نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قصة: رجل الضوء

زينب صالح

كل ما عرفته في ذلك النهار هو أنّنا قد حققنا الوعد الذي قطعه أمين عام عزتنا بعودة الأسرى.

وتسارعت الأحداث، قوّات العدوّ حشدت عتادها، قصفت التلال والحقول، فاشتعلت النيران. أما حركاتنا فكانت مدروسة جيداً. قائد مجموعتنا يتصرف بحكمة واعية، مستمدّاً أوامره من مصدر لا نعرفه. لم تمض أيام على خروج أهل القرية من "عيتا" بعدما طلبنا منهم ذلك. ذهب "علي" في أمر ما، وصاح بمكبّر الصوت: "يا أهلنا الكرام، يا أحبّتنا، نطلب منكم الخروج من القرية لأنّها ستقصف". عرفنا يومها أن قائد العمليات قد فهم نية العدو في قصف المدنيّين، فطلب منهم الخروج، لتخلو القرية لساحة جهادنا.
هو القائد العام المدبّر، الذي يجيد فنّ رسم خطواتنا على أرض لا تتزلزل فيها قوة شبابها. وبدأت المعركة تتخذ أبعاداً أخرى. خطاب الأمين العام أوصل لنا رسالة واضحة، فليدخل العدو قريتنا، ولتصبح جناننا مقبرة بغيه..! وبدأت الملّالات تدخل، وبدأ "هو"، القائد الذي لا نعرفه، يصطادها ببراعة تدهشنا قبل أن تدميهم.
ربَّتَ الحاج علي قائد مجموعتي على كتفي ببسمة عارمة، ثم حضنني. عرفت أنه اختارني لمهمة صعبة، فضممته إليّ جيداً، وفي قلبي حسرةٌ للقاء أحد ما؛ إلى رجل الضوء الذي يحضننا جميعاً دون أن نراه. لكنّي لم أتكلّم، بل رفعت رأسي من حضنه وقلت له بابتسامة: "أنا جاهز". فقال: "مهمّتك هي استقبال ضيوفنا هناك. فاليهود يمرون بالقرب من منزل أبي محمود، وعليك أن تلقاهم بدلاً عنه"، فابتسمت، ثم قال: "ستتواصل مع القائد العام الكبير، فهو من سيتولى قيادة تحركاتك".
تفجّرت في عروقي دماء الحماس والسعادة، فأنا، وأخيراً سأتشرف بالتواصل مع رجل الضوء. ودّعت أصدقائي بكل عزم وانصرفت.
وقبل أن أصل الى المكان المقصود، بدأت أرى أفواج الملّالات تقترب...
ارتسمت فوق وجهي فرحة اللقاء بهم، فالآن، سوف أرميهم في جهنّم، وإن رموني، فبقرب الحسين أزرع روحي:..! آهٍ لذلك اللقاء!

قطع حبل أفكاري صوت الجهاز:
- "أخ مجاهد، أخ مجاهد، تمهّل... لا تضرب!"
- "لكنّهم يقتربون كثيراً وسيسحقونني"
- "انتظر".
شعرت بخوفِ ترقبٍ سرى في شراييني، لكنّي أثق به، اقتربت الملّالة الأولى أكثر، فازدادت ضربات قلبي... لكن فجأة دوّى انفجار كبير! صحت بدموعي "الله أكبر" فجاءني صوته ثانية، طالباً مني القيام بواجبي الجهادي.
مرّت ساعات وساعات قبل أن تهدأ المعركة، وقبل أن يلوذ ما بقي منهم بالفرار. أرخيت جسدي المتعب فوق تراب الأرض، وأنا أتنشق أثير الحبّ المعتق بعرق حكمته وذكائه وأُدَمْدِمُ في نفسي: "من أنت أيها البطل... آهٍ يا رجل الضوء الذي يستمد النور منك قوته!"
-"أخ مجاهد، تستطيع العودة الى حيث كنت، الله يعطيك العافية".
في اليوم التالي، قام اليهود بعملية إنزال في الحارة المجاورة. إنهم يكشفون المكان، ويقنّصون إخواننا.
-"ماذا سنفعل يا حاج علي؟" سألت قائد مجموعتي فقال:
-"ليس قبل أن يأتينا الأمر! إنهم يتمركزون في نقطة حساسة جداً، وأي حركة غير مدروسة سوف تلبسنا أثواب الشهادة جميعاً، لكنّ دماءنا لن تكون بالمجّان".
جلسنا من جديد ننتظر، نقرأ القرآن والدعاء، نسافر نحو ملكوت العرش رغم أصوات القصف التي لا تهدأ.
نظرت إلى القائد الحاج علي علّه يسعفنا، لكنّ وجهه الغارق في حيرته جعلنا نرتدي أثواب الصمت.
ثم تلعثم، وقال: "يبدو أنّنا فقدنا التواصل مع القائد العام!"
فقلت بلهفة: "فقدنا التواصل؟ هل استشهد؟!!"
فاقترب مني الحاج علي، ربَّتَ بيديه الحنونتين على كتفي، وقال: "نحن في حرب يا أخي". ثم نظر إلى الشباب وقال لهم: "هيّا يا شباب. إنها ليلة الجمعة، ألن تُسمعنا دعاء كميل يا مجاهد؟"
بدأت قراءة الدعاء. جلس إخواني قربي وحولي. لكن فجأة غطّى الدخان الأبيض وجهي، ولم أعد أرى أحداً: "يا إلهي! لقد قُصفنا!! هل استشهدت؟!!".
كدت أن أختنق بدموعي قبل أن أسمع صوت عباس يصيح باكياً: "لقد استشهد الحاج علي، لقد استشهد قائد مجموعتنا!"

هرع الشباب لإخراج جسده من بين الأنقاض... وبعد دقائق اقتربوا منّي وهم يبكون... حضنوني، لكني نسيت ألمي، نسيت أن أنظر إلى يدي التي أخرجتها بصعوبة من تحت الحجارة. فكّرت فقط بقائد مجموعتي الشهيد، وقائدي الكبير الذي يلفُّ المجهول مصيره!
مسح عباس دموعه وهو يحاول ربط يدي بقطع قماش.
وفجأة دوّى انفجار كبير من جديد، وتلاه انفجار آخر!
- "الله أكبر يا شباب! الله أكبر!"
- "لقد قُصف البيت الذي يتمركز فيه اليهود!!
إذاً فقائدنا الكبير ما زال حياً! الله أكبر!!
"
نسيت ألم يدي والدماء التي تجري، وحمدت الله على سلامته! فصاح حسين من فيض فرحته: "كان ينتظر الوقت المناسب! إنه رجل التكتيك! حماه الله! حماه الله!".
- "حاج علي، هل تسمعني! هل أنتم بخير؟!"
- إنه جهاز الشهيد الحاج علي!!
أسرع عباس، حمل الجهاز، وأجاب بلهفة: "لقد قُصفنا يا حاج، استشهد الحاج علي، وفي البيت جريح".

ابتسمت وأنا أرى عباساً يتكلم ودموع الفرح تغسل الغبار عن وجهه. ابتسمت، عرفت أنّ رجل الضوء لن يتركنا. لكنّي عرفت أيضاً أني لن أقوى على مصارعة الألم أكثر عساني أراه: "حماك الله... ليتني أراك!".
لم أره، سوى في شباط 2008!! يومها بكيت وبكيت، لا لأجل يد مبتورة، لا خوفاً من ملالة ولا ترقباً لموتٍ أو حياة، بل بكيت وأنا أدافع الحشود لاحتضان نعشه بقلبي، بعد أن كان قلبه كهفي، في زمن الولادة الجديدة لربيع أمتي.
وضعت يدي فوق النعش وأنا أمسحه بدموع وداعي وأقول بحرقة لم أعرف مثلها: "في أمان الله يا حاج عماد، في أمان الله".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع