نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

منازل السائرين‏: التوبة

إذا وفق السالك المريد من قطع العلائق وإزالة العوائق بهمة وقوة، وشرف لمحضر الأستاذ والمربي، فعليه أن يحصّل عدة صفات تعد من الآداب والشروط الضرورية، ليتمكن من إجابة داعي كلام المربي في سيره وسلوكه إلى الكمال.
أما قبل الوصول إلى محضر الأستاذ فلا بد له من تقليل خمسة أشياء:

أولها: الاختلاط بالناس
فإنه يشغله عن الحق ويذهله عن الموت، فليحذر بالكلية من صحبة أبناء الدنيا، وليقتصر على صحبة الصالحين الزاهدين فيها والعلماء العرفاء المحققين المذكرين بالحق ولقائه، فإن في صحبتهم بركة ورحمة وهدى وموعظة للمتقين فإن لم يجد فعليه بالعزلة والانزواء.

الثاني: التمني‏
فإنه من مواعيد الشيطان وكله كذب وزور وتوهم باطل وغرور ينسي الحق، ويسوّل الباطل ويجعل الفكر وسواساً.

الثالث: التعلق بما سوى الله‏
فإنه شرك ومن انجذب إلى الغير بعد عن الحق واستحق اللعن والطرد.

الرابع: الشبع‏
فإنه يهيج الشهوات ويغلّب البطر والأشر، ويكل الإدراك والنظر، ويسد طريق الفهم والإلهام ويطرق وساوس الشيطان والأوهام.

الخامس: النوم‏
وهو يكسل عن الطاعة ويكدّر الحواس ويحبب إلى النفس البطالة ويورث النسيان ويميت قلب الإنسان وينكسه إلى سائر مراتب الحيوانات.
واعلم أن الجوع ينفي هذه الرذائل كلها في النفس لأنه يقلل النوم، ويمل عن الخلق، ويضيق مداخل الشيطان ويصقل القلب فيرى مكائده ويسد بالتذكر باب التمني ويقطع العلائق ويهجر الباطل باجتلاء نور الحق. فليقتصر الطالب على الحقوق ويترك الحظوظ.

أما تلك الشروط التي يجب مراعاتها حين التشرف لمحضر الأستاذ فأولها:

* التوبة:

وهي أول منازل السالكين وواجبة على كل حال وفي جميع الأحوال. بمعنى أنه لا بد منها في الوصول إلى السعادة الأخروية، ومقبولة عند اجتماع الشرائط. لأن الإنسان لا يخلو عن ذنب أو هم أو غفلة أو قصور في المعرفة مجلبٌ للغنب والظلمة، محوج إلى الاستغفار عند الارتقاء إلى مقام فوقه. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"إني ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة". وإذا استمر الغين صار ريناً وطبعاً، وفسدت مرآة القلب، فلا يتجلى فيه أنوار المعارف، فتحصل الشقاوة، ويحتاج إلى صقل يمحوها فيتجلى فيه أنوار المعارف وتحصل بواسطة ذلك السعادة الأبدية، وذلك الصقل هو التوبة، وهو على نحو محو الصابون درن الثوب. قال الله تعالى: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لو عملتم الخطايا حتى تبلغ إلى السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم". وفي التوراة مكتوب: يا بن آدم لا تشتهي الموت حتى تتوب، وأنت لا تتوب حتى تموت.
والتوبة هي الرجوع إلى الله تعالى بالإرادة، كما أن الموت رجوع بغير إرادة. وهي الخروج عن الذنوب كلها للطالب. والذنوب ما يحجبك عن الله من مراتب الدنيا والآخرة. فالواجب للطالب الخروج عن كل مطلوب سواه حتى الوجود. وجودك ذنب لا يقاس به ذنب. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني لاستغفر الله سبعين مرة".

إشارة إلى هذه المرتبة. والمراد من السبعين الكثرة. لأنه صلى الله عليه وآله وسلم في كل لحظة يرتقي إلى مرتبة أخرى. والنظر إلى وجود الذات من أعظم المعاصي عند أرباب المعرفة. كما يعلم من حال إبليسي اللعين. فإذا رفع هذا الحال رفعت كل الذنوب. وقد قيل أيها العزيز إنه يجب التوبة من التوبة. وهو نفي النظر إلى الرجوع، والنظر إلى أرجاع الحق الذي ورد من مقام القهر إلى مقام اللطف، ومن مقام التبعيد إلى مقام التقريب. لهذا فلا بد للمريد من التوبة النصوح، ويكون أساسها محكماً، لأن بناء جميع الأعمال والأفعال قائم على هذا الأصل. فإذا أصيب بخلل ما، فسوف يظهر الخلل فيه في البداية، ويستتبعه الألم في النهاية.

قال بعضهم: حرمت قيام الليل ستة أشهر لذنب أذنبته، وذلك أني رأيت رجلاً بكاءً فقلت في نفسي: هذا مراء. ولهذا قال بعض الأكابر ينبغي للمريد في حال القبض التوبة والاستغفار وفي حال البسط الشكر. وقال: ينبغي للسالك أن يراعي هاتين الحالتين، وسماهما بوقوف الزمان. وقال البعض أن الوقوف الزماني عند هذه الطائفة عبارة عن المحاسبة. وقال آخرون: إن المحاسبة أن نقف كل ساعة على ما مر معنا ونحاسبه، وما هي الغفلة وما هو الحضور. فنرى أن جميعها نقصان. فنرجع إلى أنفسنا. وأعلى مراتب المحاسبة محاسبة الأنفاس ودونها محاسبة الساعات والأيام والأسابيع.

وفي العيون عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: "المؤمن الذي إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر" ولذا قال يحيى بن معاذ: "ذنب افتقر به إليك أحب إلي من طاعة أدلّ بها عليك". ويجب استعمال التوبة في جميع المقامات. ففي كل مقام من مقامات السلوك ذنوب مقارنة له. فحسنات الأبرار سيئات المقربين. وفي كتاب الحدائق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دلية مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى اشتد عليه الحر والعطش ما شاء الله فقال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فيستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته."

وفي الحدائق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
أتدرون من التائب، قالوا: لا يا رسول الله: قال: إذا تاب العبد ولم يرض الخصماء فليس بتائب، ومن تاب فلم يزد في العبادة فليس بتائب ومن تاب ولم يغير في لباسه فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير خلقه ونيته فليس بتائب، ومن تاب ولم يحفظ لسانه ولم يفتح قلبه ولم يوسع كفه فليس بتائب، ومن تاب ولم يقصر أمله فليس بتائب، ومن تاب ولم يقدم فضل قوته بين يديه فليس بتائب فإذا استقام على هذه الخصال فهو تائب.

وفي الحدائق عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة. قلت: وكيف يستر عليه. قال عليه السلام: ينسى عليه ملائكته من الذنوب ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب حين تلقاه وليس شي‏ء يشهد عليه بشي‏ء من الذنوب.

وفي الكافي عن أبي جعفر عليهما السلام قال:
إن الله أوحى إلى داوود عليه السلام إن أتيت عبدي دانيال فقل له إنك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني في الرابعة لم أغفر لك، فأتاه داوود عليه السلام فقال له ذلك. فقال دانيال: قد أبلغت يا نبي الله، فلما كان في السحر قام دانيال فناجى ربه، فقال: يا رب إن داوود نبيك أخبرني عنك مثلما قال، فوعزتك إن لم تعصمني لأعصينك ثم لأعصينك ثم لأعصينك.

وعن أبي جعفر عليه السلام: التائب من الذنب، كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ‏.

وحول الثبات على التوبة وعدم نقضها إقرأ هذا الدعاء المروي عن مولى المتقين في نهج البلاغة:
اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عدت فعد لي بالمغفرة. اللهم اغفر لي ما رأيت من نفسي ولم تجد له وفاء عندي، اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي. اللهم اغفر لي، رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ وشهوات الجنان وهفوات اللسان.

ثم اعلم أن التوبة في الحقيقة جلاء للقلب. فكما لا يكفي في جلاء المرآة قطع الأدناس والأبخرة المسودة لوجهها، بل لا بد من تصقيلها وإزالة ما حصل في جرمها من السواد. كذلك لا يكفي في جلاء القلوب من ظلمات المعاصي وكدوراتها مجرد تركها وعدم العود إليها، بل يجب محو آثار تلك الظلمات بأنوار الطاعات. فإنه كما يرتفع إلى القلب من كل معصية وكدورة كذلك يرتفع إليه من كل طاعة نوء وضياء. والأولى محو ظلمة كل معصية بنور طاعة تضادها بأن ينظر التائب إلى سيئاته مفصّلة ويطلب لكل سيئة منها حسنة تقابلها، فيأتي بتلك الحسنة على قدر ما أتى بتلك السيئة، فيكفر عن استماع الملاهي مثلاً باستماع القرآن الحديث والمسائل الدينية، ويكفر عن مس خط المصحف محدثاً بإكرامه وتقبيله وتلاوته، ويكفر عن المكث في المساجد جُنباً بالاعتكاف وكثرة الإقامة في زواياه وأمثال ذلك.


* مقتبس من كتاب بحر المعارف للعارف العابد الشهيد عبد الصمد الهمداني قدس سره.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع