السيد د. علي محمد جواد فضل الله
يقول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: 77).
لقد أكّد الدين على ضرورة الاهتمام بكلا البُعدين للإنسان: الماديّ والروحيّ، وذلك عبر التوازن الخلّاق بينهما بإعطاء كلّ منهما حقّه، وأن لا يطغى أحدهما على الآخر، كي لا يختلّ نظام الحياة وسيرها التكامليّ.
* الدليل في القرآن والحديث
جاء الإسلام ليربط التكامل البشريّ وفلسفة وجود الإنسان عبر التفاعل الجدليّ الخلّاق والمبدع بين المادة والروح، وهذا ما تؤكّده:
1. الآيات القرآنيّة:
أ. قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الأعراف: 32).
ب. قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31).
2. الأحاديث الشريفة:
أ. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس منّا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه"(1).
ب. قال أحدهم للإمام الصادق عليه السلام: "والله إنّا لنطلب الدنيا، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعلى عيالي، وأتصدّق منها، وأصل منها، وأحجّ منها، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام : ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة"(2).
ج. ورد في نهج البلاغة أنّ شخصاً ذمّ الدنيا في محضر الإمام عليّ عليه السلام، فاعترض عليه الإمام عليه السلام قائلاً: "أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا الْمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا، أَتَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا؟"، إلى أن قال عليه السلام : "إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا ودَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا ودَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا ودَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا؛ مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّه ومُصَلَّى مَلَائِكَةِ اللَّه ومَهْبِطُ وَحْيِ اللَّه ومَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّه"(3).
* الانزلاق نحو الماديّات
ربطاً بما تقدّم، نجد الانحراف المعاصر -وخاصّة عند الإنسان الغربيّ- نحو الماديّات والانزلاق في متعها وزخارفها ومباهجها وما جرّ إليه ذلك من الابتعاد عن الروح واحتياجاتها والتنكّر للدين والألوهيّة، واعتبار المادّة والتجربة هي الأساس والأصل في أيّ بناء فكريّ ومعرفيّ، بالتالي، إحلال الأرض مكان السماء، والعقل محلّ الدين، والإنسان في مقام الإله، ونعرض في ما يأتي مواقف بعض العلماء في هذا الصدد:
- أعلن نيتشه "موت الإله" بمعنى فشل الأخلاق الدينيّة التي تنادي بها المسيحيّة وانتهائها.
- اعتبر مواطنه الألمانيّ الآخر فويرباخ أنّ الدين هو نوع من اغتراب الإنسان عن ذاته، وبعودة الإنسان إلى ذاته تنتفي موضوعيّة الدين ذاتيّاً.
- ذهب راسل إلى أنّ منشأ الدين والاعتقاد بوجود إلهٍ هو الخوف والضعف.
- ذهب أوغست كونت وسبنسر وغيرهما إلى اعتبار عامل الجهل هو المنشأ للدين.
- ذهب ماركس في إحدى نظريّاته إلى أنّ الدين قد وضعته الطبقة الحاكمة للطبقة المحكومة، لكي تحافظ على امتيازاتها.
الملاحظ في كلّ هذه النظريّات والأفكار أنّها ترتكز على ادّعاءات يعوزها الدليل والبرهان، بخلاف الفكر الإلهيّ المرتكز على معطيات فطريّةٍ وبديهيّةٍ في إثبات وجود الله ومعرفته.
* الذات الإنسانيّة محلّ المنظومة الدينيّة
تأسيساً على هذه المنطلقات الفكريّة والرؤيويّة للحياة والوجود، انتهى المآل بواقع الإنسان الغربيّ إلى إحلال الذات الإنسانيّة بمحوريّتها وحريّتها المطلقة والمتفلّتة من كلّ القيود والالتزامات، محلّ المنظومة الدينيّة والأخلاقيّة السماويّة، أي محلّ الله تعالى. وهذا ما أدّى بالإنسان الغربيّ -ومن سار على خطاه وارتوى من مشاربه الثقافيّة والفكريّة- إلى هذا التيه والضياع في معالجة مشكلات الإنسان المعاصر وتحدّيات وجوده بمختلف مستوياتها. لقد جعلوا الحريّة غايةً بذاتها مع أنّها يجب أن تكون وسيلةً لغايةٍ أعظم منها وهي الكمال الإنسانيّ.
* الوقوع في المتاهات
من هنا، أدّى هذا التفلّت والتحرّر من كلّ القيود والأعراف -حتّى الفطريّة منها- إلى متاهات خطيرة على الوجود الإنسانيّ نفسه وموقعه وحقوقه وكرامته بل وحتّى حريّته نفسها. ومن نماذج ذلك نظريّة "الجندرة" وما تعنيه في عمقها من مسخ للطبيعة البشريّة وقتلها وما فُطرت عليه من التمايز التكوينيّ والجبلّيّ بين الذكر والأنثى. إنّهم يريدون أن يقلبوا هذه الأحاسيس الفطريّة ويغيّروا من طبيعتها ويوجّهوها طِبقاً لمشتهياتهم ورغباتهم وغرائزهم، وهذا الانقلاب على الفطرة، الذي هو وجه من وجوه الطغيان والتألّه البشريّ، لا شكّ في أنّ له مضاعفاته الخطيرة على مستقبل النوع البشريّ وسيرورته التكامليّة التي رسمها الخالق بغية وصول الإنسان إلى مدارج كماله وسعادته ورقيّه وسكينته الوجوديّة. ومن علامات هذا الشذوذ والانحراف البشريّ ما نجده اليوم كذلك في بعض البلدان الغربيّة، كإنكلترا مثلاً، من ظاهرة الكلاب البشريّة وغيرها من الظواهر الاجتماعيّة الشاذّة، كأن يتحوّل الفرد إلى بعض أنواع الحيوانات؛ لإحساسه بأنّه متجانس معها بحسب ادّعائه، أو إحداث بعض التغييرات العضويّة في جسده؛ لأنّه منسجم مع هذا العمل فحسب، إذ قام بعض هؤلاء بإطفاء بصره وأصبح ضريراً؛ لأنّه يجد نفسه متناغماً مع هذا الحال، إلى غير ذلك الكثير من الأمثلة والنماذج الصارخة التي تدل على الوضع المتهالك والمتسافل.
* موت الإنسان
لقد ابتعدت الحضارة الماديّة بتجلّياتها المختلفة عن الله الخالق والمدبّر، وألّهَت الإنسان وقدّست العقل والحريّة بكلّ أشكالها وأنماطها، وبالتالي، ابتعدت عن اعتدال الفطرة ومنطق التكوين، ما سيودي بالإنسان وبحريّته إلى مآلات لا تُحمد عقباها، بدأنا نتلمّس-وبشكل مريب- معالمها وطلائعها من خلال ما ذكرنا من نظريّات وتمثّلات وأنماط هجينة، أخذ الناس ينساقون إلى بعضها كرهاً. وهذا سيؤدّي بدوره إلى قتل الحريّة باسم الحريّة نفسها، وإقصاء الإنسان عن مكانته العليّة والمتمايزة عن كلّ ما خلق الله سبحانه، بذريعة الحفاظ على مكانته وقدسيّة حقوقه ومكتسباته. إنّ حضارة الإنسان الغربيّ هذه، التي أعلنت موت الله، سيؤول أمرها إلى إعلان موت الإنسان: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 62).
(1) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص156.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 70، ص 128.
(3) نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 492-493.