أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

جعبة مقاوم‏: ليلة العرس‏

هادي قبيسي

 



القرية المتناثرة المنازل على سفح الجبل، ونوافذها التي تلتمع تحت وهج الأصيل الأرجواني، كانت على موعد مع الفرح بعد انتظار. فرغت الشوارع من الأطفال، وترك الشيوخ مقاعدهم أمام الدكاكين المغلقة الأبواب، وظلّت النسائم الباردة تداعب الأوراق الصفراء وأغصان اللوز شبه العارية حول الساحة، وكان نقر الدفوف يتردد بين الفينة والأخرى في الزواريب المقفرة. وزغاريد النسوة تخترق هدوء الشرفات والمنازل. وطول الزقاق المؤدي إلى منزل أهل العروس كان الأطفال يلعبون ويمرحون..

هبط الظلام فتحلقوا تحت أنوار النوافذ يتهامسون ويتصارخون. وتحت النور الشحيح في فناء الدار وحيث تداعى عطر الياسمينة العجوز تجمّع الشباب يتبادلون النكات، فيما علا صوت الشعر الزجلي من داخل المنزل. علي، شقيق العريس، دلف نحو الدار، حاملاً صينية كؤوس مليئة بعصير العنب... تفضلوا، هذا عنب كرمتنا... ومن الزقاق تقدّم شابان يحملان إكليلاً من أزهار الدفلى والورد الجوري الأحمر، ودخلا غرفة الإستقبال، حيث تحلّق القوم وعلا صوت الشاعر أبي هشام ذي البحة المعروفة. اقتربا من العريس، الذي علت وجهه علامات الفرح الخجول، وبدت عيناه المرحتان مغرقتين في الحياء والتأمل. علّقا الإكليل على رقبته وخرجا، لاقاهما علي... عنب كرمتنا، نعتذر لا مكان في الداخل، تفضلوا نحو الدار... كرر أبو هشام أشعاره.. يا عريس الهنا... فيما كانت أحاديث النسوة تُسمَع لحظة توقفه. كنت واقفاً بالباب، وأقبل حيدر، وإكليل الورد على صدره، مرَّ بجانبي وتبعه والده، فشممت رائحة الدفلى الدافئة، وتبعته نحو الدار، ثم دلف نحو مدخل غرفة النساء الجانبية، صاح أبو حيدر: جاء العريس، تستّرن يا نساء.. ودخل العريس وسط عاصفة من الزغاريد.

في الأثناء، كان ثمة جلبة عند باب الدار، أبصرت بعض الشباب متحلقين حول أبي حسن الذي وصل العرس متأخراً، ورأيته يهمس في أذن علي، فراح علي مسرعاً إلى غرفة النساء، وهتف بحيدر من الباب، فخرج وتحادثا همساً، أقبلت إليهما.. ماذا يحصل؟.. قال علي بصوت مخنوق : لديه عمل هذه الليلة.. لماذا؟.. ضاعت مجموعة من الشباب في الداخل، لقد وصلوا إلى الطيبة ولم يعرفوا طريق العودة، وقوات العدو تحاصر المنطقة.. وهو الوحيد الذي يعرف الطريق.. أليس ثمة أحد آخر؟.. كلا. نظرت إلى حيدر، كان مرتبكاً، غير أنه حافظ على تماسك أعصابه إلى حد ما، وضع يده على جبينه وقال: ماذا سنقول للعروس، لا أستطيع أن أكلمها أو أنظر في وجهها. حيدر.. سأذهب معك.. لا داعي سأذهب وأعود.. لن تذهب وحيداً، ورحت إلى أبي حسن، وقلت له: سأذهب معه. أقبل أبو حيدر باكياً.. إلحق بالعروس، لقد انهارت.. فأجاب حيدر: سأذهب حالاً. جاءت أم العروس باكية أيضاً: حيدر، إذهب غداً. كان حيدر قد مضى، وسط الصمت المطبق والوجوه الحائرة والدموع. تبعته وافترقنا كل إلى منزله، استبدلت ثيابي بالبدلة العسكرية، وحملت جعبتي وسلاحي، ومضيت تحت جنح الظلام إلى منزل حيدر، طرقت الباب، ففتح أبو حيدر، ونظر إلي من بين دموعه، وقال: حاول إقناعه بتأجيل مشواره إلى الغد، ليذهب صباحاً.. حسناً، حسناً، سأحاول.

دخلت غرفته، كان يلف جعبته على خصره، فلما أبصرني قال: ها قد جئت.. لقد قلت لك سأذهب وحدي.. أيعقل أن تقطع كل هذه المسافة وحيداً؟ قد تصادف كميناً في الطريق. فقال: هيا لنذهب. وأخذ بعض حبات اللوز من المطبخ، وضعها في جيبه، ومضينا. تقدمنا عبر الجلول ووصلنا القعر، ورحنا نسارع الخطو كي نعود إلى القرية قبل الصباح. وكان الغمام متفرقاً في السماء متيحاً لنور القمر الباهت تسهيل مهمتنا، وكان الأمل يحدوني بعودة حيدر في نفس الليلة إلى عرسه الذي لا يزال قائماً في انتظاره. كان يمشي صامتاً دون توقف ولا راحة، حتى وصلنا مشارف الطيبة، توقف وسألني: هل تريد أن ترتاح؟ أجبته لاهثاً: نعم، لنرتح قليلاً. جلسنا تحت شجرة بلوط، أخرج من جيبه حبات اللوز وراح يكسرها بأسنانه ويأكل حباتها، فيما تناهى إلي عبق الدفلى مختلطاً برائحة عرقه. ومضينا نحو المنزل المهجور الذي قبع الشباب فيه اليومين الماضيين.

كان منزلاً في خراج الطيبة، مهدوم السقف ومحاطاً بأشجار صنوبر عالية، حركت عتلة الأمان ووجهت البندقية إلى المنزل وتقدمنا بهدوء نتحسس الأرض بأقدامنا.. قد يكون العدو بانتظارنا هنا.. ولما اقتربت أبصرت أحمد جاثياً على الأرض وحاملاً بندقيته بكلتا يديه يتلفت يساراً ويميناً.. فناديته بصوت خافت، فعرفني ووقف قائلاً: لقد ظنناكم العدو، هل معك أحد؟ حيدر أتى بي أنا لا أعرف الطريق إلى هنا.. ناديت حيدر الذي كان قد التف حول المنزل من الجهة الأخرى، وسلّمت على الآخرين، وأعطيتهم القربة التي بقي فيها بعض الماء، ومضينا. كان الليل قد توسط، فيما كنا نقترب من خط التماس، كان الشباب: أحمد، شوقي وجهاد منهكي القوى من الجوع والعطش، فأخذ حيدر بعض متاعهم واستمر في مشيته المعتادة.. الحمد لله لم يكتشف اليهود مجيئنا، سيعود حيدر إلى عروسه، هي بانتظاره الآن على أحرّ الجمر. حين وصلنا آخر تلة قبل التماس، توقف حيدر ونظر إلي تحت ضوء القمر وقال: إعتذر عني لأهل العروس ولأهلي. نظرت في عينيه، لكنه أشاح بوجهه وأكمل المسير. تقدّم بضع خطوات ثم التفت وقال: .. اعتذر من العروس أيضاً.

تبعته واجماً تتملكني الحيرة، فيما كان يتقدم مسرعاً حتى توارى بين شجيرات الزيتون، نظرت إلى الخلف وانتظرت الشباب ولما وصلوا قلت: لنحذر قليلاً... لم أسمع كلمتي إذ دوى انفجار نثر الحجارة والتراب والأغصان.. وتبعه اطلاق نار رشاشاتٍ كثيرة، قفزنا كلٌّ إلى شجرة زيتون ورحنا نطلق النار في كل اتجاه، ولم ينسحب جنود العدو من المعركة إلا مع دنو الفجر، وبدأ القصف المدفعي يلاحقنا. ومع انقشاع الظلام كنا، نحن الأربعة، نحمل حيدر إلى القرية، فيما كان فوح الدفلى ضائعاً بين رائحة الدم والبارود.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع