نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قرآنيّات: تفسير سورة الكوثر(2)(*)

الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾.
صدق الله العليّ العظيم


تحدّثنا في المقال السابق عن سبب نزول سورة الكوثر، وتطرّقنا إلى تفسير الآية الأولى منها: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾. وفي هذا المقال، سنستكمل تفسير الآيات المتبقّية، مضافاً إلى ربط هذه السورة بالعلاقة بين الحقّ والخلود.

•﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾
﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾، اذكر، يا محمّد، ربّك وقدّم الطاعة، وكن عند حُسن ظنّه ﴿وَانْحَرْ﴾؛ في التفسير المشهور أنّ النحر هو نحر الذبيحة؛ لأنّ الذبيحة في عيد الأضحى واجبة على الحجّاج، ومستحبّة لمن يصلّي صلاة العيد.
﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾؛ أي قدّم قرباناً وذبيحة إعلاناً بأنّك لا تُبالي بنفسك ولا بمالك، فتستسلم أمام الله بالصلاة، وتقدم لله قرباناً.
ولا شكّ في أنّ هذا القربان مفيد للفقراء.

•﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾
﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾؛ عدوّك هو الميّت، وهو الذي لا ذَنَبَ له ولا عَقِب. وبالفعل عدوّه كان أبترَ من الجوانب جميعها؛ فلو كان للرسول ذريّة، فعدوّه ليس له ذريّة، ولو كان له أمّة، ليس لعدوّه أمّة، ولو كان لأولاده قبور ومشاهد وأسماء، فليس لعدوّه ذلك، ولو كان له مبادئ وقيم وأخلاق وتعاليم ورسالة، فليس لأعدائه ذلك، فعدوّك هو "الأبتر" لا أنتَ يا رسول الله، فكن قرير العين، وقدّم الشكر والطاعة لله تعالى.

•طريق الحقّ والخلود
في هذه السورة المباركة درس لنا وتأكيد أنّ الإنسان إذا سلك سبيل الحقّ فهو الخالد: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (الرحمن: 26-27)، ما وجه الربّ؟ يعني كلّ عمل صدر لوجه الله فهو الخالد: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (الرحمن: 27)؛ فإذاً، الإنسان في سبيل الحقّ خالد. توضيح هذه الحقيقة بأنّ الإنسان يخلّد في سبيل الخير والحقّ، وينتهي عندما يسلك سبيل الباطل، يحتاج إلى مطالعة ودراسة تجارب البشر. فلطريق الحقّ والخير تشعّبات كثيرة؛ فطريق العلم هو طريق الحقّ، وكذلك طريق العدل، والأخلاق، والحقّ، وهكذا الطرق إلى الله هي كلّها طرق الحقّ، فلنستعرض بعض هذه الطرق.

•العلم... إنتاج حيّ لآلاف العلماء
نحن اليوم أمامنا صرح من العلم، ماذا يعني العلم؟ يعني الكهرباء، والصناعة، والفيزياء، والكيمياء، وهذه الوسائل كلّها التي نعيش فيها من المباني، والسيّارات، والطائرات، ووسائل النقل والانتقال، وأمثال ذلك، ولكن فلنسأل أنفسنا: كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من العلم؟

لا شكّ في أنّ كلّ عالم وضع في بناء هذا الصرح حجارة، وكلّ عالم قام بتجربة وكرّسها وقدّمها، فاجتمعت هذه التجارب بعضها فوق بعض، ووُضعت هذه الحجارة بعضها فوق بعض، حتّى وصل العلم إلى ما وصل إليه. لا يستطيع أحد أن يقول: إنّ استفادتنا من الكهرباء في مكبّرات الصوت، أو سيّارتنا، أو في وسائل الإعلام، أو في تدفئتنا، أو في تبريدنا، أو في الوسائل التي نستفيد منها، هو عمل شخص واحد، بل إنّ آلافاً من الناس سعوا وجمعوا تجاربهم ووضعوها إلى جانب بعضها بعضاً حتّى وصل العلم إلى هذه الدرجة. فإذاً، نحن في تمتّعنا بحضارتنا نستفيد من إنتاج آلاف من العلماء الذين سعوا وأنتجوا في هذا الحقل.

وهكذا، يعيش معنا وإلى الأبد كلّ من وضع صخرة في بناء صرح العلم، وكلّ من قدّم تجربة في تكوين مقام العلم، وهكذا في الخلق، والدين، والقوانين، والأدب وفي التجارب البشريّة جميعها.

•الخير والشرّ: بقاءٌ وفناء
ربّما يقول بعضهم: إنّ الشرور أيضاً تكاملت، هذا صحيح، ولكنّها سوف تموت، بأيّ دليل؟ لأنّ الشرور ليست في هذا العصر تجربة فريدة من نوعها؛ فهي ظهرت عشرات المرّات في تاريخ البشريّة، ونمت وتكاثرت وبلغت القمّة ثمّ انهارت أو أدّت إلى انهيار الحضارة البشريّة، وبدأ الإنسان يجرّب من جديد ويبني من جديد. فالشرور أيضاً بُنيت على أكتاف أهل الشرّ، ولكنّها لن تدوم، ولن يبقى إلّا الخير وما هو في صالح الإنسان في جوانب الوجود جميعها.

فكلّ شيء ينسجم انسجاماً واقعيّاً مع الإنسان ومع مصالحه، يبقى ببقاء الإنسان ويخلّد بخلوده. وكلّ شيء لا ينسجم مع الإنسان انسجاماً واقعيّاً، يبقى مدّة ثمّ يموت وينتهي، وهكذا. والسبب في ذلك، أنّ الفكرة التي يعطيها الإسلام عن الكون أنّه مجموعة سائرة نحو الحقّ والخير والكمال، أليس هذا ما يقوله القرآن: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)، و﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: 55)! هذه المجموعة من أجزاء الكون التي تتحرّك وتنتج وتفعل وتؤثّر وتتفاعل وتثمر، تمشي وتسير كلّها نحو الحقّ والخير.

•مواكبة العالم
فكلّ شيء في العالم يمشي نحو الخير، فإذا كنتَ في عملك خيّراً، فسوف تكون مواكباً مع الكون؛ يعني عملك الخيّر يكون مثل بذرة في أرض صالحة تنمو وتثمر؛ ولكنّ عمل الشرّ في مزرعة الكون غير منسجم مع هذه المزرعة؛ لأنّه يموت، وعندما يموت، تموت جهود صاحبه، ويموت ذكره معه. أمّا عمل الخير في أيّ حقلٍ من الحقول، فهو منسجم متناسب مع مزرعة الكون؛ لأنّه عمل إيجابيّ صدر لوجه الله، وفي سبيل الله، وهو عمل متناسب مع العالم، يخلّد بخلود العالم، ويواكب موكب العالم وقافلته: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد: 17).

•الطريق نحو الخلود
انطلاقاً من هذا الكلام، نحن نعتقد أنّ هذه السورة والتعاليم القرآنيّة تعطينا درساً مفاده:
أيّها الإنسان الذي تحبّ نفسك، وتحبّ الخلود، وتريد أن تبقى طيّب الذكر خالداً في الدنيا والآخرة، اسلك سبيل الخير في جوانبه جميعها، صغيراً كان الخير أو كبيراً، هذا هو طريق البقاء وطريق الخلود.


(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر، ج10 - بتصرّف.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع