صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

دعاء الافتتاح(9): وأقل يا غفور عثرتي


د. يوسف مَدَن

 

ذكرنا في الأعداد السابقة تسعة مبادئ من قِيَم السلوك الواردة في دعاء الافتتاح [الدعاء المرويّ عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف] باعتبارها منظومة في توجيه السلوك بين العبد وخالقه. وفي هذا العدد، نشرح المبدأ العاشر والحادي عشر.


* المبدأ العاشر: صراع ذو وجهين
في هذا المبدأ، وجهان للصراع النفسيّ، هما: حلّ الصراع الداخليّ والاستعلاء على الشهوة.

الوجه الأوّل: صراع له علاقة بسيطرة الذنوب على الفرد، ورغبته في التحرّر منها.
قال عجل الله تعالى فرجه الشريف: "وأقل يا غفور عثرتي". وذكر في مكان آخر من نصّ الدعاء، طلب العفو وتحريره نفسه من قبضة الذنوب وتأثيراتها النفسيّة حينما قال: "إنّ عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وصَفحك عن ظلمي، وسترك عن قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي". فالنصّان -بشكل واضح- دعوة علنيّة لطلب مغفرة الله، ورفع ضغوط الزلّات والخطايا والمعاصي عن نفسه، وما تخلّفه فيها من مشاعر الإثم والإحساس بالضعة والحقارة.

ومشكلة هذا النوع من الصراع الداخلي، أنه إذا ما أراد المرء التوبة، وتخليص ذاته من الذنوب وضغوطاتها، فإنّه سيُواجَه، بلا شك، بقوّة من داخل ذاته، تعرف بـ"الرواسب النفسيّة" الراكدة، التي تتحرّك لا لمنع التغيير فقط، وإبقاء النفس تحت سيطرة الانحراف، والسلوك العصابي، وإنّما كذلك لتعذيب الذات وإضعاف علاقتها بالله سبحانه. لكن مشيئة الله وحكمته تقتضي بدء التغيير بهذه المواجهة"(1)، ثمّ النجاح في عمليّات التغيير السلوكي التدريجي للذات.

لهذا طلب الإمام المهديّ منها [النفس] الاستعانة بالله لتجاوز هذه المهمة العلاجيّة والتربويّة، فقال: "كم يا إلهي من كربة فرّجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بلاء قد فككتها". وأول هذه الكُرَب والهموم في حسابات المؤمنين المنتظرين "هيمنة المعاصي"، ووقوعنا في صراع داخلي ملتهب بين عادات سلوكيّة جديدة وبين عادات من الماضي، مترسّبة، لمنع حركة التغيير إلى الأفضل.

الوجه الثاني: القدرة على الاستعلاء على الشهوة.
هذا المبدأ يجسّد الوجه الثاني لمبدأ حلّ الصراع النفسي. فإذا ما أصبح الفرد ضحيّة لحالات من الصراع (متفاوتة القوة) فالمطلوب العمل على تطبيق مبدأ الاستعلاء على الشهوة للسيطرة عليها في خطوة علاجيّة جادّة، مخلصة وشجاعة. ويقصد بهذا المبدأ أن يستثمر قدراته العقليّة، ومكوّناته الأخلاقيّة والروحيّة في كفّ النفس عن الاستجابة للمعاصي والذنوب، والسمو بالذات على (الشهوة) بأنواعها وإلّا أصبحت النفس فريسة لقبضة شيطانيّة جاثمة وخانقة، ولا مخرج لمأزقها هذا إلّا بعمليات (التوبة النصوح وتعديل سلوك الذات)، والاستمرار في تعلّم سلوك جديد يقبله المشرّع التربويّ الإسلاميّ.

* المبدأ الحادي عشر: التوازن
يتوزّع كيان الشخصيّة الآدميّة إلى مكوّنات وعناصر وأجزاء كانت موضع اتفاق علماء النفس وعلماء الأخلاق وغيرهم. بيد أننا في فهمنا المتواضع لهذا الدعاء لم نجد اهتماماً جامعاً لهذه العناصر والمكوّنات، وإنما لحظنا عناية نسبيّة بالجانب الروحيّ والقيميّ والانفعاليّ والاجتماعيّ. وسكتت مفردات الدعاء عن ذكر بعض المكوّنات كالجسم والعقل، على الرغم من أنّ الإشارة للمكوّن العقليّ كانت محدودة، وبطريق غير مباشر.

ومن هنا، نعتقد أن (مبدأ التوازن) هو أضعف هذه المبادئ(2) في نصّ دعاء الافتتاح. وممّا لا شك فيه أنَّ هذا المبدأ يعمـل كأحد مبادئ هذه المنظومة التي تعمل موحَّدةً في ترسيخ مفاهيم تعين الأفراد على وظيفتهم الكبرى في بناء علاقة عباديّة بين الإنسان وربّه سبحانه وتعالى. ويمكن من خلال مفردات هذا الدعاء حصر مثالين محدودين لمبدأ التوازن، حيث يقول الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: "اللهم إنِّي أفتتح الثناء بحمدك، وأنت مُسدد للصواب بمنِّك، وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة، وأعظم المتجبّرين في موضـع الكبريــاء والعظـمة"(3).

1- الرحمة والعقوبة

ويبدو التوازن في فهم الإمام المهديّ لصفتين متقابلتين في الذات الإلهيَّة هما (الرحمة والعقوبة). فالله سبحانه كما يراه الإمام المهديّ "أرحمُ الراحمين في موضع العفو والرحمة". ويقابل هذا الوصف وصف آخر كذلك بأنه "أشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة" ليتعلّم العبد بوعي ومسؤوليَّة هذا التقابل، ويبني فكره وسلوكه على هذا التوازن، فيطمع في رحمة الله وعفوه ورضاه حينما تواجهه مدلهمّات الحياة وخطوبها. ولكن، من جهة ثانية، لا ينبغي للمرء، وهو يتعلّم هذه العقيدة الإيمانيّة، أن يتراخى في القيام بأداء أفعاله التكليفيّة، ولا يستهين بأداء مسؤوليّاته العباديّة، فالله سبحانه هو كذلك (أشدّ المعاقبين) إذا ما أصرّ الإنسان بعناد على إتيان (الموبقات وفعل الحرام)، فيظلم نفسه دون مراعاة لحرمة دين الله، ومستخفّاً به، ودون حساب لقدرة الله على الانتقام والعقوبة. ويريد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تدريبنا على هذا الوعي وتحمّل مسؤوليّاته في حركة حياتنا مع الله، ومع أنفسنا، وعلاقاتنا بالآخرين.

2- الحمد والثناء

وقابل الإمام المهديّ كذلك مبدأ التوازن في مثال آخر متفرّع عن المثال الأول، حيث أثنى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف على الله سبحانه، وحَمِدَه عندما قال: "الحمد لله على عفوه بعد قدرته، والحمد لله على طول أناته في غَضَبِه، وهو قادر على ما يريد"(4). ولا يحتاج المقطع إلى مزيد من القول للتوضيح، فكلماته في سياق المعنى العامّ للمثال الأول ومرتبطة به.

ثمّة مثال تطبيقيّ خاصّ بحياتنا كبشر ومنتظرين، وهو يرتكز على قاعدة التوازن في الفعل الإلهيّ، ويشعر العباد بها ويتذوّقون حلاوتها في حياتهم الشخصيّة والعامّة على حدّ سواء، إذ أسّس الله سبحانه وتعالى عطاءه على الهبات والنعم المبهجة، ومنع الكوارث والنوائب التي تسبّب الخوف والهلع. يقول الإمام المهديّ: "كم من موهبة هنيئة قد أعطاني، وعظيمة مخوفة قد كفاني، وبهجة مونقة (بديعة) قد أراني"(5). ونفهم هذه العبارة كمثال تطبيقيّ على مبدأ التوازن بين التعزيز الإيجابيّ (العطاء والإثابة) وبين التعزيز السلبيّ أو رفع ما يؤذي الإنسان ويضرّه.


1- لمزيد من الاطلاع على موقف المشرّع الإسلامي والمعالج المسلم يمكن مراجعة كتاب "العلاج النفسي وتعديل السلوك بطريقة الأضداد"، للكاتب نفسه.
2- منظومة المبادئ التي ذكرها الكاتب ولا نزال في سياق شرح المبدأ الحادي عشر منها.
3- إقبال الأعمال، ابن طاووس، ص328.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع