولته) إذا به يجد أنّه أكثر حظوة من المتنبي إذ المتنبي هجر حبيبه (سيف الدولة) ومات بعيداً عنه لكونه هو وإن مات بعيداً عن سيده ومن قبل يديه أول مرة وآخر مرة في حياته على حدّ تعبيره. كان حاضراً بكلّ كيانه في سيده وحضر سيده فيه بكلّ وجوده.
هذا هو جانب من شخصية الجواهري في علاقته بالإمام السيد علي الخامنئي.
فالإمام القائد يواظب على قراءة شعر الجواهري وهو من محبّي شعره الجيد وإن كان عنده بعض النقد الأدبي العلمي وأحياناً من موقعه كناقد لا يبارى في إيران.
ولا عجب من رؤية فقيه كالإمام مولعاً بالشعر إلى هذا الحد الكبير فكلّ الفقهاء الكبار أصحاب ذوق رفيع في الشعر، أضف إلى ذلك أنّ الذوق الأدبي لا ينفكّ عن الفقاهة، لأنّ فهم الكتاب والسنّة لا يتمّ إلاّ بتذوّق الجانب الأدبي من هذه النصوص الدينية التي يقوم عليها الاستنباط. كما إنّ الإمام القائد من موقعه القيادي المرجعي ومسؤوليته الكبيرة يخصّص وقتاً للأدب العربي فهو وسيلة ارتباط بالتراث وبالأمة العربية، وهو حاجة نفسية لا يفرط بها في الحياة.
وقد كان الإمام القائد يعتبر الجواهري من شعرائه المفضلين وعندما بلغته رغبة الجواهري قال: عسى أن تكون زيارته لإيران عاقبة خير لهذا الرجل الذي أنشد في الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) أروع قصيدة كما ألهب مشاعر الأمة وعبأها ضدّ أعدائها ومذليها وساحقي كرامتها.
وبعدها بعث السيد القائد من يدعو الشاعر فزار الجواهري إيران زيارته الثالثة والأخيرة. واستقبله عدد من الأدباء والكتّاب وعتب عليه البعض بلطف لسكوته عن بلده وعمّا حدث في إيران وتحدّث عن ذلك في قصيدة الغدير بعدئذٍ وبزيارة مرقد الإمام قدس سره قال أنّه أنشد في الإمام بيتاً يعادل قصيدة من أعظم قصائده وهو:
إذا لم تكنه، عليك السلام
إمام من ذا يكون الإمام
تعجب الشاعر عندما علم أنّ القائد قد طالع ذكرياته مع تهميش لكثير من الصفحات وهكذا كان اللقاء لقاءً تاريخياً عندما أقبل الإمام القائد عليه وهو في صالة الضيوف فنهض الشاعر نحوه وقبّل يده، وقال: "هذه أوّل يد وآخر يد أقبّلها" وقدّم للإمام كتاب "ذكرياتي" وأنشد مقطوعته:
أنت ذو مِنّةٍ وأنت المدلُ
سيدي أيها الأعز الأجل
كلّ ما زاد عن سواه يقل
يعجز الحرف أن يوفّي عظيماً
زعيماً لثورة تستهل
أيّها الشامخ الذي شاءه الله
لك في الحرب مضرب لا يفلُ
لك في السلم منبر لا يبارى
يدٌ من مسها بسوء تشلُ
لك في ذمة الإله يمين
لك بعد في المكرمات وقبل
لك أهل فوق الذرى ومحل
يا عطوفاً على خطى من يزل
فاغتفر لي ما زل من ذكرياتي
استحسن السيد المقطوعة وأشكل على بعض مفرداتها، ودار نقاش أدبي ممتع، ثم دار الحديث عن أسرة الجواهري ومكانتها العلمية والأدبية، وسأل السيد عن بعض أفرادها. وانتهت الجلسة وغادر الجواهري بيت السيد الخامنئي وهو يردّد لقد عادت إلى إيران أيام "ابن العميد" و "الصاحب بن عبّاد" مشيراً إلى ما كان في إيران خلال القرن الرابع من اهتمام بالأدب العربي ومن مجالس أدبية صاخبة على أعلى المستويات. ولمّا كانت ذكرى عيد الغدير، كتب الجواهري رسالة للسيد القائد مشفوعةً بقصيدتين يقول في الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
أقبّل يديكم وأتشرّف. وأنا الغريق في ألطافكم، بأن أرفع إلى سماحتكم تهنئتي هذه المتواضعة بعيد الغدير السعيد آملاً أن تحوز شرف قبولكم إياها. كما أنّني أتشرف بأن أرفع إليكم قصيدة جديدة مرفقة بقطعة شبه جديدة لم تنشر بعد جاءت بمحض الصدقة على وزنها وقوافيها بل حتّى لكأنّها جزء لا يتجزأ مما أريد أن أقوله فيها. كل ذلك لمجرّد مباركتكم إياها على أن تكون بعد إتمامها في الجملة من قصائدي التي تحوز شرف رضاكم عنها.
أعاد الله على سماحتكم مدى عمركم الطويل عيد الغدير السعيد وقد تخلص المسلمون برعايتكم وتوجيهاتكم الكريمة من براثن المستكبرين المستعمرين ليعود إليهم ومن جديد عز الإسلام ومجده القديم، وتقبلوا يا سيدي صميم إجلالي وإعزازي والسلام عليكم.
المخلص الأمين محمد مهدي الجواهري
* وهنا نص القصيدة التي أرسلها تحت عنوان "إيران"
إيران عاد الصبح من أفراح
حذر الفوات. فأذني بصباح
سبحان من يسع الفتى وغروره
ويمده لوحاً من الألواح
ولقد بكيت لفرط ما طمح الردى
بأحبتي، فسخرت من أطماحي
قالوا سكتّ وأنت أفظع مهلب
وعن الجموع، لزندها قداح
حتّى على صور الملاح إثارة
حمراء من صور لديك ملاح
فعلام أبدل وكر نسر جامح
حرد بعش البلبل الصداح
فأجبتهم أنا ذاك حيث تشابكت
هام الفوارس تحت غاب رماح
قد كنت أرقب أن أرى راحاتهم
مدى لأدفع عنهم بالراح
لكن وجدت سلاحهم في عطلة
فرميت في قعر الجحيم سلاحي
قد كنت أحمل فوق أجنحة لهم
واليوم أحمل مهجتي بجناحي
واليوم أحمل جذوة مسعورة
لا شيء ينجدها من الأرواح
لا بد أبرد حرها فأعرتها
ريح الصبا، ووهبتها للراح
ولقد أقول لصاحبي لم أدره
أسيان أم ثملاً، أفق يا صاح
كن فوق داجية الخطوب وريبها
وألح من أذيها الملحاح
وتحدها، فلقد تحدت صخرة
طوفان (نوح) ببطشه المجتاح
وارحمتا للجيل دون عذابه
حمم (الجحيم) ومدينة الذباح
ترمي به الأطماح في متفجر
صخب، وتسقطه على ضحضاح