صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

قصة: الغرفة 305

هلا ضاهر برق

 

في لحظة شعرت أنّني خسرت كل شيء، عندما وصلنا إلى بركة كونين حيث وجدت عدداً كبيراً من أبناء القرية، ودون إيعاز من أحد، يجلسون بطريقة عجيبة داخل السيارة التي سارعت لأحجز بداخلها مكاناً لي ولأمي. وفجأة، التفت السائق في كل الاتجاهات قبل أن ينعطف نحو اليمين، ثم انطلق مثل الريح.

"لا خيار أمامنا سوى المتابعة سيراً على الأقدام"، قالت أمي بلهجة حاسمة لا تقبل النقاش. إنّها تجربة مثيرة ومقلقة بالنسبة لي، فالمسافة مئات الكيلومترات، ولكنني وجدت في داخلي رغبة قوية بأن أفعل شيئاً، في هذه الحرب القاسية.
بدت الطريق موحشة كأنها الصحراء. وانتظار الموت في الصحراء أصعب من الموت آلاف المرات. حتى الزّمن يختلف، فالدقيقة هي كل الزمن. كان صوت أزيز الطائرات يخلق حالة من الرّعب. أما الحرارة المنبعثة من الأرض أو المنزلقة من شمس تموز الحارقة فقد كانت تشعرني بالاختناق، حتى رائحة الهواء تختلف في هذا المكان.
لم تكن أمي أحسن حالاً مني، لكنها كانت حذرة. أما خطواتها الثقيلة فقد بدت وكأنّها تنتزع نفسها من الأرض بالقوة. وصلنا إلى تبنين، فتركنا الطّريق التّرابية لندخل في الطريق الإسفلتي العريض باتجاه الباصات المعدّة لنقل النازحين في كافة القرى، بعدما تم الإعلان عن هدنة لبضع ساعات...

خيّم الصمت. وإذا كانت الحروب تدمّر وتقتل، إلا أنّها تقرّب بين النّاس، فالأُسَر في المدينة كانت تفتح أبواب بيوتها أمام النازحين. لكنّ الحرب أبعدتني عن موعد لقاء أبي، فما زال الحزن ينتابني بسبب كلام سمعتُه من أمي في منتصف الليل بعدما أنهت مكالمة مع أبي "لن يعود من ألمانيا كما كان مقرراً فجميع الرّحلات القادمة من برلين قد ألغيت".
مسحت دمعتي بكفي وأنا أقرأ رسالته التي حفظتها "أخذت إجازتي في تموز وأحضرت لك معي هدايا كثيرة وبالأخص الحذاء الرياضي الذي طلبته مني... نعم... لقد اشتريته لك".
أعدت إغلاق الرسالة بعناية شديدة ثم وضعتها في جيبي وبقيت أحتضنها بيدي.

في اليوم الثالث والثلاثين، وفي لحظات الانتصار الكبير الذي تحقّق بالصمود الأسطوري للمقاومين، وبدماء الشّهداء الأبرار، بدت كونين غريبة المنظر، وأشبه ما تكون بذرّات تبعثرت في كل مكان. انحنت أمي تُقبّل عتبة الدار، أما أنا فقد سارعت إلى الحقل لأتفقد أعشاش الطّيور بين أغصان الأشجار والتي اعتدتُ على مراقبتها وهي تقوم ببنائها قشّة... قشّة... أنشدت عينَيَّ في كل الاتجاهات لكنني لم أجد أثراً للفراخ أو الأعشاش، لم أجد سوى بقايا خيوط وأغصان متكسرة.
هممت بالعودة إلى الدار فلمحت شيئاً براقاً على الأرض، مددت يدي واقتربت خطوة إلى الأمام وكان دوياً مفاجئاً غِبْتُ على أثره عن الوعي بعدما حاولت أن أنادي أمي، ولكني أخفقت في محاولتي... بدت الوجوه حولي قلقة مليئة بالخوف وكنت أسمع أصوات بكاء مكتوم وهمسات وأحاديث بعيدةً تارةً، وقريبةً تارةً أخرى تلعن القنابل العنقودية. بدأت أستعيد وعيي تدريجياً فالتقت نظراتي بنظرات أمي فهجَمَتْ عليَّ تقبّلني بقوّةٍ وحنان، وقالت بلهفة: "عند الصباح يعود والدك". تلك آخر كلمة سمعتها منها قبل أن أتظاهر بالنوم لأنني أدركت أنها لن تنام إلا بعد أن تطمئن لحالي...

حمل أبو أحمد علبةً قد لفّها بشريط ملوَّن وحرص أن تبقى بقربه فلم يضعها بين الأمتعة، ووقف عند باب الطائرة يراقب الركاب يتدفقون بسرعة إلى الخارج، وحاول التبسم رغماً عنه وهو يراقب لباقة المضيفات المبالغ بها وكأنهن على علم أن ولده الوحيد في المستشفى بعدما أجريت له عدة عمليات وكل ما يعرفه عنه أنه في الغرفة رقم "305". أخرج من جيبه ورقة كتب عليها عنوان المستشفى قبل أن يشير للسائق بالتوقف ثم غادر المطار وحيداً...
عند باب الغرفة كان الطبيب يحجب الجزء الأكبر من جسد أحمد. تجمد الدم في عروق الأب بسبب عبارة سمعها منه: "لن تعود كما السابق، عليك أن تتقبل وضعك الجديد" ما معنى ذلك؟ عن أي وضع يتحدث؟!

سكت الطبيب بعدما شعر بوجود أبي أحمد، والتفت نحوه ثم أشار إليه ليتقدم إلى الجهة الأخرى من السرير. خلال ثانية، التقت عيناه بعيني أحمد فوجدهما كثيرتي البوح، أمسك بيديه الصغيرتين ثم راح يشمهما ويقبلهما قائلاً: "لقد غدوتَ رجلاً"، وأعطاه العلبة. أخذ أحمد يزيل الشريط الملون عنها فوجد بداخلها الحذاء الرياضي. في تلك اللحظات تراجعت كلّ كلمات الدنيا فلم يجد كلمة تعبّر عن الموقف بعدما أزاح أحمد الغطاء الأبيض الذي فوق السرير ليرى والده قدمه المبتورة، ثم قال: "تأخرّتَ بالقدوم يا أبي".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع