صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

قصة العدد: مصابيح العمر


ولاء إبراهيم حمود


لملمتِ الشمس خيوطها عن عرفات الله فغادرنا خيامها نحو المزدلفة، نتأبط مع كتب الأدعية والحقائب؛ أشواقنا لصباح العيد. لجأت إلى أوراقي، أبثُّها عن ذلك النهار الجميل مشاعري، دعاءً واستغفاراً. سألتني حاجَّةٌ كانت بقربي:


أيزعجك السؤال عمّا تكتبين؟
ـ لا أبداً، إنها ذكريات هذه الرحلة الرائعة، أحتفظ بها على الورق، لأستعيدها ساعة أشاء. وانضمت إلينا حاجّةٌ أخرى قائلةً: "تركت المدرسة باكراً، لأني أكره الورق"، فقاطعتها الحاجّة الأولى وقد اكتسى وجهها ملامحَ حزنٍ شفّافٍ، أَثار فضولي: "عشقت الورق، بعد أن تلقيت ورقة واحدة، أحتفظ بها كأجمل هدايا العمر". طويت على قلمي دفتري؛ وأصغيت لحديثها الآتي من أعماق ذكرياتها: "كلما شكرته بعد هديةٍ مفاجئةٍ، كان يعدني بأجمل منها في مرةٍ قادمة. ظننتها شهادة تخرجه عندما جاءني بها يغمرني بفرحه العارم، ثمّ خلتها وثيقة زواجه، وهو يلوّح بها أمامي. وعندما حمل إليّ وثيقة ميلاد طفله الأول، أخبرني أن أوانها لم يحن بعد. وتوقفت عن انتظارها، وتوالت هداياه تشبه ما سبقها من عطور ومناديل ووثائق نجاحٍ جديد أو طفل وليد. إلى أن ختم على أعتاب انتصار تموز جهاده المقاوم. ضممت وثيقة استشهاده بشجاعة، لأنها وصلت إليّ دون يده السمراء؛ تضمني إلى دفْء قلبه المجاهد. واستطعت في غمرة افتقادي له، أن ألحظ جفاءً غريباً، من ابن أختي، صديقه الحميم، الذي وافاني بها. وعدنا إلى القرية منتصرين، وعاد ابن أختي شريك جهاده معنا دونه، وتساءلتُ طويلاً عن سرّ هروبه مني، من نظراتي المستأنسة بملامحه، فقد كانا متشابهين كقطرتيْ ماء. وخبّأتُ عتبي عليه، في طيّات حزني؛ فله مشاعره تجاه صديقه وعليَّ احترامها، لا محاصرتها بالأسئلة، وقرّبتِ الأيام عيد الأم الأول بعد غيابه، نَحَّيْتُ عن أسرتي مشاعري الحزينة، وجلست معهم على الشرفة أحتفل به. ورمقتُ نجوم السماء الصافية، بعتبٍ؛ أبحث بينها عن مصابيح العمر الآتي، وكالصغار تماماً، تساءلتُ في سرّي "أَياً منكن أيتها النجوم، تحمل روح حسام(1) مصباحاً لألتقيها في ما تبقّى من ليالي العمر"؟

وضحكت وفي سرّي أيضاً من سذاجة هذا السؤال، وخبّأت بين أصابعي دمعةً متمردة، وشدّتني نحو الباب طرقاتٌ مستعجلة، فتحته لأراه أمامي ابن أختي، وصديق حسام وقد مدّ يده إليّ بعلبةٍ خشبيةٍ جميلةٍ وبادرني: "وأخيراً وجدتها، كم كنت خجلاً منكِ يا خالتي، لقد فقدتها بعد عودتنا، في آب مباشرةً. أضناني طول البحث عنها. منذ يومين؛ رأيته في حلمي مرتدياً بذلتي التي احتفظتْ بعطر دمه ولونه. كنت أرتديها عندما حملته جريحاً قبل استشهاده. كانت في أحد جيوبها. أقسم لكِ أنها من حسام مع هذه العلبة. افتحيها أنتِ بيدكِ كما أراد"! وفتحتُها تحت أنظار الجميع المتلهفة.

طالعتني بذلةٌ عسكرية مطويةٌ؛ وورقة تغلِّف رزمة أوراق، وقد كتب عليها بخط يده الجميل الأنيق الكلمات التالية: "أثق بأنّ وصيّتي، بخط يدي، ولكِ وحدكِ يا أمي، ستكون بنظركِ أجمل هدايا الكون، فاقبليها مع قبلاتي المعتذرة لأنها ستكون الأخيرة حتماً... سامحيني أُمّاه وامنحيني حين تنهين قراءتها... رضاكِ". لم أرفع عنها عيْنيَّ اللتين أمطرتا كل أشواقهما. أدنيتها من شفتي كأنها رأس حسام، وجهه، جبينه، يداه، ولم أستفق إلا بين ذراعي ابن أختي وقد اختلطت بدمعه دموعي، لأننا عرفنا معاً في لحظةٍ أن حساماً أصرّ على أن لا ينقضي عيد الأم الأول، بعد غيابه، دون هدية... ودّعني ابن أختي ومضى، لأسهر وحدي مع وصيّةِ الشهيد، المعطرة بدمائه، حتى مطلع فجر العيد. توقفتِ الحاجّة عن الكلام. ومسحْتُ عن وجنتيَّ نثارَ تأثري. وباغتتني بسؤالها: "لم أركِ تكتبين شيئاً، ألن تعتبريها من ذكريات رحلتكِ هذه"؟ أجبتها دون ترددٍ، بعد أن عانقتُ في كيانها الجليل، أم الشهيد: "بلى؛ لئن كانت أجمل هداياكِ، فهي الآن أجملُ ذكرياتي أيضاً وسأكتبها لأنبل الأمهاتِ، تحية. ولروح الشهيد التي تطل علينا، قُبَلُ العيد، من سماء مكة، معايدة؛ هدية". وها أنذا، قد فعلتُ، وقد شهدت على ذلك مصابيح السماء فوق تلال المزدلفة.


(*) شهيد الوعد الصادق: حسام نزيه قرعوني وقد حدَّثتني عنه والدته الكثير، عن جهاده وتدينه.. وبرِّه بها وبأسرته، فكانت هذه الومضة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع