اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

شباب: ممنوع... ممنوع...

ديما فواز جمعة

انتفض عن كرسيِّه غاضباً، لم يبالِ بصيحات والدته وتوسلات أخته الصغيرة، لقد فات الأوان ولم يعد يحتمل الضغوط المتزايدة!
هرول مسرعاً على الدرج والدماء تغلي في عروقه.. هي لائحة ممنوعات أرهقته فقرّر مرّة واحدة أن يحطّمها: ممنوع أن يصاحب الأكبر سناً، ممنوع أن يقود السيارة قبل أن يحصل على دفتر القيادة، ممنوع أن يتعرّف إلى أشخاص غرباء عبر شبكة التواصل الاجتماعي ومؤخراً ممنوع أن يدخّن السيجارة!

كان المطر يهطل غزيراً ويصدر طرطقات حادة على الرصيف شبيهة بدقات قلبه المتسارعة. لم يبالِ، وأكمل سيْره بخطى واثقة. لأول مرة يعرف تماماً ماذا ينبغي أن يفعل ويقول. وكم كان من الأفضل لو أنه اتخذ الموقف الصحيح منذ البداية.. حين التقى ماهر لأول مرة، ذاك الشاب العشريني الذي تعرّف إليه عبر شبكة التواصل الاجتماعي، وجد فيه كاريزما شخصية، لفتته: واثق من أقواله، حاد في طباعه، يمضي يومه متسكعاً مع الرفاق ويعيش وحده متمتعاً باستقلاليّة تامة.

تعارفا هناك، في ذاك المقهى على شاطئ البحر، على بُعد عشرات الأمتار من منزله. لقّنه أصول التّعامل بحزم مع الآخرين، كيف يشتم من يخطئ بحقه ويقابل الإساءة بأسوأ منها! هو من قدّم له سيجارته الأولى وسمح له بقيادة دراجته النارية بسرعة قياسيّة، علّمه كيف يتحدّى الأكبر سناً ويقول: "لا" بصوت مرتفع حتى لوالده..

شعر بقلبه يعتصره الألم فوقف ليلتقط أنفاسه. لم يكن يتخيّل أن الأحداث سوف تتصاعد بهذه السلبية. حذّره والده من مرافقة ماهر، وعبّر له عن مخاوفه من صحبة السوء، لكنه لم يكن يوماً يدرك أنه سيتأثر إلى هذه الدرجة. وما يؤلمه حقاً أنه لم يستمع للنصيحة وكان يعتبرها تدخلاً سافراً. رمق السماء بعينيه التائهتين وأصدر آهة صادقة من القلب قبل أن يدخل المستشفى..

وقف لثوانٍ في قسم الدخول، نفض البلل عن سترته ليستقلّ بعدها المصعد، وصل إلى الغرفة، طرق الباب بيد مرتجفة برداً وخوفاً، حين لم يسمع رداً من الداخل، فتح الباب..
وجد والده غافياً على السرير الأبيض، جثا قربه وبدأ يبكي. لم يكن يخال أن خروجه بالأمس من المنزل بعد مشادة كلاميّة حادة معه سيعقبها لقاء بارد هنا! لم يدرك حين صاح غاضباً متوعّداً بعدم العودة إلى بيته أن والده سيصاب تلك الليلة بعارض صحي وهو، ابنه البكر، الذي من المفترض أن يسعفه، لم يكن قربه..

وأخذ يتأمل ملامح والده، أمسك يده بامتنان، وقبّلها، كم حملته تلك اليد حين كان صغيراً ورفعتْه إلى الأعلى، كم مسحت على رأسه حين كان يخطئ وكم حنَت عليه حين كان يتعب، وبالأمس هي نفسها تلك اليد التي صفعته.. كيف يمكن أن يتقبل منها العطاء ولا يحتمل توبيخها حين يستحق ذلك؟

تمتم بصوت منخفض: "سامحني، أنا أخطأت بحقك.." فتح الوالد عينيه وابتسم، أردف الفتى قائلاً: "أبي، يجب أن أخبرك أمراً، أنا لم أنم ليل أمس وبقيت أفكر فيما حصل بيننا!! لقد افتقدت صوتك الشجي يتلو آيات القرآن. ولأول مرة، لم أصلّ الفجر لأنّ أمي لم تكن لتوقظني... كان يومي سيئاً للغاية، أدركت أنني ظلمت نفسي بابتعادي عنكما. وأدركت أنّكما البركة وأنني تائه دونكما، فسامحني..".

ابتسم له والده وهمس: "كنت بانتظارك، عرفت أنك حتماً آتٍ الليلة.. لأن القلب الذي يخفق بحب الله، بنيّ، لا يمكن أن يحتمل غضبه، والنفس التي اعتادت حلاوة الإيمان لا بدّ أن تتألم حين تتجرع كأس المعصية". صمت العجوز ملتقطاً أنفاسه وأردف مشيراً إلى مصحف صغير قربه: "الليلة أنت ستتلو القرآن، فقد اشتقت لصوتك يرتل آيات الرحمة ويلهج بذكر الله".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع