نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قصة: جارة الوادي‏

ندى بنجك

 



25 أيار... عيد المقاومة والتحرير
قصة واقعية حصلت في العام 1993 في إحدى القرى المطلّة على "وادي الشهداء"


... تسكن في بيتٍ تغفو فيه ملامح الماضي الوادع. فيه الكثير من تفاصيل الدف‏ء والبساطة، مثل صواني القشّ الملوّنة المعلّقة على الجدران، والسراج، ومثل الشبابيك العتيقة التي تنْفتح على أحواض النعناع والحبق. تفاصيل كثيرة تقصّ مسيرة الخطوط التي بانت في وجهها الخمسينيّ، والتي رافقتها في معابر أيّامها... كلها عزيزة على قلبها في ذاك الداخل القروي الجميل... أما في الخارج... فإن شمس صباحاتها تطلع من قطعة الأرض الصغيرة التي تحيط بالمنزل. منها تبدأ أول خطوة لها إلى يوم جديد بعد صلاة الصبح، وفيها أُنس قلبها وعينيها بنظرةٍ إلى شجرات السّرو واللوز والزيتون، وإلى مشاتل تتنوّع على مرّ المواسم، زرعتها بيديها... وزرعت أيضاً عبقاً يتوهّج تحت التراب ضوءاً، وفوق التراب رهبةً وقداسة... هو ضريح لأحد شهداء المقاومة الإسلامية. حصلت الحكاية في ليلة ربيعية من عام 1993، الزمن زمن احتلال، والمكان قرب منزلٍ يطلّ على وادٍ يسمونه "وادي الشهداء".

كانت الساعة العاشرة ليلاً، وقت انتفضت "أم حسين" للرصاص الذي اخترق جدران بيتها، ولأصداء معركة عنيفة تحصل في الوادي. من أول صوتٍ وطلقة، أدركت أنها مواجهة بين رجال المقاومة الإسلامية وبين جنود الاحتلال الصهيوني، الذين كانوا يكمنون دوماً في تلك النقطة من الوادي. المواجهة استمرت حوالي الساعة، وهي خلف شبّاكها ترقب بقلقٍ وصلوات. كانت صيحات تكبيرٍ وشي‏ءٍ من صراخ وذهول يمرُّ إليها من الوادي، فيما نيران القنابل تومض وتلمع في عينيها، وهي تُرسل دعاءها للمجاهدين عبر الثقوب الصغيرة. حوالي الساعة، والوادي يشتعل بالمواجهة، ثم هدأت المعركة. نامت وأولادها على أمل أن تكون المواجهة قد مرّت على نصرٍ لشباب المقاومة كما تعودوا أن يشهدوا. وأطلّ الفجر بضوءٍ آخر... ها هي تُنهي صلاتها وتُسرع وأولادها إلى أقرب مطلٍّ للوادي لكي ينظروا ماذا كان يحصل. فاجأهم مشهد الجنود الصهاينة يسحبون قتلىً لهم ناحية المروحيّة الصهيونية التي جاءت لتقلّهم.. فيما على الجهة الأخرى ثمة شخص على الأرض لا يقرب منه أحد. مرّت أيام وهو على هذه الحال، فأدركت "أم حسين" أنه شهيد للمقاومة.. وقد اتخذه العدو مكمناً وطُعْماً لرجال المقاومة. في كل صباح كانت تُسرع الخُطى لتتفقد الجثمان... ومع كل صباحٍ دمعة.. تُوغل عيناها من بين أوراق الزيتون، تنظره وتهمس: "من أنت يا ولدي؟ ما اسمك ومن هم أهلك؟ هل لديك أولاد تُرى؟ هل فارقْتَ شبابك أم لا يزال في جسمك رمق الحياة؟ آهٍ.. لو أستطيع الوصول إليك لكنت أنتشلك بجفوني.. وأُداويك وأحنو عليك مثل أمّك... وأُخْفيك.. حتى تعود إلى بقية الشباب..".

ستون يوماً وهذه هي خلجات قلبها، ولحِنان صوتها يمرّ عليها الليل مؤرقاً، ويطلّ الصبح مُدْمعاً. مرّةً، قالت لولديها اللذين لا يتجاوز الواحد منهما الثانية عشرة من عمره، قالت لهما: وأنتما ترعيان الماشية في الوادي ترقّبا غفلةً للصهاينة وحاولا أن تسحبا المقاوم... سألا: كيف يا أمي وذلك المقاوم النائم مكمن لا يُفارقه الصهاينة؟ ظل المشهد عندها يُعيد نفسه إلى أن قام العدو الصهيوني بعدوانه الهمجي في تموز من العام نفسه 1993 أي بعد شهرين من المواجهة فتمكن مجاهدو المقاومة الإسلامية من سحب الجزء الذي لم يجدوا سواه من جثمان الشهيد. ولعل السبب في توزّع جثمان الشهيد يعود إمّا إلى طبيعة المكان أو إلى طبيعة المعركة، فيما عثر أبناء "أم حسين" على الجزء الباقي وهم يبحثون عنه في أنحاء الوادي فأتوا به إلى أمهم يحملونه... يومها، كان الموقف صعباً وإن كان الشهيد ليس وليدها. وكان فِعْل الأبناء أكثر من خطوة جريئة.. لأن الظروف جداً صعبة، والعملاء فضلاً عن وجود الصهاينة لا يتركون زاوية في الضيعة إلاّ وينصبون فيها عيوناً للتنصّت وللمراقبة. لكنه لطف من الإله عزَّ وجلَّ، وكرامة لا شك فيها للشهيد الذي لم يُفارق عيون العائلة الطيبة... لقد دخل عليهم، قميصاً لا يزال ينزُّ دماً وأشلاءً من هامةٍ تنضحُ عطراً، وعطراً من روح قد وصلت إلى الجنة. ولقد دخلوا به إلى إحدى الغُرف، يحرسون كل الخارج من حولهم، ينتظرون رحيل الشمس عن أكتاف الوادي، ومجي‏ء خُطى الظلام وصمته... وعندما آن الأوان، همُّوا إلى بُقعة الزيتون، حفروا قبراً مخفيّاً لجسد الشهيد غير المكتمل ودفنوه. وصار بين الزيتون غرسةً من وردٍ ودم ظلّت تحت التراب حتى حصول التحرير في أيار العام "2000".

 يومها أعلنت "أم حسين" عن الحكاية، وصارت لأشلاء الشهيد المجهولة بداية، أقاموا له ضريحاً... كتبوا اسمه وتاريخ ميلاده ومكان الشهادة... وصار الضريح مزاراً.. أوّل الوافدين الأهل الحقيقيون. جاؤوا بعد التحرير، اجتمعوا مع "أم حسين" عند الضريح يتبادلون دمع الحكاية. وبعد تلاوة القرآن وهدايا البخور والورد، أخبروها بأنهم يرغبون في أن يستعيدوا بقية الأجزاء إلى الأجزاء الأخرى التي شيّعوها ودفنوها في بلدتهم. وساعتها صار الدمع في عيني "أم حسين" جمراً والكلام ليس كلاماً، قالت لهم: "سبع سنواتٍ وهو جاري، جارُ قلبي، جارُ داري، وجار أيّامي... أتفقّده مع طلة كل شمس... أسقيه ماءً وقرآناً.. أخال طيفه بين أولادي في كل جَمْعة.. وجميعنا نصلّي للعبق الآتي من تحت الضريح في كل ليلة جُمعة.. وإن تعبْتُ يحضرني، فأجي‏ء إليه وأرتاح... فماذا تقولون؟". ... لا تزال "أم حسين" تُشعل له البخور، وتكثر الزرع من حوله. تمر بيدها على الرخامة العطرية، تهديه فاتحةً وحداءات. ولا يزال أهله يأتون من بلدتهم، يقرأون له القرآن، يبثون إليه أشواقاً وذكريات، ويتبادلون مع "أم حسين" عند الضريح دمع الحكاية.


* أم حسين: كانت طيلة فترة الاحتلال حاضنة للمجاهدين وخلال حرب تموز 2006 كانت المرأة التي تمدّ المحور بالزاد والصلاة.
* ولداها اللذان سحبا أشلاء شهيد المواجهة (عام 1993) كانا من مجاهدي المقاومة الإسلامية أحدهما استشهد خلال حرب تموز (2006) والثاني لا يزال جريحاً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع