أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

تسابيح جراح | ليلة انتظار الشهادة


لقاء مع الجريح المجاهد حسين أحمد متيرك (أبو هادي)
حنان الموسويّ


وقع الصاروخ الأوّل مخترقاً سقف الطبقة العلويّة للفيلا. كنت أترقّب ورفاقي انفجاره. ضحكاتنا كانت تعلو على صوت الطائرات وتتحدّى الخطر. نستقبل الموت بثغورٍ باسمةٍ ولا نهابه. وإذ بالصاروخ الثاني يخترق سقف المبنى، ويصيبني مباشرةً. تطاير رفاقي من ضغط الانفجار، أمّا أنا، فقد جفّف اللهيب جسدي، وغطّتني الأتربة بالكامل. ناديت رفاقي بأسمائهم، لكنّ أحداً لم يجب.

* بين ألسنة النار
بينما كنتُ أنقل عدداً من الإخوة لشقّ طريق أمام محمولةٍ، وعند وصولنا إلى النقطة الهدف، استُدعيتُ عبر جهاز اللاسلكيّ للعودة إلى نقطة هي عبارة عن رَباط "مغارة". أُبلغت فور عودتي بقيام المقاومين بعمليّة أسر جنود صهاينة في 12 تموز 2006م، وبلزوم إخلاء النقطة التي كنّا نمكث فيها.

بعد ستّة أيام، تلقّيت اتّصالاً لمغادرة نقطة العمل والعودة إلى قريتي. وعند مغادرتي الوادي برفقة ستّة مجاهدين، رصدتنا طائرة استطلاع للعدوّ الإسرائيليّ، وصرنا في مرمى استهدافها لمدّة خمس ساعات، لم نستطع خلالها التحرّك، إلى أن تعرّض الوادي للقصف بالسلاح الفوسفوريّ، الذي تسبّب بنشوب حريقٍ كبير كاد أن يلتهمنا أحياءً، فصرنا أمام موقفين: إمّا الشهادة حرقاً أو الوقوع في فخّ طائرة الاستطلاع. لطف الله تعالى أحاط بنا، إذ بعد سيل التضرّع والتوسّل، غادرت الطائرة المنطقة، وخمدت النيران حين اقتربت منّا، فخرجنا واختبأنا في جبّانة البلدة قرب أضرحة الشهداء حتّى أذان المغرب. بعدها انتقلنا إلى منزلٍ قريبٍ بعد أن رصدتنا طائرة التجسّس، وقلبت تراب الجبّانة رأساً على عقب، دون مراعاة لحرمة الأموات. صرنا ننتقل من حيٍّ إلى آخر داخل البلدة، حتّى وصلنا إلى منزلٍ مظلمٍ بتنا ليلتنا فيه. وعند الفجر أدّينا الصلاة ثم توجّهنا نحو مدينة صور التي خلت من السكّان، وهناك تفرّقنا كلٌّ إلى بلدته.

* في مرمى البوارج
التقى بي شابٌّ، ليصطحبني معه إلى بلدتي "إرزاي"، ومررنا بطريق النهر بسبب دمار جسر "القاسميّة" لكثرة الغارات الحادّة التي شُنّت عليه. اقتربنا من الخطر حين صرنا على مرمى البوارج الحربيّة. عند وصولي إلى المنزل غمرني الفرح والسرور لرؤية أهلي بعد غيابٍ طال أربعة أشهر. استرحتُ ثلاثة أيّامٍ، ثمّ توجّهت إلى العمل مع التعبئة كحارسٍ إلى أن استدعاني الإخوة، للالتحاق بالجبهة بديلاً لأخٍ أصيب في الحرب.

* القلب دليل
اضطرب قلب والدي وضجَّ قلقاً، أخبرني أنّ غيابي الطويل لم يهزّه قبلاً، احتضنته طالباً منه الدعاء، هامساً له عن مكان وصيّتي. ركبت الدرّاجة الناريّة خلف صاحبي، وتنقّلنا بحذرٍ حتّى وصلنا إلى بستانٍ قريبٍ من النقطة الهدف. اختبأنا داخله لبعض الوقت، ثمّ دخلنا إلى "فيلا" قيد الإنشاء، ووزّعنا نوبات الحراسة بيننا. وعند منتصف الليل، طُلبَ منّا إخلاء النقطة والانتشار لفرط عدد الغارات الإسرائيليّة. كنّا قد توزّعنا على السطح للمراقبة، هرعنا للنزول مسرعين حين وصلتنا الأوامر، لكنّ الصاروخ قد فاقنا سرعة، مستهدفاً الطبقة العلويّة من المبنى، لكنّه لم ينفجر. ضحكاتنا بانتظار حتوفنا لم تؤخّر الصاروخ الثاني، وميضه الذي خطف بصري سبق ارتطامه بالمبنى، فتشظّى وانهارت طبقاته، أمّا أدراجه فتكوّمت فوقي. كُبِبتُ على وجهي، وعلِقت يدي بحزام سلاحي فشُدّت إلى الخلف، والثانية أمامي لكنّي كنت شبه مدفونٍ تحت الردم. تيبّست عروقي وبقيَ مشهد تطاير رفاقي في الهواء ماكثاً بين سواد عينيّ وبياضهما.

* بانتظار الشهادة
قضيت ليلتي منتظراً الشهادة، محدّثاً ملاك الموت، ناظراً إلى الساعة في يدي، مترقّباً وقت انعتاقي من الدنيا. بقيت على هذه الحال حتّى أذان الفجر، عندها استطعت تحرير يدي من السلاح، بعد أن عاد الشعور تدريجيّاً إل أعضائي. تيمّمت عوضاً عن الوضوء، أدّيت صلاة الصبح، وناجيت صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ليعينني على الخلاص إمّا بالشهادة أو بالفرج.

عند الساعة التاسعة والنصف صباحاً، أحسست أنّ ثقلاً يضغط عليّ، عندها، أدركت أنّ أحد الإخوة يقف على الركام المنهار فوقي متفقّداً وجود أحياء. صرخت كاشفاً عن مكاني طالباً شربة ماء، فقفز سريعاً ما خفّف الضغط عن جسمي، وصار يزيل الركام حتّى وصل إلى الحائط الذي كان يسند الأدراج. فتح فتحة مقابل وجهي مناولاً إيّاي كيساً أحمي به وجهي أثناء تكسير الحائط. وصل باقي الإخوة وأزالوا الحائط رغم وجود طائرات الاستطلاع. وضعوني على لوحٍ معدنيٍّ، ونُقلت على عجلٍ إلى أقرب مستشفى. انخفضت نسبة الأوكسيجين في دمي رغم تزويدي به، وصار جلُّ همّي أن أخبر والديّ بإصابتي. وبنَفَسٍ متقطع فعلت، وبعدها انهارت قواي.

* جرحٌ وبتر
توقّف قلبي عن الخفقان في أحد المستشفيات، فنُقلت إلى مستشفى "حمّود" في صيدا، حيث كان بانتظاري طاقم طبّيّ مع أحد مندوبي مؤسّسة الجرحى عبر إسعاف للهيئة الصحيّة، فجرى إنعاشي بالصدمات الكهربائيّة. فقدت الوعي بشكلٍ كاملٍ لثلاثةِ أيّام، تخطّيت بعدها مرحلة الخطر، ونُقِلت إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة، حيث خضعت لجراحات عدّة في قدميّ بعد أن توقّف تدفّق الدم في عروقهما، فبُترت الركبتان وما فوقهما، وعانيت على أثر ذلك من فشلٍ كلويّ، فخضعت لغسل كِلى لمدّةٍ طويلة، ترافق مع آلامٍ مبرحة احتسبتها عند الله كجهاد الصبر.

مكثت في المستشفى مدّة شهرين، قام الإخوة في مؤسّسة الجرحى خلالهما بتجهيز المنزل بكلّ ما يلزمني لحياة ما بعد الإصابة. خضعت لعلاجٍ فيزيائيٍّ وركّبت أطرافاً صناعيّة ساعدتني على التحرّك باستقلاليّة. لقد احتضنتني المؤسّسة منذ اللحظات الأولى، وقدّمت كلّ الرعاية والدعم النفسي، فنحن الجرحى أعزّاء في مجتمعنا، يُنظر إلينا بعين الاحترام والتقدير، ما يثبت أنّ عطاءنا أثمر ودماءنا لم تسفك هدراً.

* زفاف العزّ
حين وصلت القرية برفقة جريحٍ آخر، أقام الأهل والأقارب زفاف العزّ لاستقبالنا. إحساسي كان ممتزجاً بالفرح والحزن، فأحبابي غاب منهم أعزّاء على القلب، رفاقٌ عاشرتهم روحي باتوا شهداء.

اقترنت بشريكة حياةٍ، اختارتني، وأقسمت أن تكون لي نِعم العون. رزقني الله منها ابنةً أرى الدنيا بعينيها، فكلّ الشكر لله أن أهداني أسرة فيها من صور المحبّة والمودّة ما يُنسي الألم والأوجاع.

* رسائل للعدو... والمقاومة
رسالتي للإسرائيليّين: رغم إصابتي وبتر قدميّ على أيديكم، سأبقى مجاهداً في وجه جبروتكم حتّى زوالكم من الوجود.

أمّا لشعب المقاومة فأقول: صمودكم الأسطوريّ في حرب تمّوز، ودعمكم للمقاومة واحتضانكم لها سيجزيكم الله أجره، وإن شاء الله ستبقون الحاضنين لها حتّى زوال الإسرائيليّين والتكفيريّين.

ولسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، تاج رؤوسنا ورأس كلّ مسلمٍ أبيٍّ وإنسانٍ مستضعف، أرسل أمواج التحيّات والشكر، من قلبٍ تلاطم الشوق فيه، طالباً أن ألتقي به يوماً لأنّه رجل المهام الصعبة. هو قائد المقاومين بحقّ، المواسي لهم بفلذة كبده، أدامه الله وأطال في عمره.


اسم الجريح: حسين أحمد متيرك.
الاسم الجهاديّ: أبو هادي.
تاريخ الولادة: 18/9/1980م.
مكان الإصابة وتاريخها: 27/7/2006م.
نوع الإصابة: بتر القدمين.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع