أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

شذرات من تاريخ جبل عامل (2)

حسن ركين‏


لا بد من الحديث عن ناحية خاصة مهمة من تاريخ جبل عامل لعلها كانت السبب المباشر في تقوية عود العامليين وصلابتهم وشد أزرهم بحيث وصفهم المؤرخ محمد جابر آل صفا: ... شعباً حربياً باسلاً يهزأ بالمنايا ويرى الموت حياة خالدة تحت شفار السيوف... ويذكر في مكان آخر بأن العامليين "من أسرع الشعوب لحمل السلاح".

وهذا ما يرشدنا ويعرِّفنا على أن العاملي ثائر بطبيعته، مقاتل بفطرته، معتمد على شجاعته، ومنشأ ذلك يرجع إلى كربلاء الإمام الحسين عليه السلام، وظل يتفاعل في ظل الهيمنة الأموية والتسلط العباسي مروراً بأعتى أنواع الظلم والاضطهاد الذي مورس بحق الشيعة زمن المماليك والأيوبيين. هذا الظلم المتواصل والاضطهاد الكبير الذي تحمَّله أبناء جبل عامل بكل أنواع الصبر جعلهم دائماً على أهبة الاستعداد للتضحية والاستشهاد.

* ريادة العلماء
أما السبب الثاني والمهم في شد أزر العامليين فكان يرجع إلى العلماء وريادتهم، فرغم سوط الجلاد الذي لا يعرف الرحمة أبداً، ورغم التعسف والاضطهاد، وصولاً إلى حد قتل الأبرار من العلماء، ما نضب قلم الأعلام فيه أبداً، وما جفَّت كلمات الوعي والإرشاد. وقد تطورت الحركة العلمية والفكرية في جبل عامل عندما توافد العامليون إلى العراق وإيران طلباً للعلم. هؤلاء العلماء لعبوا دوراً كبيراً في نشر الوعي بين العامليين وبث الروح الجهادية المقاومة، ووقفوا بأنفسهم إلى جانب المجاهدين وأعلنوا مواقفهم الرافضة على مدى القرون للغزاة والمحتلين من الصليبيين وغيرهم حتى عصرنا هذا حيث نذكر من المعاصرين العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين... الذي لم يسكت أمام احتلال الفرنسيين للبنان، ومساعدة الإنكليز والفرنسيين وغيرهم لليهود للهجرة إلى فلسطين، وراسل الحكام ليلقي عليهم الحجة ويحذرهم مما يواجه الأمة من خطر، ففي رسالة له إلى الملك عبد اللَّه بن الحسين، وذلك يوم النكبة في 15 أيار على أثر انعقاد مؤتمر عمان لإنقاذ القدس، قال: "كرامة العرب الجريحة تنظر إلى مؤتمركم من مأساة لا موضع فيها للصبر. الشعب العربي يجيش بثورة ضارية، فكونوا من وراء تضحيته، يكفكم اللَّه عدوان شذاذ الآفاق...". ولم يتوان العلامة السيد عن إعلان الجهاد، في محرم الحرام 1367 هجرية، حيث طالب العرب والمسلمين بالتصدي للمشاريع الصهيونية. وعلى أثر اعتداء الصهاينة على حدود لبنان الجنوبية، وجّه سماحة العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين كتاباً إلى بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك يحثه فيه على حماية ورعاية السكان. أما المرجع الأكبر سماحة آية اللَّه العظمى السيد محسن الأمين العاملي أعلى اللَّه مقامه فقد أذاع نداء آخر للجهاد من أجل فلسطين جاء فيه:

"أيها العرب، أيها المسلمون... إن إخوانكم في فلسطين قد اقض مضاجعهم ما هم فيه من محنة وبلاء، وأسهر عيونهم وبرّح أجسامهم ما يلاقونه من كيد الخصوم، ففي كل ناحية دم وفتك وهدم وتدمير، وخوف وذعر، وفي كل مكان جرحى وقتلى وثكالى ومفجوعون، يتطلعون إليكم تطلع الغريق في لجج التيار، فلا تضنوا عليهم ببذل التافه الحقير وهم بذلوا الجليل العظيم، ولا تبخلوا عليهم بالقليل وقد بذلوا الكثير من المال والأرواح والبنين". وفي بداية الربع الأخير من القرن الماضي، برز سماحة السيد موسى الصدر، الذي رعى قسماً كبيراً من النهضة الإسلامية الواعية في جبل عامل والبقاع وبيروت، وقد تنبَّه لكل المؤامرات التي تحاك ضد المسلمين في لبنان، وتنبَّه لخطورة الوحشية الصهيونية، ومما جاء في أقواله وتنبيهاته للشعب اللبناني والحكام: "... إسرائيل طامعة في مياهنا وأرضنا، واجبنا أن نكون مقاومة قبل أن نُشَرَّد من أراضينا... الدفاع عن الجنوب يتم بالمقارعة وحمل السلاح". وهكذا لبَّى المجاهدون من أبناء جبل عامل النداء ويحفزهم نداء الإمام الخميني الراحل قدس سره في 23 آذار 1978م على أثر الاجتياح الصهيوني لجبل عامل.

* الممانعة في وجه ظلم الحكام‏
من يطالع التاريخ السياسي لجبل عامل منذ العهد المملوكي والأيوبي حتى العثماني والفرنسي قبيل الاستقلال ، سيرى أنه كانت أرضه مسرحاً لكثير من المعارك والحروب، فهي كانت مسرحاً لمعارك سجال بين العرب والصليبيين، ثم بين المماليك والصليبيين، وبعد سنة 1516م أصبح تحت الجور العثماني، وكذا في عهد المعنيين والشهابيين وغيرهم وصولاً إلى أحمد باشا الجزار وجمال باشا والانتداب الفرنسي... هذا الواقع التاريخي، جعل من العامليين يتوحدون ويتكاتفون ويرصون صفوفهم، وهذا ما قوّى عودهم وشد أزرهم، وزاد بأسهم. ومع الزمن أصبحت الممانعة والمقاومة من إرث العامليين، فمنذ القرن العاشر حتى عهدنا الحاضر تعتبر هذه الفترة فترة عنيدة في الجهاد ضد كل حركات الاستيطان التي باشرها الأوروبيون تارة في الحركة الصليبية وتارة أخرى، في حركة التبشير المسالمة في ظاهرها، بعد أن تحطمت قوتهم العسكرية. ثم ضد الاستعمار بجميع أشكاله سواء المباشر أو غير المباشر طيلة العصور الحديثة وهو مع كل ذلك كان يعيش تحت ظلم المماليك تارة والأيوبيين تارة أخرى ثم العثمانيين.

وإن ما نشهده اليوم في جبل عامل لهو أعظم شاهد على تراث هذه المنطقة الجهادي. ولا بد لنا من الإطلالة على حركة الممانعة والمقاومة عند العامليين زمن الانتداب الفرنسي، حيث ظهرت فرق المقاومة الشعبية، منها: فرقة صادق الحمزة من قرية دبعال، فرقة أدهم خنجر من النبطية، فرقة محمود الأحمد بزي من بنت جبيل، وفرقة رشيد الغصين من القنطرة، وفرقة شبلي رقا من الشهابية وغيرها من الفرق. هذه الفرق بالرغم من أنها تأسست وقامت بشكل غير منظم، إلا أنها كانت تنسق فيما بينها في كثير من الأحيان، وقد حاول الاحتلال الفرنسي أن يدس بينهم بعض العملاء لنشر الفوضى ولتحويل هذه الفرق إلى عصابات نشل وسرقة وما شابه ولكن محاولاته لم تنجح. وعمدت القوات الفرنسية بعد فشلها إلى إنشاء فرق من بعض المسيحيين موالية لها لإشعال حروب مذهبية بينها وبين الفرق المناهضة للاحتلال، حيث يقول المؤرخ مسعود ضاهر: "إنه من المغالاة القول، إن فرنسا كانت عاجزة عن القضاء على تلك العصابات المناهضة للفرنسيين، بل إن القوات الفرنسية كانت تخطط سلفاً لاستغلال أعمال طائفية استفزازية...".

في سبيل الكرامة والعزة
إن جبل عامل، هذه البيئة الصغيرة بأرضها وسكانها، المتواضعة بما وهبته لها الطبيعة، قد تميزت على غيرها من سائر بقاع العالم العربي والإسلامي في أنها عُرفت دائماً منطقة مجاهدة ومضحية قدَّمت في سبيل حريتها ودينها وشرفها وكرامتها الغالي والنفيس، ولم تبخل يوماً في دفع ضريبة الدم لتحصين العزَّة. لقد كان جبل عامل نموذجاً ومثالاً يشكِّل مفخرة للتاريخ، ومناراً للجغرافيا بكل أبعادها... وما أنتجه جبل عامل في أواخر القرن العشرين من مقاومة للاحتلال الصهيوني، وتحرير للجزء الأكبر من الأراضي المحتلة، فهذا الأمر ليس وليد الصدفة إنما هو نابع من الإخلاص وهو ديدن العامليين، ومن تعلقهم بإرثهم التاريخي الكبير المتمثل بمدرسة أهل البيت عليهم السلام وأفضل ترجمة له في هذا العصر هو طاعة الولي الفقيه دام ظله الوارف.


(1) أخبار الأعيان في جبل عامل لطنوس الشدياق، منشورات الجامعة اللبنانية 1970م.
(2) تاريخ جبل عامل لمحمد جابر آل صفا، دار متن اللغة بيروت.
(3) تاريخ جباع، علي مروة، بيروت، دار الأندلس 1967.
(4) خطط جبل عامل للسيد محسن الأمين، ط1، عام 1961م.
(5) الغرر الحسان في تاريخ حوادث الزمان لحيدر أحمد الشهابي، مصر 1900م.
(6) أحمد، العرفان، المجلد 33.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع