نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قصة قصيرة: لوجه الله..


نسرين إدريس‏


حزمتُ جعبتي، ورحت اطلب السماح من رفاق المغارة المشغولين بين مرتل للقرآن، وقارئ للدعاء، ومن يهيئ‏ طعام الإفطار لمجموعة من المقاومين الذين استقبلوا شهر رمضان بروحانية عالية..

لا أذكر أني شعرتُ يوماً ما بقشعريرة تتسرب من بدني إلى داخلي، مثلما تسربت في أول شهر رمضان يهل عليّ وأنا على المحاور، صحيح أني شاركت كثيراً في المرابطة قبل أن أقرر الالتحاق الكلي في صفوف المقاومة، غير أني لم أشارك في أية مهمة خلال شهر الصيام، والآن ها هي مهمتي الأولى عبارة عن رحلة رصدٍ ستستمر لثلاثة أيام في الداخل المحتل سأرافق فيها أحد مسؤولي المحاور الذين تشهد لهم الأيام بالشجاعة والبأس.. ربما قربه مني أربكني قليلاً، فأنا بالكاد أعرف اسمه، ولكن نظرته الهادئة طمأنتني عندما ربت على كتفي ليبلغني بموعد الانطلاق، فهيّأت نفسي إلى جانب مهمتي الجهادية لسلوكٍ روحي أجذبُ فيه روحي من أدران الدنيا، وتأكدتُ من كتيب الدعاء الصغير المخبّأ داخل الجعبة، وعلى اسم الله انطلقنا..

طوال الطريق رفض مسؤولي أن احمل أي شي‏ء من المؤونة، بل احتفظ فيها بكيسٍ على ظهره، وكنت أسير خلفه مأخوذًا بالأحاسيس الجميلة التي انتابتني وصوته يهمس بدعاءٍ هادى‏ء يحملني من بين الأشجار الوارفة والظلام الدامس إلى محراب تُضيئه شموع وتعبق فيه رائحة البخور، وتشخص عيني نحو الله فأراه قريباً أكثر من أي وقت مضى.. أشعرني كلامه القليل أني ثقيل الظل أحياناً، وطوراً أني فتى متسرّع، ونقلني حديثه المتقن إلى سطور متقدمة من اكتشاف حكمة من تآخى والأرض، وعرفت أنه يحرثُ بداخلي اليباس ليبذر فيه الزرع الطيب..

عندما أخبرته في وقتٍ كنا نستريح فيه خلف صخرة كبيرة عن لوحة خيالي التي ارتسمت مع تمتمات دعائه، رأيت دموعاً تشق طريقها بين أخاديد خديه، وجلتُ، واستوقفتني لحظات من الضياع وأنا أهيم في سؤالٍ لم أفقه جوابه؛ ما الذي أبكاه في لحظةٍ كنتُ أتوقّع أن أسمع فيها قهقهاته على خيالي؟! وساد صمتٌ طويل فيما بيننا عندما سمعتُ جوابه: : في شهر رمضان، عندما يتراءى لك محراب الصلاة، فإن أكثر ما يعبقُ به قلبك، رائحة الدّم تقطر من سيف ابن ملجم وقد قتل علياً عليه السلام عند الفجر.. صرتُ كيفما تلفتُّ أسمع صوتاً آتياً من بعيد: فزتُ ورب الكعبة:، ومسؤولي يتقدم بلا خوف يشقُّ كبد الليل، وينتزعُ المكان من خلف ستائر العتمة الحالكة..

مرّ اليوم الأول.. جلسنا على بساط من التراب الندي، وتناولنا إفطارنا المتواضع، ثم تابعنا المسير، كان كلّما قطعنا مسافة قرأ فقرة من دعاء الافتتاح أو طلب إلي أن أفعل ذلك، وكنتُ استعمل مصباحاً صغيراً أخبّى‏ء نوره بالسترة العسكرية، وإذا ما مرّت ساعتان بعد انتصاف الليل، تناولنا السحور، واستقبلنا ضوء الفجر بالابتهال إلى الله.. وصلنا إلى المكان المحدد، وعلى الرغم من المسافة البعيدة، فإن رفيق دربي لم يحمِّلني حقيبة الطعام التي كانت تربكه أحياناً.. انتهينا من الرصد، وكان قد تولّى أدق تفاصيل العملية، حفظت منه الدقة، والانتباه، وأجمل ما تعودت عليه قتل الفضول في داخلي لطول صمته.. كانت الساعات الأخيرة في نقطتنا قد شارفت على الانتهاء، عندما لمح القائد شيئاً جعله يؤخّر العودة، استغربت لذلك، واستوضحت منه، فأجابني أنه رأى تحركات مشبوهة للعدو الإسرائيلي وعملائه اللحديين، وقد تغير هذه التحركات بعض الخطوات والأهداف للمجاهدين على هذا المحور، فرأى أنه من الأفضل البقاء ليومين أو ثلاثة آخرين.. خجلتُ أن أسأله عما إذا كان عتادنا ومؤونتنا تكفي، لأني كنتُ على يقين أنه واثقُ الخطى يمشي.. كنتُ أقضي النهار ملاصقاً له، وقبل أن يحين موعد الإفطار يعطيني حصتي من الطعام ويطلب إلي أن أذهب وآكل في نقطة حددها لي بحجة أنه يجب أن نفترق، ولكن بعد الإفطار بساعتين يعود ليبقى بالقرب مني، كذلك الأمر عند الأسحار، لم أعرف أبداً ما الذي كان يقوم به، غير أن صوته ونشيج دموعه التي كانت تهزني من الداخل جعلتني ارتبكُ داخلياً في وقتٍ كنتُ أكثر ما احتاج إليه هو الهدوء..


ثلاثة أيام مرت، وكنتُ ألاحظ شحوبه الذي لم يعد قادراً على تمويهه أكثر، وكلما سألته عن السبب عزا ذلك إلى الإرهاق.. سلكنا طريق العودة وطلبتُ إليه أن يعطيني جعبته وكيس المؤونة حتى اخفف عنه، أو حتى لأطعمه، فقوته قد وهنت، لكنه بقي يسير وشفاهه تلهج بالدعاء..

كان الصمتُ بيننا يطرحُ ألف احتمال واحتمال، وأكثر ما آلمني أنه طلب إليّ أن أسير قبله، فكنتُ كلما تقدمت خطوتين استدرتُ لأطمئن عليه.. اقتربنا من نقطة اللقاء مع الرفاق، فتوقف عن السير، التفت إليه فإذا به يهوي ببطء إلى الأرض، ركضت إليه أُسنده وأَضع رأسه على ركبتي، بدأت أخفف من عتاده، وحملتُ جعبته، فطلب مني أن أسير بدونه، لأصل إلى حيث أُخبر الإسعاف الحربي عن مكانه.. كنتُ أركض دون وعي، ولا آبه إن هشّمت الأغصان المتدلية وجهي، أو غدرت حفرةٌ ما بخطواتي..

وصلتُ إلى رفاقي، وأخبرتهم عن مكانه، انطلقوا صوبه مسرعين، وأنا كنتُ أسابق الريح نحوه.. وصلنا وكان أنينه قد خفت، قام أحد الإخوة بإنعاشه، وسرعان ما بدأوا يغذّونه بمصلٍ وضعوه سريعاً في أحد شرايين يده.. سأله المسعف عن عدد الأيام التي قضاها دون طعام، فأجابه: ثلاثة أيام، كنتُ أتناول القليل من ورق الشجر.. اقتربتُ منه وسألته لماذا لم يخبرني، ولمَ لمْ يتقاسم الطعام معي، فأجاب: الجبهةُ ليست مكاناً للسلاح فحسب، كل شي‏ء فيها يعلمك درساً لا تنساه.. أنا والجبهة أصدقاء مذ كنتَ غراً، لو انك عرفتَ بذلك لهلكتَ.. تحت الكيس وإذا به ملي‏ء بورق الشجر اليابس، قبضتُ بأناملي عليها: أوتظن أنّي الآن لم أهلك؟!

- إنّما نُطعمكم لوجه الله..
- ونِعم بالله...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع