أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

عاشق علي والسيف الحيدري‏ الشهيد وائل محمود عناني‏ (الحاج حيدر)


نسرين إدريس



الاسم: وائل محمود عناني‏
اسم الأم: عائدة الحاف‏
محل وتاريخ الولادة: كونين 22 / 10 / 1978
الوضع العائلي: عازب‏
رقم السجل: 74
مكان وتاريخ الاستشهاد: شمع الحردون 26 / 1 / 2000

عند هضاب ابتسامته، تتلألأ نجوم السماء وتزهر الكواكب، وفي لمحة عينيه بريقُ ضوء القمر الممزوجِ بمدٍّ من أسرارٍ البحرِ الممتلئ أصدافاً وحورياتٍ من الجنّة.. وبين كفيه يلمعُ حدُّ حسامٍ يقطرُ دماً يكتبُ على شرايينه.. على مساماته.. في قلبه.. في كل زواياه: علي.. علي.. شقَّ وائل غمارَ الدنيا بسيفه العلوي، وعبرَ إلى الآخرة بقلبٍ مطمئن ونفسٍ سليمة.. وكان رحيله عن الحياة الفانية جميلاً كقدومه إليها.. عند أذان الفجر، صرخ وائل صرخته الأولى، وأخذته أمه بين ذراعيها تناغيه، وتداعبه، ها قد نالت ما تمنت، صبياً دعت اللَّه تعالى أن يرزقها إياه بأجواء روحانية تخففُ من وطيس الحرب والخوف، ويزرع الفرح في أحواض العمرِ الملون بالأحلام.. بين عزام ووائل وآية، صارت أماً مفعمةً بأحاسيس شفافة أعطت للدنيا بعداً آخر من السعادة، رأتهم كيف يكبرون، وآمالها الدفينة تكبر في أعينهم، كل واحد رسمت له مستقبله، وأملت أن يصل إليه.. لكنها فجأة اصطدمت بتمرد صغيرها وائل عليها، تمردٌ واعٍ جعلها تدرك أنها لن تستطيع أن تفرض عليه رأياً أو حتى مشورة، لأنه مهما حصل فإنه ينفذ ما يريد، وإن أكثر ما يمكن أن يعطيها إياه احترامه الكبير وحبه العميق لها..

مشاغب جداً، وكثير الحركة، بسمته الساحرة لا تفارق وجهه الأسمر الجنوبي، بروحه المرحة يمازح الجميع، ويلعب حتى يغفو من التعب.. كان مقرباً ومحبوباً جداً من كل أفراد العائلة والأقارب، ومنذ سن الرابعة وهو يهوى الجلوس بين الرجال الكبار ليستمع إلى أحاديثهم، وينقل بصره بين واحد وآخر ليسمع تعليقاتهم السياسية والاجتماعية، ويلزمه الصمت عندما تبدأ نشرة الأخبار فينصت إليها كأنه ينتظر أن يسمع ما يهمه. إبان الحرب، لم تستقر العائلة في لبنان بالشكل المطلوب، بل كانت تنتقل من بلدٍ إلى آخر، فمهنةُ "أبو عزام" والد وائل، والحالة الاجتماعية المرفهة التي يتمتعون بها سمحت لهم بذلك.. وإذا كان هناك أولادٌ يتأثرون كثيراً بأجواء الخارج، وتأخذهم الدنيا بزخارفها، خصوصاً إذا كانت وسائل الراحة والترفيه متوفرة بشكل كبير، فإن وائلاً كان ينظر إلى تلك نظرة ازدراء ولا مبالاة، فلم يكن يهمه أن يرتدي ثياباً فاخرة، أو اقتناء لعبةٍ غالية، أو الخروج مع أصدقائه إلى أماكن اللهو، بل رضيَ بالقليل القليل، وكثيراً ما كان يبدي انزعاجه لأخوته ووالدته عندما يشترون أشياء غالية الثمن، ويستنكر عليهم حياتهم التي تعوّدوا عليها، محاولاً تغيير الكثير من العادات وبث مفاهيم جديدة في أرواحهم.

عندما بلغ وائل سن السابعة بدأ يصلي، وبرزت على مُحياه علاماتٌ من نورٍ لم يفقه أحد تفسيرها، وذات ليلة رأى في منامه السيدة الزهراء عليها السلام وطلبت إليه أن يبلّغ والدته أنها راضية عنها، ولكن عليها أن تتحجب.. بقي وائل مدهوشاً بما رآه وسمعه، وكأن عقله الصغير لم يستوعب حمل هكذا مسؤولية، فأخبر زوجتَيْ عمَّيه بما رأى ليطلب إلى والدته أن تتحجب، وهكذا كان.. ومنذ تلك الحادثة شعر الجميع أن لوائل كراماتٍ مميزة. وإذا كان عمر المراهقة مليئاً بالأحاسيس المتناقضة بالنسبة لغيره من أبناء جيله، فقد كان بالنسبة إليه عمراً بمنتهى الوعي والمسؤولية، فقد صار وائل شاباً متزناً، واعياً، مناقشاً فذاً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مؤمناً تقياً، يقضي معظم وقته في مسجد السيدة الزهراء عليها السلام زقاق البلاط، وقد عوّد نفسه على الصلاة في زاوية واحدة، حتى صارت تعرف بزاوية الحاج وائل.. اختار وائل طريقاً معاكساً لكل التصورات، وكملاكٍ حارسٍ يتعاطى مع أهله وأقاربه، يشدد كثيراً على ارتداء الحجاب، وأداء الواجبات، ويحتاط بتعاطيه بأدق الأمور والمسائل.. وعلى الرغم من انتقاده الدائم لبعض العادات التي كانت طبيعية في عائلته، إلا أنه لم يكن متعصباً مؤذياً، بل حنوناً رؤوفاً، متسامحاً، يطلبُ باستحياء ومودة، ولم يتحدث لغواً قط، بل حديثه عبارة عن دستورٍ لحياة الأتقياء، كل حركاته وسكناته وكلماته رسائل اختزنتها ذاكرة أهله وأقاربه، رسائل مبهمة لم يستطيعوا قراءة حقيقتها إلا عندما لونها دمه الطاهر النقي..

شديد الذكاء، وسريع البديهة، وصاحب مشروع محدد خطط له منذ صغره؛ الشهادة.. إلا أنه ونزولاً عند رغبة والديه، أكمل دراسته، وأنهى في المهنية العاملية اختصاص "تكييف وتبريد" على الرغم من أنه لا يحب هذه المهنة أبداً، ولكن ذلك كان تأكيداً جديداً منه لأهله على احترامه الشديد لرأيهم من جهة، ومن جهة أخرى إصراره على الاعتماد على نفسه. خصوصاً وأنه كلما أعطته والدته مصروفه وعدها أنه سيعيد لها كل ما تعطيه، ويؤكد ذلك دوماً موضحاً أن رد جميلها عليه لن يكون أبداً مادياً، بل أرقى من ذلك بكثير، شيئاً لن يخطر على بالها أبداً.. التحق وائل بالعديد من الدورات الثقافية والعسكرية، بالرغم من ممانعة والديه الناشئة من خشيتهما افتقاده، لكنه كان يناقشهما، ويحترم كل ما يقولانه، يبتسم لهما، ثم ينفذ ما هو مقتنع به. عندما قرر أن يتفرغ للعمل الجهادي، كان من الصعب بداية الأمر أن يبلغ والديه بقراره، لكنه لم يجد بداً من ذلك، ففعل ذلك ليبقى صريحاً معهما كما ربياه، كان مطمئناً وهو يخبرهما، ويعرف أنه من الصعب جداً تقبُّلهما للموضوع.. لكن قراره كان نهائياً ولم يتراجع عنه، لأنه الهدف الوحيد الذي عاش لأجله.. لم يُعطِ وائل مساحة لنفسه، فكل شي‏ء للعمل، ولم يعتبر أي شي‏ء يقتنيه شيئاً خاصاً به، بل لحزب اللَّه.. كثيراً ما يثير التساؤلات حوله لهمته العالية التي لا تبرد، ومبادرته وتحمله المسؤولية، مثلما أثار عشقه لأمير المؤمنين علي عليه السلام حفيظة الجميع فكيفما تلفت وشفاهه تلهج "أنا حبي علي وغرامي علي"، وأينما ذهب يكتب "علي" ويحفر على الجدران وعلى الخشب سيف "علي"، غرفته مليئة بالصور والشعارات لأمير المؤمنين، وإذا أراد أحد من رفاقه أن يستفزه يأخذ شيئاً من هذه المجموعة التي كانت عنده أغلى من كنوز الدنيا، ففي أحد المرات أخذ أحد رفاقه سيفاً كان حفره وائل بنفسه، ويحتفظ ويعتني به بشكل ملفت، فما أن دخل غرفته ولم يجد السيف حتى جنّ جنونه، وذهب في منتصف الليل إلى بيت صديقه ليستعيده وثبته بمسمار على المكتبة حتى لا يفقده مرةً أخرى..

على دفاتر هاتف البيت، ودفاتر هواتف الأقارب كان وائل يكتب اسم "علي" ويرسم السيف، ويذيِّل الصفحة بوصية صغيرة ثم يوقِّع باسم "الشهيد وائل عناني"، وقد أهداه شقيقه عزام نجوماً متوسطة الحجم ولاصقة فوسفورية اللون، فما كان منه إلا أن ثبتها على سقف غرفته وكتب بها "حيدر"، فإذا أطفأ الضوء لينام عكست النجوم عشقه العلوي على وجهه.. غيابه عن البيت أصبح شبه مستمر بعد تفرغه للجهاد لأنه كان يصر على البقاء في المحاور، وينتظر بشغفٍ أن توكل إليه مهمة، وإذا وعد بعمل ما واستثنوه لمصلحة ما منه، يبكي كالأطفال الصغار.. وعند عودته إلى المنزل، تستقبله أمه المشتاقة بلهفة وحنان، وتشمّ من عنقه رائحة التعب والجهاد، فيخفف عنها، ويعوضها عن الأيام التي مرت وهو عنها بعيد، ويجالس أخته الصغرى يلاعبها ويضحك معها، وينسى كل همومه وتعبه عندما تشرق بسمة والدته أمامه وهي تترضى عليه.. في البيت، يلتزم وائل بطقوس البيت وعاداته، وبين رفاقه يصبح على سجيته، يتصرف بفطرته الطاهرة بعيداً عن "بروتوكلاتٍ" كان ملزماً بها، وهذا يعكس مدى احترامه العميق للمكان الذي يتواجد فيه، وتعامله بأخلاق رفيعة وتكيُّفه السريع مع الأجواء المحيطة به حتى لا يشعر أحد أنه متميز عنه.. أحاط وائل نفسه بسرية وغموض كبيرين، فلا أحد يعرف ما يجول في خاطره، فكانوا ينظرون إليه كأنه شي‏ء مبهم، شخصٌ مختلفٌ، وما زاد في غموضه استشهاد الشهيد عبد الرسول (علي زهري) ورفاقه، فضاقت الأرض عليه، وزاد صمته وارتسمت الكآبة على محياه، وقد أخبر أمه يوماً قصة شاب مجاهد بقي يأكل من أوراق الشجر ثلاثة أيام، فاقشعر بدنها لهذا الخبر وهي تتمتم: "اللَّه يعين قلب أمه"..

بعد استشهاد ابنها عرفت أن ذاك الشاب كان ابنها عندما عاد وحيداً من المجموعة التي استشهد فيها عبد الرسول ورفاقه.. عندما ودعها، رأت نوراً غريباً يشرق من وجهه، ظنت بادئ‏ ذي بدء أنها تتخيل ذلك، ولكنها كلما حدقت أكثر ازداد النور وضوحاً، رأته يودع مجموعته الغالية من صور الأمير، من السيف المعلّق على مكتبته.. طلب مسامحتها وذهب.. قبل استشهاده بليلة واحدة رأى أمير المؤمنين عليه السلام في منامه وهو ينتقي جنوده، وبقي هو جانباً ينظر بحسرة لأنه لم يختره، إلا أن الأمير عليه السلام نظر إليه وابتسم بوجهه، وأعطاه سيفه.. نهار الأربعاء 26 شباط 2000 قامت مجموعة من المقاومة الإسلامية بعملية على موقع شمع الحردون، وقد أنهتها بنجاح، وعند الانسحاب بدأ العدو الإسرائيلي بتمشيط المنطقة، فأصيب وائل برصاصة في رأسه، وبهدوءٍ تام كبّر ثلاث مرات وسجد ثم أغمض عينيه بمنتهى الهدوء والجمال.. لقد كان وائل عناني عاشقاً صادقاً، وموالياً مخلصاً، فتلقته الملائكة قبل أن يصل إلى الأرض لتزفه عريساً علوياً في السماء، والجنان تصدح: علي.. علي..

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع